الحوار البنَّاء.. معاملة تربوية مفتقدة
يعيش الإنسان الآن في زمان مليء بالفتن والتحديات، فوقته متسارع الوتيرة، وقلبه مهموم بالمتطلبات المادية التي فُرضت عليه، يقضي وقت فراغه متنقلًا بين عوالم افتراضية تحت مسمى التواصل الاجتماعي، دون أن يشعر بتلك التواصلات الحقيقية التي تُقطع في غفلة منه، حيث فقد التواصل الجيد مع نفسه ومع أفراد أسرته قبل غيرهم.
ولكي ينجو المرء بنفسه وأسرته من آثار ذلك؛ فلا بد من إيجاد رابطة أسرية قوية من أهم وسائلها الحوار البناء، فلنتعرف على أهميته ودوره الفعال في تهذيب شخصية الأبناء.
أهمية الحوار
يدرك المتأمل في القرآن والسُّنة عنايتهما بالحوار كوسيلة لتوجيه النفس إلى الحق، فهو قنطرة الإقناع الذي يتغير به السلوك، ومن أمثلة الحوار في القرآن ما ورد في سورة «الكهف» بين صاحب الجنة وصاحبه، وفيها قوله تعالى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف: 34)، وقوله تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (الكهف: 37)، ونستطيع أن نقف من ذلك على فوائد جليلة تخص المربين، منها:
1- تبادل الأفكار وكشف ما في النفوس من صلاح وفساد، فالحوار وسيلة لإبداء وجهات النظر، وتنقيح الأفكار، واستكشاف الدوافع، واستخراج ما في نفوس الأبناء من مكنونات، فيسهل على المربي اختيار العلاج الناجع، ومن ثمّ تصحيح المفاهيم وحل المشكلات وتجاوز العقبات.
2- أن الحوار المنضبط بالعقيدة الصحيحة والآداب المرضية من أهم وسائل الإصلاح، فهو فعّال في تصحيح الأخطاء وتوجيه الأفعال بدلاً من العقاب، فالعقاب يُحدث تغيرًا لحظيًا في السلوك، لأنه ناتج عن الرهبة وليس القناعة، على عكس التغيير السلوكي الناتج عن تغيير القناعات من خلال الحوار؛ لذا فهو مما يحتاج إلى صبر وحكمة وجهد من المربي، ولكن أثره يدوم مع الأبناء.
3- تقوية الروابط الأسرية، وزيادة الحب والاحترام بينها، فالحوار الهادئ العقلاني الذي قُصد به للحق يُبعد عن الفرد شعور الأنانية، ويُقوي مشاعر الألفة والمحبة، فعندما يشعر الأبناء بأنهم مسموعون ومفهومون؛ فإنهم يصبحون أكثر استعداداً للتعاون مع والديهم والامتثال لتوجيهاتهم، ويتعلمون تفهم دوافع الوالدين ومشاعرهما، ويصبح الحوار وسيلة لتبادل الخبرات والآراء، مما يُقوي الأسرة أمام تحديات الحياة وفتن الدنيا.
4- الحوار يُجنب الآثار النفسية السلبية للعقاب، خاصة إذا كان العقاب قاسياً أو متكرراً، فقد يؤدي إلى مشاعر مثل الخوف، أو الغضب، أو التمرد، وعلى العكس يُركز الحوار على بناء التفاهم وتعزيز التواصل؛ ما يُقلل من احتمالية ظهور مشكلات نفسية لدى الأبناء.
5- تنمية مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات لدى الأبناء من خلال الحوار، فيُمكن للآباء تعليم أبنائهم كيفية التفكير في عواقب أفعالهم واختيار البدائل الأفضل، وذلك من خلال توظيف مهارة طرح السؤال، مثل قول: «ما الذي كنت تحاول تحقيقه بهذا السلوك؟»، أو «كيف يُمكنك التصرف بطريقة مختلفة في المستقبل؟»، وهذا النوع من النقاش يُشجع الأبناء على القيام بالعمليات العقلية التي تعتمد على الافتراضات، وفهم الحجج والدوافع، والبحث عن الأدلة، وتصور النتائج والعواقب لكل فعل؛ ما يُساعدهم على اتخاذ قرارات أفضل في حياتهم.
وبعد إدراك أهمية الحوار كوسيلة تربوية ناجعة في تربية الأبناء، تدعو الحاجة إلى أن يتصور المربي كيف يدير الحوار، وبخاصة إذا نطق المتربي بشيء يغضبه، ولذا يحسن تقديم مثال عملي ونموذج حي لمربٍّ ومتربٍّ يتحاوران ليُستفاد منه بدقة.
