كيف نستمتع بتربية أولادنا؟ (4)

هذه الحلقة الرابعة من سلسلة «كيف نستمتع
بتربية أولادنا»، ونتناول فيها:
البيئة التربوية (أ)
يقصد بالبيئة التربوية: السمات الدينية
والثقافية والقيمية المؤثرة في نشأة الأولاد، وكذلك المحيط النفسي الذي يتفاعلون
معه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه
يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه» (رواه أبو هريرة، أخرجه البخاري 1385،
ومسلم 2658)، حيث تؤدي البيئة التربوية الأثر الأعظم في صياغة مفهوم الأولاد عن
الخالق عز وجل، وكذلك صياغة ثقافته وطريقة تعامله مع الحياة، ومحصلة ذلك منظومة
قيمه التي تضبط حركته في الحياة.
وتتكون البيئة التربوية من الأسرة، والمسجد، والمدرسة، والإعلام، والأسرة كمحضن أساسي للتربية.
عناصر البيئة التربوية
أولاً: الأسرة:
تمثل الأسرة الحاضنة التربوية الأساسية:
- أثر العلاقة الزوجية على
الأولاد:
إن الخطوة الصفرية والمتطلب الأساسي
للتربية هو علاقة زوجية سوية تسودها المودة والرحمة، بما يوفر للأولاد محضناً
تربوياً يسوده الأمان النفسي للأولاد، وثقة في الدعم والمساندة، وبما يتناسب
والاحتياجات الذاتية لكل ولد ونموه النفسي والإدراكي.
إن شعور الولد بأن والديه يلبيان
احتياجاته المعنوية من دفء الحب والحنان والتقدير من خلال تناغم علاقاتهما بحيث
يراهما كينونة واحدة، كل منهما يمده باحتياجاته المادية والمعنوية بناء على دوره
كأم أو أب، ولكنهما متناغمان متكاملان، كما أن كل منهما يعطي النموذج العملي -دون
تلقين- للولد كيف يحترم ويقدر ويحب والده ووالدته من خلال تعامل كل منهما بالآخر.
الوالدان يمثلان المصدر الأساسي والنبع
الفياض للقيم، ونؤكد أن القيم تُرضَع ولا تؤكل، فشتان بين ولد نشأ بين والدين
يتحدثان ويختلفان بالحسنى، ثم يعلم أن التحدث بالحسنى ديناً، وأن الله سبحانه أمر
عباده (يَقُولُواْ الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء: 53).. وولد نشأ بين والدين
يتنابزان بالألقاب ويورثانه هذا السلوك السيئ، ثم يعلم أن الله أمره: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن
يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11)، فيهتدي لاتباع أوامر
ونواهي الله، ولكنه يجد مشقة وقد تغلبه النشأة السيئة، وكم نرى ممن يحفظون القرآن
العظيم ولكن تغلب عليهم للأسف بيئتهم التربوية السيئة!
إن خلاف الوالدين بأسلوب غير شرعي
يسقطهما في عيون أولادهما، ويرى الأولاد ما ينعت به أيٌّ من الوالدين الآخر، فإن
نعت الأب زوجته بالكذب فنعتته الأم بأنه قليل الأدب! فقد دمر كل منهما الصورة
الذهنية عن زوجه لدى أولادهما، وانتهى دورهما التربوي إلى غير رجعة، بل والأخطر
استمرار دورهما السلبي على الأولاد.
في المقابل، إن إدارة الخلافات الزوجية
بأسلوب شرعي يرفع من قيمة كل من الوالدين في نظر أولادهما، ويعضد دورهما التربوي،
ويفتح قنوات التلقي لدى الأولاد فتغرس فيهم القيم سلوكاً قبل أن يدركوا أنها
ديناً.
كما يجب التأكيد أن علاقة الوالدين تكون
أكثر تأثيراً على الأولاد مع صغر أعمارهم، حيث أثبتت الدراسات تأثر الجنين ليس فقط
بالحالة النفسية لأمه، بل بالبيئة النفسية التي تعيش فيها الأم، فحديث والده
لوالدته وكذلك طبيعة الحوارات التي تتم حوله تؤثر فيه! فمنذ أكثر من 3 عقود
والأبحاث تشير إلى فرع حديث من علم النفس وهو علم نفس الأجنة، وكيف يتأثر الجنين
بالبيئة النفسية التي تعيش فيها الأم، ولعل أهمها تأثيراً عليها علاقتها بزوجها.
وتُجمع الدراسات النفسية الحديثة على أن الأسرة المتماسكة والمنسجمة توفر بيئة نفسية آمنة للأطفال، بينما النزاعات المتكررة بين الوالدين أو الطلاق يؤديان إلى زيادة أخطار الاضطرابات النفسية والسلوكية عند الأبناء.
1- التأثير على الدور التربوي للوالدين:
- التعاون في التربية: تعتبر التربية من
أهم واجبات الوالدين، ولكن هذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال علاقة جيدة وتفاهم بين
الوالدين؛ ما يسهّل عليهما التنسيق في الأساليب التربوية، ويوفر للأولاد بيئة
متسقة وواضحة للتفاعل.
- القدوة السلوكية: عندما يرى الطفل
احتراماً وتفاهماً بين والديه، يتعلم كيف يتعامل مع الآخرين بطريقة ناضجة.
- الانشغال بالخلافات: في حال وجود توتر
دائم، ينشغل الوالدان عن أداء دورهما التربوي، وقد يُهملان احتياجات الطفل النفسية
والتعليمية.
- التناقض في التوجيه: العلاقة المتوترة
قد تؤدي إلى اختلاف في الآراء التربوية؛ ما يُربك الطفل ويضعف تأثير التوجيه.
2- أثر التوافق أو النزاع
بين الوالدين على نفسية الأولاد:
أ- النتائج النفسية
والسلوكية:
الأطفال الذين ينشؤون في أسر بها
الصراعات أو يمرون بتجربة طلاق الوالدين، يواجهون معدلات أعلى من:
- القلق والاكتئاب والتوتر: الخلافات
المستمرة أو العلاقة السامة بين الوالدين قد تؤدي إلى شعور الطفل بالقلق، وقد تظهر
عليه أعراض مثل الانطواء أو العدوانية.
- السلوك العدواني والتمرد أو الانسحاب
النفسي: نتيجة طبيعية وكرد فعل لحماية الذات، فعادة ما يلجأ الأولاد -الذين يعيشون
في جو أسري متوتر يفقدهم بالأمان النفسي- إلى حماية ذاتهم بالعدوان والتمرد أو
الانسحاب نتيجة الخواء النفسي والشعور بالضعف؛ ما يعرضهم إلى التنمر أو الاعتداء
النفسي أو البدني من الآخرين.
- صعوبات دراسية: تؤثر الحالة النفسية
تأثيراً مباشراً على قدرة الأولاد على التحصيل الدراسي، وتشير العديد من الدراسات
إلى أن مدى الاستقرار النفسي للأولاد هو العامل الأكثر تأثيراً من القدرات
العقلية.
- الميل إلى الإدمان: تشير الدراسات إلى
أن الطلاق والصراع الأسري قد يضاعفان احتمال تعرض الأولاد للإدمان.
- التعلق وتنظيم المشاعر: العلاقة
المتوترة بين الوالدين تضعف شعور الطفل بالأمان النفسي، فالطفل الذي ينشأ في بيئة
مستقرة يتعلم كيف يثق بالآخرين ويعبّر عن مشاعره بحرية، أما الطفل الذي يعيش في ظل
صراعات دائمة، فيصبح أكثر قلقاً واستنفاراً داخلياً، وقد يعجز عن التعرف على نفسه
وكذلك تنظيم مشاعره.
- التفاعل النفسي للطفل: قد يتصور بعض
الأطفال أنهم السبب في نزاع والديهم؛ ما يؤدي إلى تدني احترام الذات والشعور
بالذنب أو الخجل، والأبحاث تؤكد أن تفسير الطفل للصراع بين والديه هو العامل
الأكثر تأثيراً على حالته النفسية، أكثر حتى من تقييم الوالدين لطبيعة النزاع، كما
قد يشعر الطفل بأنه مضطر للانحياز لطرف؛ فيترتب على ذلك الميل أو التقارب النفسي
من أحد الوالدين؛ ما يؤثر على ثقته بنفسه.
- التناقض في التوجيه: العلاقة المتوترة
تؤدي إلى اختلاف في الآراء التربوية؛ ما يُربك الطفل ويضعف تأثير التوجيه.
- القدوة السلوكية: عندما يرى الطفل
احتراماً وتفاهماً بين والديه، يتعلم كيف يتعامل مع الآخرين بطريقة ناضجة.
- تكوين الهوية: الأطفال يتعلمون من خلال الملاحظة، فالعلاقة الصحية بين الوالدين تساعدهم على بناء مفاهيم إيجابية عن الحب، الاحترام، والتواصل.
ب- كيف ينظر الطفل إلى والديه؟
الأطفال يكوّنون صورة داخلية عن والديهم
تُعرف في علم النفس بـ«النماذج الذهنية»؛ فإذا نشأ الطفل في بيئة مليئة بالحنان
والرحمة؛ يرى والديه كمصدر للأمان والدعم، أما إذا عاش في بيئة مشحونة بالصراعات،
فقد يرى والديه كمصدر للخطر أو التهديد.
جـ- أثر علاقة الوالدين على
دور الولد المستقبلي كأب أو أم:
تُظهر الدراسات أن طريقة تربية الوالدين
لأبنائهم تنتقل في كثير من الأحيان إلى الجيل التالي، فالطفل الذي نشأ في بيئة
قاسية أو مليئة بالصراعات قد يكرر نفس الأساليب مع أطفاله عندما يكبر، ما لم
يتلقَّ توجيهاً أو علاجاً نفسياً.
د- التوارث التربوي:
الأبحاث تشير إلى أن حوالي 15% من أساليب
التربية تنتقل مباشرة من الآباء إلى الأبناء.