التمركز حول المرأة والنظام العالمي الجديد

إن دعاة حركة تحرير المرأة يدركون تماماً
الحقيقة البديهية الإنسانية البسيطة وهي أن ثمة اختلافات (بيولوجية ونفسية
واجتماعية) بين الرجل والمرأة، وهي اختلافات تتفاوت -من منظور سلوك كل منهما- في
درجات العمق والسطحية، وتعبر عن نفسها في اختلاف في توزيع الأدوار بينهما وفي
تقسيم العمل، ولكن بدلاً من أن يحاول دعاة حركة تحرير المرأة محو هذه الاختلافات
والقضاء عليها قضاء مبرماً، فإنهم يبذلون قصارى جهدهم للحيلولة دون تحولها إلى ظلم
وتفاوت اجتماعي أو إنساني يؤدي إلى توسيع الهوة بين الذكور والإناث.
أما دعاة حركة التمركز حول الأنثى،
فيتأرجحون وبعنف بين رؤية مواطن الاختلاف بين الرجل والمرأة باعتبارها هوة سحيقة
لا يمكن عبورها من جهة، وإنكار وجود أي اختلاف من جهة أخرى؛ ولذا فهم يرفضون فكرة
توزيع الأدوار وتقسيم العمل ويؤكدون استحالة اللقاء بين الرجل والمرأة، ولا
يكترثون بفكرة العدل ويحاولون إما توسيع الهوة بين الرجال والإناث أو تسويتهم
بعضهم بعضاً، فيطالبون بأن يصبح الذكور آباء وأمهات في الوقت نفسه، وأن تصبح
الإناث بدورهن أمهات وآباء.
ولعل الهندسة الوراثية ستحل كثيراً من
هذه «المشكلات» وستفتح باب التجريب اللامتناهي على مصراعيه بحيث يصبح بإمكان الرجل
أن يحمل طفلاً (وليس مجرد بطن بلاستيك)، ويمكن تجاوز مشقات الحمل نفسها من خلال
عمليات الاستنساخ المريحة، كما أن تعديل القوانين في الغرب سيتكفل بكل ما قد يتبقى
من «مشكلات» شكلية قد تضع حدوداً على عملية التجريب، إذ بإمكان الأنثى أن تتزوج من
أنثى أو من رجل حسب ما يسمونه «التفضيل الجنسي» (sexual
preference)، بل إن الأمر يمتد ليشمل الأحاسيس الجوانية
ذاتها، فالمرأة الحقيقية يجب ألا تختلف مشاعرها عن مشاعر الرجل، والرجل الحقيقي
يجب ألا تختلف مشاعره عن مشاعر الأنثى.
وتقوم هوليود أكبر آلية عرفها الجنس
البشري لنشر الأفكار وإشاعة الرؤى بدور نشط في هذا المضمار، إذ بدأت تظهر أفلام
فيها إناث يغوين الرجال، ورجال تحمر وجوههن من النساء (ولا مانع من استخدام نون
النسوة هنا، حتى نحطم حدود اللغة تماماً)، وليس الهدف من كل هذا هو توسيع آفاقنا
وتحطيم القوالب الذهنية الجامدة التي يتعامل كل جنس مع الآخر من خلالها وسجنه
فيها، وإنما هو ضرب فكرة المعيارية والإنسانية المشتركة في الصميم حتى يتم تسوية
الجميع.
ولعل العلم الحديث، بما حقق من «تقدم»
مذهل، قد يساعد في هذا المضمار بحيث يمكن للرجل أن يتناول كبسولة متمركزة حول
الأنثى فيشعر بشعور الإناث ويتم تماماً تسويته من الداخل، وتتناول المرأة هي الأخرى كبسولة متمركزة حول الذكر فتشعر بشعوره ويتم تسويتها من الداخل.
إن حركة تحرير المرأة، في نهاية الأمر
وفي التحليل الأخير، ترى أن ثمة إنسانية مشتركة بين كل البشر، رجالاً ونساء، وأن
هذه الرقعة الواسعة المشتركة بيننا هي الأساس الذي نتحاور على أساسه والإطار الذي
نبحث داخله عن تحقيق المساواة، ولذا يمكن للرجل أن ينضم إلى حركة تحرير المرأة،
ويمكنه أن يدخل في حوار بشأن ما يُطرح من مطالب لضمان تحقيق العدالة للمرأة، ويمكن
للمجتمع الإنساني، بذكوره وإناثه، أن يتبنى برنامجاً للإصلاح في هذا الاتجاه،
ويمكن لكل من الرجال والنساء تأييده والوقوف وراءه.
أما حركة التمركز حول الأنثى فهي تنكر
الإنسانية المشتركة؛ ولذا لا يمكن أن ينضم لها الرجال، فالرجل باعتباره رجلاً، لا
يمكنه أن يشعر بمشاعر المرأة، كما أنه مذنب يحمل وزر التاريخ الذكوري الأبوي، رغم
أنه ليس من صنعه، كـمـا تنكر حركـة التمركز حول الأنثى الاختلاف، ومن ثم لا مجال
للتنوع ولا مجال لوجود الإنسانية كما نعرفها.
لكل هذا لا يوجد برنامج للإصلاح في
حـركـة الـتـمـركـز حـول الأنثى ولا توجد محاولة جادة لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة أو إلى تغيير القوانين أو السياق الاجتماعي للحفاظ على إنسانية المرأة
باعتبارها أماً وزوجة وابنة وعضواً في الأسرة أو المجتمع.
وإن كان ثمة برنامج للإصلاح فسنجد أنه
يصدر عن إطار تفكيكي يهدف إما إلى زيادة كفاءة المرأة في عملية الصراع مع الرجل أو
إلى تسويتها معه؛ أي أنه في جميع الحالات ثمة إنكار للإنسانية المشتركة، ولذا
فالبرنامج الإصلاحي هو برنامج يهدف إلى تغيير الطبيعة البشرية ومسار التاريخ
والرموز واللغات.
كتاب "قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى" - شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع