مزاد رقمي.. أخلاق للبيع!

في زمنٍ تُقاس
فيه الأشياء بعدد الإعجابات والمشاهدات، صار الصدق سلعة نادرة، والنية الخالصة
عملة غير متداولة، فمن الإعلانات المضلّلة إلى المحتوى المتزيّن، ومن العلاقات
المصلحية إلى الشهادات الأكاديمية المزوّرة، تتراجع القيم في سوقٍ لا مكان فيها
إلا لمن يبيع بأعلى سعر.
تقرير «Edelman Trust Barometer» لعام 2024م أشار إلى أن 64% من الناس حول العالم لا يثقون
بالإعلانات التجارية، وأن أكثر من 70% يشكّكون في صدقية المؤثرين الرقميين عند
الحديث عن منتجاتهم، وأن مصدر عدم ثقتهم في تلك الإعلانات وهؤلاء المؤثرين ارتباطاتهم
السياسية وتأثيرها على توجهاتهم.
حتى في البيئات
العملية، كشف استطلاع أجرته شركة «PwC» في الخليج
أن 46% من الموظفين يعتقدون أن الصعود المهني يعتمد على العلاقات لا الكفاءة.
هكذا، يبدو
المشهد الأخلاقي وكأنه في مزادٍ مفتوح، يبيع فيه البعض ضمائرهم باسم النجاح، بينما
تُهمّش القيم التي كانت يوماً بوصلة المجتمع.
تضليل المستهلكين
تغيّر شكل «المعاملة»
في عصر المنصات الرقمية ووسائل التواصل؛ فالنية لم تعد خفية، بل تُعرض أمام
الكاميرا، وفي بث مباشر، والإعلان لم يعد ترويجاً للسلعة، وإنما استعراض للذات.
في المملكة
العربية السعودية مثلاً، حذّرت هيئة الإعلام المرئي والمسموع في بيان رسمي، في
سبتمبر 2024م، من ترويج المؤثرين لمنتجات غير مرخّصة أو مضللة، بعد أن تصاعدت
الشكاوى من تضليل المستهلكين.
وتكرّر المشهد
ذاته في الكويت والإمارات مع صدور قوانين تنظم الإعلانات الإلكترونية وتُلزم
المؤثرين بالحصول على تراخيص مسبقة.
لكن السؤال
الأعمق: هل يمكن للقانون وحده أن يعيد ضبط البوصلة الأخلاقية؟ بحسبان أن ما يحدث
ليس مجرد تجاوزات دعائية، بل تحوّل ثقافي يجعل المصلحة الشخصية معياراً للصدق،
والربح غاية تبرر الأسلوب.
تحوّل المفاهيم
الخطورة أن
المفاهيم الأخلاقية نفسها بدأت تُعاد صياغتها، فالكذب صار «ذكاءً تسويقياً»،
والمجاملة أصبحت «مهارة تواصل»، والتنازل عن المبدأ يُسميه أصحابه «مرونة»، وكسب
المال -بصرف النظر عن مصدره- «فهلوة وشطارة»!
بحسب دراسة
أجرتها جامعة قطر، عام 2023م، فإن ما يقارب 58% من الشباب الخليجي يرون أن النجاح
في بيئة العمل يتطلب «التكيّف القيمي»؛ وهو ما يعني لدى كثيرين التنازل عن بعض
المبادئ لتحقيق المصلحة.
إنها إذن أزمة
وعي قبل أن تكون أزمة سلوك؛ حين تُشوّه اللغة الأخلاقية، يصبح الخطأ مقبولاً ما
دام مربحاً، ويغيب السؤال عن القيمة الحقيقية للفعل، وهو ما تلخصه عبارة يصلح
الاستشهاد بها هنا: «الشر لا ينتصر حين يكثر، بل حين يُعاد تعريفه على أنه خير».
في الماضي، كانت
القيم تُغرس في البيت والمدرسة والمسجد، كانت تبث من الأب والقريب والجار، اليوم
يتعلّم الجيل الجديد «الشهرة» قبل أن يتعلّم «الصدق».
تُظهر دراسات
تربوية خليجية أن الأطفال دون سن 15 عامًا يتعرضون يوميًا لأكثر من 200 رسالة
رقمية تروّج لقيم استهلاكية أو مظهرية، في مقابل غياب محتوى يرسّخ الصدق والأمانة.
في استطلاع
أجرته «هيئة الإمارات للهوية»، أعرب 78% من أولياء الأمور عن قلقهم من تغيّر
سلوكيات أبنائهم بسبب المحتوى التجاري الموجَّه، وهكذا يتكوّن جيلٌ يعرف كيف يُسوّق،
لكنه لا يعرف لماذا نبغي أن يصدق.
طريق الاستعادة
استعادة القيم
ليست دعوة وعظية، وإنما مشروع وعي اجتماعي شامل، يبدأ من المدرسة التي تُعلّم الأخلاق
التطبيقية، لا مجرد النصوص النظرية؛ ومن الإعلام الذي يُكرّم الصادقين، لا الأكثر
متابعة؛ ومن التشريعات التي تُعاقب التضليل، لا تتغاضى عنه بدعوى الحرية
الاقتصادية.
كما أن الخطاب
الديني مطالب بأن يُعيد تعريف الأمانة في واقع رقمي متشعب، ويُذكّر الناس أن الصدق
ليس رفاهية، وإنما شرط للبقاء الإنساني، قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة:
7)، وهي قاعدة تجعل من الأمانة قيمة غير قابلة للمساومة أو المصلحة،
فالمجتمع الذي يفقد صدقه يفقد احترامه لذاته، لا بناء حقيقياً دون أخلاق، ولا
ازدهار اقتصادياً يمكن أن يصمد في بيئة لا تعرف النزاهة.
لقد صارت القيم
اليوم بحاجة إلى من يشتريها بالوعي، لا بالمال؛ من يدفع ثمن الصدق بالثبات، لا
بالمكسب العابر، فالصدق لا يُباع في الأسواق، لكنه وحده الذي يُقيم السوق العادلة.
وحين تعود القيم
إلى موضعها، لن نحتاج إلى قوانين كثيرة، بل إلى ضمائرٍ تعرف أن المصلحة لا تُقاس
بما نكسب، بل بما نحفظ من إنسانيتنا.
اقرأ
أيضاً:
الخدع
الترويجية.. كيف تتخذ الشركات قرار الشراء عنك؟
ثقافة
الاستهلاك لدى الشعوب المسلمة.. كيف أصبحنا استهلاكيين لهذه الدرجة؟