نموذج عملي
من أروع صور الحوار بين المربي والمتربي هو ما جاء في السُّنة النبوية؛ فعن أبي أمامة الباهلي قال: إنَّ فَتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، ائْذَنْ لي بالزِّنى، فأقبَلَ القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَهْ، مَهْ! فقال: «ادْنُهْ»، فدَنا منه قَريبًا، قال: فجَلَسَ، قال: «أتُحِبُّه لأُمِّكَ؟»، قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتِكَ؟»، قال: لا واللهِ، يا رسولَ اللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لبَناتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختِكَ؟»، قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأَخَواتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لعَمَّتِكَ؟»، قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لخالتِكَ؟»، قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم».
قال: فوَضَعَ يدَه عليه وقال: «اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه»، قال: فلمْ يَكُنْ بعدَ ذلك الفَتى يَلتفِتُ إلى شيءٍ. (رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي، وصححه الألباني)، وهذا الحديث مشتمل على درر لتطبيق الحوار المثالي، تتمثل في:
1- الاستماع الفعال وضبط رد الفعل: فاستمع النبي صلى الله عليه وسلم للشاب ولم يقاطعه، رغم قبح ما يطلبه وإرادته الحرام في نفسه، وضبطُ رد الفعل تمكن من التوجيه بالحكمة، فعلى المربي أن يستمع لأبنائه ولا يقاطعهم، وأن يتحلى بالتأني في ردود فعله.
2- التواصل الجسدي والعاطفي: فلم يتحدث أعظم مربٍّ صلى الله عليه وسلم إلا بعدما قرَّب الشاب منه ووضع يده الشريفة عليه، ليشعره بالحب والأمان وعدم احتقاره أو التعالي عليه، وكذلك بعدما وجهه دعا له ليكتمل بذلك شعوره بالحب والتقبل والرغبة له في الخير والسلامة من الشرور؛ لذا يجب على المربي أن يتأكد من أن مشاعره تصل لأبنائه حتى قبل كلماته، فهذا أدعى لقبول النفس للتوجيه.
3- استخدام التفكير النقدي: فمن الملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بكلمة التحريم فحسب لينهي الحوار، ولكنه أثار التساؤلات حول الطلب وترك الشاب يجيبها، وذلك لينقد أفكاره بذاته ثم يرفضها عن قناعة، فليس أفضل من توجيه المتربي إلى الإجابة بنفسه عن تساؤلاته ثم توجيه رغباته، فلا تُفرض عليه من غيره، وإنما يقوى في داخله الباعث على اختيار الصالح وترك الفاسد.
4- عدم اللوم والعتاب: فلم يلم النبيُ صلى الله عليه وسلم الشابَ أو يوبخه، ولم يلتفت لكلام الناس أو لنظرتهم إليه، بل توجه مباشرة لعلاج المشكلة المتمثلة في أفكاره؛ ولذا يجب على المربي ألا يتأثر بتعليقات من حوله، ولا يغير رد فعله التي تحسُن لأجلها.
5- استخدام لغة بسيطة وواضحة: ففي هذا الحديث جاءت الكلمات والتساؤلات واضحة بسيطة قصيرة، لكي يفرغ الشاب عقله للجواب عنها، ولا ينشغل بمحاولة فهم ما أبهم عليه من الكلمات، ولذلك يجب على المربي أن يتخير كلماته بدقة فتكون خالية عن أي تعقيد؛ لكيلا يشتت ذهن المتربي عن النصيحة ويضيع بذلك الهدف المرجو منها.
6- الدعاء بصلاح المتربي: فختْمُ النبي صلى الله عليه وسلم الحوارَ بالدعاء للشاب فيه إشعار له بحب الخير له وتذكيره بالحاجة إلى هداية الله عز وجل، فيجب على المربي أن يُسمع المتربي دعاءه له بالهداية والصلاح والسداد.
فالحوار أساس العلاقة الصحية بين الآباء والأبناء، وأداة فعالة لتعديل السلوك بدلاً من العقاب، فمن خلاله يتمكن الآباء من غرس القيم الصحيحة وتعزيز الثقة بالنفس لدى أبنائهم؛ ما يُساهم في تنشئة جيلٍ واعٍ ومسؤول يسهم في بناء مجتمع متماسك صالح.