خطاب ترمب في الكنيست.. تكريس الأحادية وتهميش الحقوق الفلسطينية

د. أمجد بشكار

15 أكتوبر 2025

188

جاء خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الكنيست «الإسرائيلي»، إلى جانب تصريحاته خلال قمة شرم الشيخ، ليكشف عن انحياز واضح وغير مسبوق للمواقف «الإسرائيلية»، وابتعاد كلّي عن أي مسار حقيقي لصناعة سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط كما يدّعي، لم يكن ما طُرح في هذه المناسبات السياسية سوى محاولة فجة لتمرير أجندة «إسرائيلية» تحت غطاء أمريكي، ضمن مشهد دراماتيكي أقرب إلى المسرحية السياسية منه إلى رؤية واقعية لتحقيق السلام.

في خطابه أمام الكنيست، كرّس ترمب موقفًا شديد الانحياز لصالح دولة الاحتلال «الإسرائيلي»، حيث بدا خطابه وكأنه نُسج خصيصًا لخدمة الرواية والسردية «الإسرائيلية» دون أي اعتبار للواقع الفلسطيني أو للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

تحدث ترمب مطولًا عن الديمقراطية «الإسرائيلية» وحق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، دون أن يذكر في أي موضع من خطابه أكثر من 70 ألف شهيد ومئات آلاف الجرحى والمعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون دون أي مقوّم من مقومات الحياة، ولا عن الإبادة في غزة ولا عن الاستيطان المتسارع في الضفة الغربية، ولا عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، أو حتى عن المبادئ الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية؛ لذا لا بد من محاولة إيجاز ما تحدث به ترمب لتفكيك مضامين خطابه في 4 نقاط.

أولًا: فرض السلام بالقوة:

من أبرز الملاحظات في خطاب ترمب هو تركيزه المتكرر على مفهوم «فرض السلام»، وهو مصطلح يعكس بوضوح الطبيعة القسرية للمقاربة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، لم يكن المقصود به إنهاء الاحتلال أو الانخراط في مفاوضات حقيقية لاسترداد الحقوق الفلسطينية، بل كان يشير إلى فرض تسوية من طرف واحد على الفلسطينيين، تقوم على قبول الأمر الواقع، وتجريم أي شكل من أشكال المقاومة.

ولا شك أن هذه الرؤية تفرغ مفهوم «السلام» من جوهره، وتحوله إلى أداة قمع تُستخدم لنزع حقوق شعب واقع تحت الاحتلال، وهو في الواقع تجاوز صارخ للقوانين الدولية ومبادئ العدالة التي أنشئت من أجلها.

ثانيًا: «السلام الإبراهيمي» بدلًا من السلام العادل:

النقطة الثانية التي تبرز في تحليل الخطاب هي الطرح الواضح لما يسمى بـ«السلام الإبراهيمي»؛ وهو سلام تطبيعي بين «إسرائيل» ودول عربية، دون التطرق مطلقًا إلى جوهر الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، هذا النوع من السلام يتجاوز المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حقه في تقرير المصير لقيام دولة مستقلة.

تم تسويق «السلام الإبراهيمي» كمشروع للسلام الإقليمي، لكنه في جوهره لا يخدم سوى مصلحة «إسرائيل» في تطبيع علاقاتها مع محيطها العربي، دون دفع أي ثمن سياسي يتعلق بإنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، هو نموذج لسلام شكلي يمر عبر القفز على القضية الفلسطينية، بدلًا من مواجهتها كقضية جوهرية يجب حلّها لتحقيق أي استقرار دائم في المنطقة.

ثالثًا: شرعنة الاحتلال من خلال القوة العسكرية:

من أخطر ما ورد في خطاب ترمب هو ما يمكن اعتباره تبنّيًا لرواية «المنتصر»؛ إذ أكد بوضوح أن «إسرائيل» انتصرت في الحرب بفضل الدعم الأمريكي، وبفضل السلاح الأمريكي المتطوّر، وعلى الفلسطينيين ومن يدعمهم –مثل إيران و«حزب الله»– أن يقبلوا هذه الحقائق والوقائع الجديدة، هذا المنطق يعكس ذهنية الاستعلاء السياسي والعسكري، وينسف أسس القانون الدولي التي لا تعترف بمشروعية الاحتلال أو فرض السيادة بالقوة.

بهذا الطرح يُختزل الأمر كمعادلة غلبة عسكرية تُمنح فيها «إسرائيل» اليد العليا، ويُطالب الفلسطينيون بالتنازل عن حقوقهم التاريخية والوطنية تحت مسمى «الواقعية السياسية»، خطاب ترمب في الكنيست يعيد إنتاج مفاهيم الاحتلال والتفوق القومي بدلًا من دعم مسار سياسي جديد يراعي الحقوق والسياسية والإنسانية.

رابعًا: إعمار غزة مشروط بنزع سلاح المقاومة:

أشار ترمب إلى مسألة إعادة إعمار قطاع غزة، لكن بطرح يحمل في طيّاته شروطًا تمس السيادة والكرامة الفلسطينية، إذ تحدّث عن مساهمة عربية تتراوح بين 50 و65 مليار دولار لإعادة الإعمار، بشرط تجريد حركة «حماس» من سلاحها، وهو ما يعني عمليًا فرض شروط أمنية «إسرائيلية» كجزء من الصفقة، هذا الطرح يثبت حقيقة أن «إسرائيل» لا تزال تحتل أكثر من نصف مساحة القطاع، وتفرض عليه حصارًا خانقًا منذ سنوات؛ ما يجعل أي حديث عن إعمار دون رفع الاحتلال والحصار فارغًا من المضمون.

تغييب الفلسطينيين في قمة شرم الشيخ

اللافت أيضًا في قمة شرم الشيخ تغييب الطرف الفلسطيني المتوافق مع الأنظمة العربية الرسمية عن مداولات حاسمة تمسّ قضيته، فلم يُمنح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أي دور فعلي في القمة، بل اقتصر حضوره على الشكل البروتوكولي بعد تدخلات عديدة لمجرد حضوره في القمة، دون إشراكه في صياغة المخرجات أو التأثير في التوجهات، وهو ما يعبّر عن نهج يتجاوز الفلسطينيين في شأن يخص القضية الفلسطينية في محاولة لصياغة حلول بدونهم، بما ينسجم مع أجندة ترمب و«إسرائيل» في صناعة سلام مفروض من الإدارة الأمريكية.

هذا التجاهل يتناقض مع أبسط قواعد التفاوض ومبادئ العدالة السياسية، فليس من المعقول تجاوز الطرف الأساسي في الصراع ثم الادعاء بوجود مسار للسلام، حيث إن تغييب الصوت الفلسطيني من أي مفاوضات أو محافل دولية يمس بشرعية أي مخرجات تُنتج عنها، مهما بدت لامعة أو مدعومة إعلاميًا، علماً أنها مسرحية دراماتيكية أقرب من أن تكون قمة سلام لها أجندات سلام حقيقية.

قفز على مبادرة السلام العربية

ما جرى في شرم الشيخ لا يمكن قراءته إلا كجزء من عملية تمرير صامتة لـ«اتفاقيات أبراهام» بصيغة جديدة تتجاوز «مبادرة السلام العربية» لعام 2002م، التي اشترطت الاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية كمدخل لأي تطبيع أو علاقة مع «إسرائيل»؛ ما يُطرَح الآن يتجاوز هذا الإطار ويحوّل التطبيع إلى هدف بحد ذاته، دون ربطه بأي مكاسب سياسية أو وطنية للفلسطينيين، وهو ما يُعدّ انقلابًا على الإجماع العربي وتمهيدًا لتفكيك الموقف العربي المشترك تجاه القضية الفلسطينية.

لذا، فإن التعويل على خطاب ترمب أو الإدارة الأمريكية في تحقيق السلام وهْم سيؤدي حتمًا إلى خيبة أمل جديدة، فالرؤية المطروحة لا تعالج أصلاً جذور الصراع، ولا تحترم الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، بل تكرّس مقاربة أحادية الجانب، وتُكرّس الاحتلال وتُهمّش الطرف الفلسطيني.

لذا، فإن أي سلام لا يقوم على العدالة والاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، لن يُكتب له النجاح، وما جرى مؤخرًا ليس سوى تكرار لمحاولات سابقة باءت بالفشل، لأنها لم تُنصف الطرف الأضعف، ولم تعترف بإنسانيته وحقه في الحياة والحرية والكرامة والاستقلال وحق تقرير مصيره.


اقرأ أيضاً:

كلمة ترمب في الكنيست.. خطاب العلو الأكبر!


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة