معسكر الجوع.. كيف حوَّل الاحتلال التجويع إلى أداة إبادة في غزة؟

منذ بدء العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، تحوّلت أدوات الحرب من القنابل إلى السياسات الباردة، ومن التفجير المباشر إلى أدوات التجريد الصامتة، وبات الجوع، بكل ما يحمله من قسوة وألم أداة مركزية في المعركة.

لم يَعُد التجويع في غزة مجرد نتيجة طبيعية لحصار طويل أو خلل في تدفق المساعدات، بل سياسة صهيونية متعمدة تهدف لكسر إرادة المجتمع، وتقويض أي مشروع للمقاومة، وبناء وعي جماهيري محاصر بالجوع بدلاً من الحلم بالحرية.

في هذا السياق، يترك الاحتلال، ليس فقط لتدمير قدرات المقاومة، بل لإعادة هيكلة غزة سياسياً وديموغرافياً، عبر خطة مساعدات إنسانية ظاهرها الإغاثة، وجوهرها تفكيك النسيج المجتمعي، وتحويل الحاجات الأساسية إلى وسائل للابتزاز والضغط.


المجاعة تضرب غزة تزامناً مع تشديد الحصار وتضييق الخناق على السكان |  Mugtama
المجاعة تضرب غزة تزامناً مع تشديد الحصار وتضييق الخناق على السكان | Mugtama
تسير الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة نحو أسوأ ما يمك...
mugtama.com
×


الاحتلال يُعيد إنتاج صور الجوع على أنها نتيجة طبيعية لحكم المقاومة

هذه ليست حرباً على الأرض، وإنما حرب على الكرامة، وعلى الحق في الخبز دون إذلال.

الاحتلال لم يحقق أهدافه عبر آلة القتل المباشر بعد ما يزيد على 19 شهراً من المعارك، ولذلك انتقل إلى أدوات أكثر خطورة وأقل تكلفة سياسية؛ الحصار الغذائي والتجويع الجماعي، ومن منع المساعدات إلى قصف الأفران، ومن حصار الشمال إلى قوافل الإذلال في الجنوب، يتضح أن هذه السياسة مدروسة وممنهجة، وتستهدف المدنيين بالدرجة الأولى، لا القوات المقاتلة، هذا التجويع الجماعي لم يكن حادثاً عرضياً، وإنما جزء من إستراتيجية «الإخضاع الناعم»، حيث يكون الطعام بديلاً عن الطلقة، لكنه أشد أثراً على المدى البعيد.

في ظل هذا المشهد، يتحوّل الحصار إلى سياسة مركبة؛ يُمنع السكان من الخروج أو العودة، وتُحرم المناطق المنكوبة من الطعام، وتُصوَّر الطوابير الطويلة على أنها نتيجة فشل الحكم المحلي، وليس الحصار «الإسرائيلي».

ومع كل وجبة مفقودة، يتآكل الصبر، وتُسحق الكرامة، ويُؤمَل أن تضعف العلاقة بين الناس والمقاومة.


التجويع للتهجير.. نتنياهو يفضح مخططه الذي لم يعد سراً! |  Mugtama
التجويع للتهجير.. نتنياهو يفضح مخططه الذي لم يعد سراً! | Mugtama
في لقائه بمجموعة من ضباط الاحتياط، في 8 مايو 2025م...
mugtama.com
×


هندسة سياسية بقناع الإغاثة!

ضمن هذا الإطار، طُرحت الخطة الأمريكية لإغاثة غزة، التي قدمت كمبادرة إنسانية، لكنها في الواقع تمثل المرحلة الثانية من المشروع السياسي–العسكري لإخضاع غزة.

وفق مركز الدراسات السياسية والتنموية، فإن الخطة تقوم على إنشاء نقاط توزيع مركزية في الجنوب، بإشراف مؤسسة أمريكية خاصة تُقصي «الأونروا»، وتستبدل مقاولين أمنيين وضباطاً أمريكيين بالعمل الإنساني الدولي.

خطة الإغاثة الأمريكية غطاء إنساني لفرض واقع جديد وتفكيك غزة

في الميدان، ستُوزع المساعدات عبر مركبات مدرعة، وتحت رقابة أمنية مشددة، في مشهد أقرب إلى معسكرات إذلال منه إلى عمليات إغاثة، فالخطة تحوّل الغذاء من حق إنساني إلى أداة ضغط، ومن وسيلة إنقاذ إلى وسيلة لفرز السكان، وفرض الوقائع الجغرافية عبر التحكم بموقع التوزيع؛ ما يعني أن الجوع لم يُستخدم فقط كوسيلة عقاب، بل كوسيلة تهجير قسري غير معلن من الشمال إلى الجنوب.

الأخطر أن هذه الخطة لا تنتهك فقط الأخلاق، بل أيضاً القوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف التي تجرّم استخدام الحصار والتجويع كأدوات حرب ضد المدنيين، لكنها تجد دعماً سياسياً وإعلامياً كثيفاً، يُسوقها كحل إنساني بينما هي في الحقيقة جزء من إدارة الصراع، لا حلّه.

