القدوات في زمن الإنترنت.. بين صناعة التفاهة واغتيال الطموح

لم يعد الطفل اليوم يبحث عن قدوته في أستاذ المدرسة أو الطبيب الذي يعالج الناس أو المهندس الذي يشيّد البنيان، كما لم يعد يتتبع قصص الصحابة والتابعين الذين تربوا على يد خير خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو العلماء والمفكرين الذين شقّوا طريقهم بالجد والاجتهاد ليتركوا بصمة باقية.

فالواقع الجديد الذي فرضته منصات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها «تيك توك» و«ريلز إنستغرام»، صنع نموذجاً مختلفاً للقدوة؛ قدوة تقوم على مقاطع قصيرة لا تتجاوز ثواني معدودة، لكنها قادرة على حصد ملايين المشاهدات، وجلب أموال طائلة لأصحابها، حتى لو لم يكن في محتواها أي قيمة معرفية أو رسالة تربوية.

القدوة في ظل العالم الرقمي

هذا التحول العميق في صورة القدوة لا يمر مرور الكرام، بل يترك أثره المباشر على عقلية الأطفال وطموحاتهم، فالطفل حين يرى شاباً لم يكمل دراسته، أو آخر لا يقدم سوى محتوى ساخر أو تافه، وقد أصبح من أصحاب الملايين بفضل تلك المقاطع، يبدأ بطرح السؤال الأخطر: لماذا أدرس لسنوات طويلة وأتعب لأصبح طبيباً أو مهندساً أو حتى ضابطاً، بينما الطريق الأسرع للثراء والشهرة مفتوح أمامي عبر شاشة الهاتف؟!

هنا تكمن المعضلة، ليس في وجود هؤلاء المشاهير بحد ذاتهم، بل في غياب التوازن الذي يجعلهم يبدون للطفل كأنهم النموذج الأوحد للنجاح.

الأخطر من ذلك، أن طبيعة الفيديوهات السريعة تعيد تشكيل عقل الطفل ووعيه؛ فهي تدرب الدماغ على «المكافأة الفورية»، وتغذي نزعة البحث عن المتعة اللحظية، على حساب الصبر والمثابرة والتركيز.

وقد أثبتت دراسات تربوية أن هذا النمط من الاستهلاك المفرط للمحتوى يؤدي إلى ضعف الانتباه، وزيادة حالات فرط الحركة لدى الأطفال والمراهقين، وإلى جانب ذلك، يتعرض الطفل يومياً لأنماط محتوى لا تتناسب مع عمره، من مشاهد حميمة، إلى أغنيات صاخبة، إلى مقالب سطحية؛ الأمر الذي يربك منظومته القيمية، ويضعف مناعة الأسرة والمدرسة في توجيهه.

لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، فالإنترنت في جوهره أداة محايدة، يمكن أن يكون جسراً للمعرفة أو مصدراً للتفاهة، بعض الأطفال استطاعوا أن يجدوا فيه وسيلة للتعبير عن مواهبهم في التصوير أو التمثيل، وبعض القنوات التعليمية تنجح في تبسيط العلوم بطريقة جاذبة تفوق الكتب المدرسية، غير أن حجم الإيجابيات يظل محدوداً مقارنة بالفيض الجارف من المحتوى الفارغ، الذي يكرّس في ذهن الطفل أن القيمة الحقيقية للإنسان تقاس بعدد المتابعين لا بما يقدمه من نفع أو إنجاز.

القدوة ورد الاعتبار

النتيجة المترتبة على هذا التحول خطيرة على المدى البعيد، فالمجتمع قد يجد نفسه أمام جيل ينظر إلى الشهرة السريعة باعتبارها الغاية، وإلى العلم والعمل والالتزام باعتبارها عبئاً لا جدوى منه، جيل يرى أن القدوة ليست العالم ولا الطبيب ولا المخترع، بل «التيك توكر» صاحب ملايين المتابعين، وهنا يصبح السؤال المطروح: كيف نعيد الاعتبار للقدوة الحقيقية في زمن الإنترنت؟

الإجابة تبدأ من الأسرة، التي ينبغي أن تغرس في الطفل قيمة الجهد الحقيقي، وتشرح له أن النجاح لا يُقاس بعدد الإعجابات، بل بما يقدمه الإنسان من أثر نافع ثم يأتي دور المدرسة والإعلام، اللذين يقع على عاتقهما إبراز قصص النجاح الملهمة في مجالات الطب والهندسة والعلوم وريادة الأعمال، كي يرى الطفل أن الطريق الصعب، وإن كان أطول، أكثر رسوخاً وكرامة من الطريق السهل الزائف.

كيف نصنع القدوة؟

لقد آن الأوان أيضاً لأن ينخرط أصحاب الإنجاز الحقيقي أنفسهم في هذا الفضاء الرقمي، عبر محتوى قصير وجذاب ينافس المحتوى التافه، ويعيد التوازن لصورة القدوة، فالمعادلة ليست في منع الإنترنت ولا في محاربة «التيك توكرز»، بل في إعادة تعريف النجاح أمام الأطفال، ليكون مبنياً على قيمة العطاء لا على وهم الشهرة السريعة.

إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس تفاهة بعض المحتويات، بل تفاهة النموذج الذي يُرسّخ كقدوة في وعي الطفل، فإذا لم نتحرك لإبراز النماذج المضيئة، فقد نجد أنفسنا أمام جيل يفتقد الطموح، ويطارد السراب بدلاً من أن يصنع الإنجاز.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة