النبي الرحيم .. مظاهر رحمته ﷺ بالعالمين

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، بهذه الآية الكريمة يُعلن القرآن الكريم أعظم صفات النبي محمد ﷺ، وهي الرحمة الشاملة، والتي لم تقتصر على بني الإنسان، بل امتدت لتشمل جميع الكائنات من إنس وجن وحيوان بل وحتى الجماد، وظهرت رحمته ﷺ في أقواله وأفعاله وتعاليمه، وهذا غيض من ذلك الفيض.

صفات المربين من خلال التربية النبوية للأولاد | مجلة المجتمع الكويتية

لقد أوصى الله تعالى الآباء بحسن القيام على تربية أبنائهم

mugtama.com

×

أولًا: رحمته بالمرأة عموما وزوجاته خاصة:

جعل النبي ﷺ من رحمة المرأة ورعايتها مظهرا من مظاهر الإيمان، وأوصى بهن خيرا، فقال: «واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا»(١)، وبيّن أن حسن معاملة المرأة دليل خيرية الرجل، فقال ﷺ: «خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي»(٢)، وبين بهديه العملي كيف يعامل الرجل زوجته، ويعدد فضلها، كما قال عن خديجة رضي الله عنها، «قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ»(٣).

إن من أعظم ما يُظهر رجولة الرجل وتمام مروءته أن يحسن عشرة زوجته، ويعاملها برفق وحنان، كما كان يفعل خيـــر الخلق ﷺ، فقد كان جميل العِشرة، دائم البِشر، يداعب زوجاته ويتلطف بهن خاصة في وقت الحيض، ويُدخل السرور إلى قلوبهن، وكان ينام مع زوجته في لحاف واحد، يُشاركها دفء المشاعر والجسد، لا يتعالى ولا يتجافى، ويُوسع عليهن في النفقة دون منٍّ عليهن، وكان يُؤنسهن ويُشعرهن بمكانتهن في قلبه، فما أروع هذه الأخلاق، وما أجمل أن يقتدي بها كل رجل، فيجعل بيته سكنًا ورحمة، ويغمر زوجته بالعطف والمودة، كما كان يفعل نبي الرحمة ﷺ.

ثانيا: رحمته بالخدم:

ما أكثر الحاجة اليوم إلى الاقتداء بأخلاق النبي ﷺ ورحمته في تعامله مع من حوله، وخاصة الخدم والضعفاء، فقد كان بأخلاقه الرفيعة يأسر القلوب، ويملك النفوس بالمحبة واللطف، والدليل الأوضح على ذلك ما فعله زيد بن حارثة رضي الله عنه، ذلك الغلام الذي فضّل البقاء في خدمة رسول الله ﷺ على الرجوع إلى أبيه وأهله!

ومن أصدق الشهادات التي خلدها التاريخ ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي خدم النبي ﷺ عشر سنوات كاملة، لم يسمع منه كلمة توبيخ واحدة، رغم صغر سنه وأخطائه وهو غلام!، فقد قال: «خَدَمْتُ رَسُولَ الله ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، وَالله مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا! وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا!»(٤)، فلنتخيل أن رجلا في مقام النبوة، مشغول بأعباء الدعوة وبناء الأمة، ومع ذلك لم يكن يغفل عن الرحمة والرفق في بيته ومع خادمه، لا يغضبه، ولا يعنّفه، ولا يجرح مشاعر من حوله لا في حضر ولا في سفر، أو جوع أو شبع، أو صحة أو مرض، أو أي تقلب مما يكون عند الناس، بقي أنس معه، ووجد منه الحنان والعطف. والأخلاق هي التي تُختبر في أحلك الظروف، فمن أراد أن يعرف معدن الناس الحقيقي فلينظر كيف يعاملون من لا يرجون منهم المنفعة، وهذا نبي الرحمة ﷺ مع خدمه، فكيف بغيرهم؟!

ثالثا: رحمته بالأطفال:

كان ﷺ رحيمًا بالأطفال، قال أنس رضي الله عنه: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»(٥)، فكان ﷺ يُلاعبهم ويُقبّلهم، ويُحسن تربيتهم، حتى إنه قد استنكر على من لا يُظهر الرحمة لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قبّل الحسن بن علي، فقال له الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا!، فقال رسول الله ﷺ: «من لا يَرحم لا يُرحم»(٦).

رابعا: رحمته بالأعداء:

فرحمة النبي ﷺ وخلقه مع الأعداء أجبرتهم على الانقياد له والاعتراف بجميل خُلقه رغم كل ما آذوه به من أقوال وأفعال، فقد قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ علَى المُشْرِكِينَ، فقالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً»(٧)، وهذا تجسيد لرحمته ﷺ حتى مع أعدائه، فما البال بغيرهم؟!

التحالفات السياسية في العهد النبوي (2) | مجلة المجتمع الكويتية

أدرك الرسول منذ هجرته أهمية القوة العسكرية في مجتمع لا يعترف بالضعفاء، ولا يقيم لهم وزنًا؛ فاتجه إلى الأخذ بأسباب القوة جميعها في عقد تحالفات متعددة

mugtama.com

×

خامسا: رحمته بالحيوانات والجمادات:

وقد وسعت رحمته الجمادات، قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يخطبُ إلى جِذْعٍ قبل أن يتخذَ المنبرَ فلمَّا اتخذَ المنبرَ وتحوَّلَ إليهِ حَنَّ عليهِ فأتاهُ فاحتضنَهُ فسكنَ، قال: «ولو لم أحتضنْهُ لحَنَّ إلى يومِ القيامةِ»(٨)، وكذلك رحمته بالحيوانات، فقد نهى النبي ﷺ عن تعذيب الحيوانات أو إيذائها بأي شكل، قال ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»(٨).

فرحمة النبي محمد ﷺ كانت شاملة وعظيمة، امتدت إلى البشر والحيوانات، الكبار والصغار، الأصدقاء وحتى الأعداء، لقد جسّد ﷺ أسمى معاني الرحمة في أقواله وأفعاله، فكان بحقّ رحمة مهداة للعالمين، وكلما زاد التأمل في سيرته العطرة يزداد الدافع إلى الاقتداء به، وأن يتصف العبد بالرحمة في تعامله مع من حوله، اقتداءً به ﷺ، ورجاء مرافقته في الجنة.
_________________________

الهوامش

١- رواه البخاري (5185، 5186)، ومسلم (47، 1468).

٢- رواه الترمذي (3895) واللفظ له، والدارمي (2260)، وابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" (154)، وصححه الألباني في صحيح الجامع 3314.

٣- رواه البخاري (3821).

٤- رواه مسلم (2309).

٥- أخرجه مسلم (4280).

٦- رواه البخاري (5997).

٧- أخرجه مسلم (2599).

٨- أخرجه ابن ماجه (1415)، والدارمي (39)، والطبراني (12/187) (12841) باختلاف يسير، وصححه أحمد شاكر في تخريج المسند 5/144.

٩- رواه مسلم، 4/622.