وفي ظل عجزه عن كسر المقاومة عسكرياً، يُراهن الاحتلال على تفكيك الحاضنة الشعبية التي تحيط بها، فالتجويع هنا ليس لإسقاط السلاح، بل لإسقاط المعنويات، وإشعال شرخ بين الناس والمقاومة، وعبر حرمان المدنيين من الطعام، وتصوير المقاومة كالمُعطل، يسعى الاحتلال إلى خلق حالة من الإحباط، وتحويل الأمهات الجائعات إلى أدوات ضغط سياسي، دون الحاجة لرصاصة واحدة.

الأدهى من ذلك، أن الاحتلال يُعيد إنتاج صور الجوع على أنها نتيجة طبيعية لحكم المقاومة، متجاهلاً أنه من يمنع الشاحنات، ويقصف مراكز التوزيع، ويحاصر الشمال وتُوظّف الطوابير في الحرب النفسية، وتُستخدم المجاعة كخلفية لحملات التشويه السياسي.


الجوع فخ للتصفية

ما جرى في شمال القطاع نموذج مبكر لكيفية استخدام المساعدات كسلاح، فبعد سحب بعض القوات، سمح الاحتلال بمرور جزئي لقوافل الغذاء، ثم راقبها، واستهدف من شارك فيها، واعتقل بعض العاملين في توزيعها.

ما جرى بالشمال تجربة مريرة تكشف كيف تحوّلت المساعدات إلى مصيدة

السكان تعلموا من تلك التجربة أن الطحين قد يكون مصيدة، وأن النداء الإنساني ليس نزيهاً دائماً، بل قد يخفي خلفه طائرات مسيرة وبيانات أمنية تُستخدم لاحقاً في القصف.

تراكم هذه التجارب خلق وعياً جمعياً جديداً في غزة؛ لا مساس بالكرامة مقابل لقمة، ولا إذلال تحت شعار الإنقاذ؛ لذا كان الرفض الشعبي لخطة المساعدات الأمريكية واسعاً، وخرجت أصوات من قلب المخيمات تقول: «لن نجوع ونُذل في الوقت ذاته».

ولكن، كيف يرى الفلسطينيون الخطة الأمريكية؟ بعين اليقظة والتجربة، يرى الفلسطينيون أن الخطة لا تقدم إغاثة، بل تدير سجناً مفتوحاً، حيث يُطلب منهم أن يصطفوا في طوابير تُراقب، أن يأكلوا بأمر من ضابط، وأن يشكروا اليد التي تحاصرهم لأنها منحتهم حصة غذاء، وفي العمق، تُستخدم الخطة لإعادة تعريف النكبة، لا لإنهائها؛ لا عودة، لا حقوق سياسية، لا سيادة، فقط طحين تحت السلاح.

هذا الإدراك الشعبي تحول إلى حالة وعي متقدمة، تجلت في الحملات الإلكترونية والبيانات المدنية التي رفضت الإغاثة المهينة، وطالبت ببدائل تضمن الكرامة، والحل ليس في وقف المساعدات، بل في تحريرها من السيطرة السياسية والعسكرية، وإعادتها إلى مسارها الطبيعي، كحق إنساني لا يمر عبر البندقية «الإسرائيلية».

في المحصلة، التجويع ليس مسألة غذائية، بل عملية قمع سياسي بطيء، يُراد له أن يُعيد صياغة غزة من الداخل؛ من تقسيم جغرافي، وتفكيك مجتمعي، وإخضاع نفسي، وإعادة هندسة ولاءات الناس.

فالذي يقبل بالخبز قد يقبل بالتطبيع، والذي يعتاد على الطابور قد ينسى الشارع، والذي يتراجع أمام الطحين قد يُسقط الشعار، فالاحتلال يُدير حرباً أخطر من أي عملية برية؛ لأنها لا تُصوّر، ولا تُقصف، بل تمر من خلال معبر، وتُحمل على شاحنة، وتُوقّع في غرفة مغلقة.


غزة في وجه الجوع! |  Mugtama
غزة في وجه الجوع! | Mugtama
مخطئ من يظن أن عملية تجويع أهلنا في غزة بدأت منذ س...
mugtama.com
×


الشعب الفلسطيني يرفض أن تكون لقمة العيش ثمناً للخضوع والاستسلام

لكن الناس يرون، ويشعرون، ويرفضون، ويصرخون: لسنا متسولين على أبواب الاحتلال، بل أصحاب حق، لا نريد مكرمة إنسانية، وإنما نريد وقفاً للحرب، وفتحاً للمعابر، وعدالة في الكرامة لا صدقة في المهانة.

الجوع في غزة ليس عارضاً، بل سياسة صهيونية ممنهجة، تغطّيها واشنطن، وتُسوّقها أدوات الإغاثة، والمساعدات ليست سوى غطاء لتمرير مشروع أكبر؛ تفكيك غزة سياسياً وجغرافياً، لكن الشعب الفلسطيني، الذي حوصر وقُصف وجاع، لا يساوم على كرامته، ولا يقبل أن تكون لقمة العيش هي ثمن الانحناء.

سيبقى يقول بوضوح: لا تُذلنا مرتين؛ لا بالجوع ولا بالصفقات.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة