شاهد عيان يهودي على الصهيونية

لو كتب كاتبٌ
عربي في الصِّهيونية بما يفضحها ويَشينها، لقيل: عدوٌّ كتَب؛ ولو كتب فيها
أوروبيٌّ مُحايد بما يُظهِر مواضعَ الخطر والشر والسوء، لقيل: مُناهض للسامية
تعصَّب؛ لكن ماذا يُقال إذا كان الكاتب يهوديًّا، بل مديرًا للمجلس اليهودي
الأمريكي؟
إنَّ له من
يهوديته ما يَعصمه من تُهمة العداوة للجنس السامي، ومن أمريكيته ما يضمن عطفه
مقدمًا على إسرائيل؛ وإذن فلِشهادته قيمةٌ مضاعفة؛ لأنَّ يهوديته وأمريكيته معًا
لم تستطيعا أن تحجبا عنه الحقَّ حين فتح عينَيه ليراه.
وأمَّا هذا
اليهودي المرموق في يهوديته، فهو د. إلمر برجر (Elmer Berger)، المدير التنفيذي للمجلس اليهودي في أمريكا؛ طاف بأقطار الشرق
الأوسط، في زيارةٍ أراد بها أساسًا أن يستطلعَ حالة الأقليات اليهودية في تلك
الأقطار، ليبعثَ برسائله تِباعًا عمَّا يراه ويسمعه؛ فزار القاهرة وبغداد وبيروت
ودمشق، والقدس العربية في الأردن، ثم ختم الجولةَ بزيارة القدس المحتلة في
إسرائيل؛ كان تاريخ خطابه الأول يوم 7 من أبريل «نيسان» 1955م؛ أرسله من السفينة
التي أقلَّته من أمريكا عبر المحيط الأطلسي، وأعقبَه خطابٌ ثانٍ من السفينة، ثم
بدأتْ رسائلُه من القاهرة، حيث بعَث بستِّ رسائل خلال أسبوعَين أقامهما بها،
وتركَها إلى بغداد ليبعثَ منها برسالةٍ واحدةٍ، ثم عقَّب عليها ببيروت فأرسل منها
رسالتين؛ ثم دمشق فأرسل منها كذلك رسالتين؛ وبعدئذٍ أرسل من القدس العربية أربعَ
رسائل، ومن القدس المحتلَّة أربعَ رسائل، ومن حيفا رسالة، وختم بأربعِ رسائل
أرسلها وهو في طريق عودته؛ من الطائرة، ومن السفينة، ومن طنجة، ومن باريس؛ فمجموع
الرسائل ستٌّ وعشرون، كُتبَت على مدى شهرَين ونصف شهر، وقد جُمِعَت في كتابٍ صغير،
قرأتُه فلمستُ فيه الدقة والأمانة والصدق، وأحسستُ من عُنوانه شجاعةَ كاتبه في
مواجهة الصهاينة؛ إذ جعل العُنوان: «على من يعرف الحق أن يُعلنه»، وكانت الرسائل
كلها موجَّهةً إلى شخصين بالاشتراك، هما رئيس المجلس اليهودي ومقرِّره.
وفيما يلي
لمحاتٌ مما ورَد في هذه الرسائل، ومنها يرى القارئ صورةً لإسرائيل بالقياس إلى
الوطن العربي، فبينما وجد الزائر اليهوديُّ في أرجاء الأمة العربية سَعة الصدر
وسماحة النفس واعتدالَ الرأي وتسامُحَ العقيدة وروحَ الإخاء؛ ما لم يَسَع الزائرَ
اليهوديَّ إزاءه إلَّا أن يُعبِّر عن دهشته العميقة للفارق الفسيح بين ما وجده وما
سمعه ورآه، وبين ما كان قد تسلَّل إلى وطنه ووهمِه خلال الدعاية الصِّهيونية التي
تَطِنُّ في أرجاء العالم بعامة، وفي الولايات الأمريكية بخاصة؛ أقول إنَّه بينما
وجد كلَّ هذه الجوانب في البلاد العربية، ما لم يكن يتوقَّع شيئًا منه؛ رأى العنت
كلَّ العنت -وهو اليهودي المرموق في يهوديته، والأمريكيُّ البارز في أمريكيته- رأى
هذا العنَت كلَّه من «إسرائيل»، قبل دخوله فيها وبعد دخوله.
فهذا هو خطابه
الأول، يكتبه على ظهر السفينة وهي تعبر به المحيط، يذكر فيه حادثتيَن وقَعتا له
قبل أن يُغادر بلادَه بأيام قلائل؛ يقول عن إحداهما: إنَّكما تعلمان ما كنتُ قد
لقيتُه من مَصاعب حين أردتُ أن أحصل على تأشيرة الدخول في إسرائيل؛ فقد كتبتُ
خطابًا رسميًّا إلى أفرام هارمان -القنصُل العام الإسرائيلي في نيويورك- بالإضافة
إلى الطلب العادي الذي كنتُ قد قدَّمتُه قبل ذلك ببِضعة أسابيع، وانتهى الأمر إلى
أن دُعيت إلى مقابلة السيد هرمان على غَداء، وبدلَ أن نتحدث على الغداء عن تأشيرة
الدخول التي طلبتُها، دار الحديث عن السبب الذي يدعوني إلى الذَّهاب إلى إسرائيل،
وما هو إلَّا أنْ تأدَّى بنا الحديث -بما اقتضاه منطقُ السياق- إلى مناقشةٍ طويلة
جدًّا حول مسائلَ مذهبية، وأظن أنَّني أستطيع تلخيصَ ما دار بيننا حتى ساعةٍ
متأخِّرة من عصر ذلك اليوم، بقولي إنَّه كان حديثًا هادئًا ومنبهًا للتفكير،
لكنَّنا انتهينا منه إلى إدراكِنا بأنَّ ما بينه وبيني في الرأي هو ما بين
القُطبَين؛ إذ لم يكن بيني وبينه أرضٌ مشتركة على الإطلاق؛ فهو -كأغلبية رجال
الحكومة الإسرائيلية- علمانيٌّ إلى أعماقه، لا يسري فيه أدنى شعورٍ بالعقيدة
اليهودية؛ وهو يُكرس نفسَه لما يُسميه «الأمة اليهودية» (فلا يكفيه أن يتحدث عن
دولة يهودية) … فهو يقول إنَّ مصالح الأمة اليهودية في العالم تأتي أولًا، ومنها
تنبثق الدولة؛ لأنَّك -هكذا قال- إذا ضمنتَ أن يتماسك يهودُ العالم في شعب واحد؛
فقد ضمنتَ أن يتكفل هذا الشعبُ الواحد بإعادة دولة إسرائيل، إذا ما أصابها سوء.
وقد جرَّنا
الحديثُ إلى محاولة إسرائيل تهجيرَ اليهود من أوطانهم إليها، وعلمت منه كيف كان
خلال الحرب العالمية الثانية (أي قبل نشأة إسرائيل) يُمثل «الوكالة اليهودية» في
رومانيا، وكيف حاول عندئذٍ جمع المال والنفوذ، ليستطيعَ بهما أن يُخرج يهودَ
رومانيا؛ ليبعث بهم إلى فلسطين، لكنَّه لم ينجح إلَّا بقدرٍ ضئيل، ولَمَّا أبديتُ
له رأيي في حوادث شمالي إفريقيا، التي حدَثَت بتحريكٍ من الصهاينة، قال لي إنَّ
إسرائيل في الحقيقة ليست بحاجةٍ إلى يهود عرب، ثم قال: «إنَّني لعَلَى استعدادٍ أن
أعطيَك عشَرة من اليهود العرب لأستبدل بهم يهوديًّا أمريكيًّا واحدًا»؛ وأضاف ما
معناه أنَّ إسرائيل الصِّهيونية إنَّما تفعل ذلك لإنقاذ اليهود ممن يُحيطون بهم،
فاعترضتُه متعجبًا كيف تريد إسرائيل الصهيونيةُ هذه أن تجعل من نفسها إلهًا يعمل
على تخليص عباده، وتساءلتُ لماذا تظن إسرائيل أنَّ يهود أمريكا مثلًا يُحبون
مغادرةَ وطنهم الأمريكي ليُقيموا فيها؟ ولمَّا أبديت له رأيي بأنَّ اليهودي حيث
كان، إذا هو أدمج نفسه في أبناء وطنه، يُشاركهم ويُسايرهم كما ينبغي له أن يفعل؛
اختفَت كلُّ مشكلة اليهود كما يتصورها، أقول إنِّي لمَّا أبديتُ له ذلك، أجاب من
الفور بأنَّ مِثل هذا الدمج مضادٌّ لأهداف إسرائيل، لأنَّ من شأنه أن يُفتت «الشعب
اليهودي»، ولا تصبح بين أفراده تلك الرابطةُ التي هي في رأي الصهيونية جديرةٌ
بالاهتمام الأول.
ثم دار بيننا
حديثٌ طويل عن يهود أمريكا، أمَّا أنا فوجهةُ نظري هي أن تبقى اليهودية بالنسبة
إليهم عقيدةً دينية لا تمسُّ ولاءهم لأمريكا في شيء، وأمَّا هو فوجهة نظره — وهي
وجهة نظر الصهاينة جميعًا — أنَّ جزءًا من العقيدة الدينية اليهودية نفسها ينبغي
أن يكون إقامةَ الرابطة التي تربط بين يهود العالم في أمةٍ واحدة؛ يقول ذلك عن
العقيدة الدينية اليهودية مع اعترافه في أثناء الحديث أنَّه لا يعبأ بهذه العقيدة
من حيث هي، ولا يريد لها إلَّا أن تكون أداةً لتحقيق أغراض السياسة الصهيونية؛ حتى
لقد صارحتُه بوجهةِ نظري، وهي أنَّ إسرائيل تُريد في حقيقة أمرها أن تُباعد بين
اليهود وديانتهم، مصطنِعةً لهم موقفًا دُنيويًّا سياسيًّا صِرفًا، وبيَّنتُ له
أنَّ انشطار اليهود على هذا النحو، بحيث يصبحون فريقَين: فريقًا يستهدف جمع اليهود
تحت راية السياسة، بغضِّ النظر عن العقيدة الدينية، وفريقًا آخر يريد لليهود أن
يظَلوا مواطنين حيث هم، مع احتفاظهم بعقيدتهم الدينية، ليس هو بالأمر الجديد، بل
ظهرَت بوادره منذ الثورتَين الأمريكية والفرنسية، في القرن الثامن عشر.
اقرأ أيضاً:
5 تهديدات لـ«إسرائيل الكبرى» على العالم العربي
دولة «إسرائيل الكبرى».. وهْمٌ تاريخي أم تهديد واقعي؟
_________________
المصدر: من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر».