; النفس كما يصورها القرآن الكريم | مجلة المجتمع

العنوان النفس كما يصورها القرآن الكريم

الكاتب أبو بلال

تاريخ النشر الثلاثاء 29-سبتمبر-1970

مشاهدات 19

نشر في العدد 29

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 29-سبتمبر-1970

إن القرآن الكريم قد جمع بين دفتيه ما يسعد الإنسانية، في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. (الإسراء: ٩). ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. (إبراهيم: ١) والقرآن الكريم حينما يعالج مشكلة، أو يعرض لأمر، إنما يتناوله تناولًا حكيمًا يتواءم مع طبيعة الحياة وصالح الأحياء.

فمن الموضوعات التي تناولها القرآن، موضوع النفس الإنسانية، ذلك الموضوع الذي أولاه الإنسان في عصرنا الحاضر عنايته، فأنشأ فيه علمًا خاصًا سماه «علم النفس» اختلفت فيه آراء الباحثين وتشعبت، ولم تخرج كلها أو جلها عن كونها نظريات قابلة للخطأ والصواب، ولكن خالق النفوس العليم بها قد عالج النفس الإنسانية من أدوائها، وأخذ بيدها إلى الاطمئنان والسعادة، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. (الملك: ١٤).

 يقول تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا. (الشمس: ٧-10).

ونستطيع أن نفهم من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى الذي خلق النفوس قد بين لنا بوضوح أن فيها قابلية الخير والشر، إذ أن الخير والشر من الله إيجادًا، ومن العبد اكتسابًا وأن على الإنسان أن يتولى هذه النفس بالتربية والترويض على الخير وأن يجنبها الشر، وينأني بها عن كل قبيح، حتى نعتاد فعل الخير وحده، فيصبح من مألوفها حتى يصير الإنسان خيرًا يسير على الأرض، خيرًا في قوله وفعله، خيرًا لنفسه وأهله وبني جنسه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(الشمس:9) فلاح في الدنيا وفلاح في الآخرة وأما من ترك النفس تسير على هواها، وتفعل ما يحلو لها من غير رادع من دين، أو وازع من خلق، فسوف يصبح من طبعها فعل الشر، وإيقاع الأذى بالغير، وبالتالي يصبح الإنسان شرًا يسير على الأرض، شًرا على نفسه وأهله وبني جنسه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(الشمس:10) خيبة في الدنيا وخيبة في الآخرة، وفي هذا يقول البصيري رحمه الله في بردته:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

كم حسنت لذة للمرء قاتلة من *** حيث لم يدر أن السم في الدسم

فراعها وهي في الأعمال سائحة *** وإن هي استملت المرعى فلا تسم

وأوضح من هذا وأروع ما بينه القرآن الكريم بأسلوب قوي، فيه من التأكيدات المتعددة ما يجعل القارئ يقف متأملا: ما هذا المعنى الذي حرص القرآن الكريم على أدائه بهذا الأسلوب المؤكد؟ وحين يطرق هذا القول مسامعنا نقف أمامه خاشعين حذرين من هذا الخصم الذي يحذرنا الله منه، يقول جل من قائل: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. (يوسف: ٥٣). فكأن القرآن يقول لنا: احذروا هذا الخصم، فهو لا يأمر بخير، ولا يحث على معروف.

ولكن كيف تفعل النفس كل هذا بصاحبها، لماذا تأمره بالسوء وتدعوه إلى الضلال؟ نقول على عجل: لا تعجبوا فهذه حال النفس قبل أن يصقلها الإيمان، ويسمو بها اليقين وتهذبها إشراقة التقوى، فكم من جرائم وقعت، وكم من دماء أريقت، وليس لها من دافع إلا النفوس التي خبثت، والقلوب التي قست من جراء ما ران عليها من ارتكاب المعاصي، واتباع الهوى، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. (الكهف: ٢٨).

تحول النفس

أما من لم يتبع هوى نفسه، ولم يصبح عبد شهواته، بل راقب نفسه وهذبها بالتقوى وأشغلها بمراقبة الله والخوف من عقابه، فإن نفسه بهذه التربية، وتلك المراقبة ستتحول من أمارة بالسوء إلى لوامة على السوء، وهنا تصبح جديرة بأن يقسم بها بارئها، وأن يقرنها بيوم عظيم، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. (القيامة: ١-2) فإذا ظل الإنسان سائرًا على هذا النهج، مستقيمًا على طريق الحق متعاليًا على ذاته وترابه، مراقبًا ربه يطيعه يشكره فلا يكفره، يذكره ولا ينساه فسوف تطمئن نفسه للخير وحده وهنا تسمو هذه النفس، فتستحق ذلك النداء الخالد: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي. (الفجر: ٢٧-30) فلا علاج للنفوس بغير الإيمان، ولا اطمئنان ولا سعادة بغير التقوى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. (الرعد: ٢٨). ونحن نعلم أن تقديم الجار والمجرور يفيد القصر أي لا تطمئن ولا تسعد بغير ذكر الله وتقواه، فهل غاب عنا ما فعل الإيمان في النفوس المؤمنة من الرعيل الأول أمثال عمر رضي الله عنه ألم نعلم أن عمر قد وأد ابنته حية قبل أن يتغلغل الإيمان في قلبه؟ ولكن هذه النفس عندما انصهرت ببوتقة الإيمان صار التاريخ يسمعنا على لســـــــان الخليفة الثاني رضي الله عنه قوله: «والله لو عثرت دابة في العراق أو الشام لخشيت أن يسألني الله عنها لأني لم أسو لها الطريق» ما أبعد الشقة بين نفس عمر المؤمنة، ونفسه غير المؤمنة، وما ذلك إلا بعد أن عمل الإيمان عمله في نفسه فحولها من أمارة بالسوء إلى لوامة على السوء، ثم إلى مطمئنة بالخير والحق والعدل.

  ولقد جاشت العزيمة من وحي هذا الموضوع بهذه الأبيات فأحببت أن أضع بعضها بين يدي القارئ العزيز ليرى أثر الإيمان في النفس الإنسانية.

عمر العظيم بغیر دین محمد

           وأد البريئة في التراب الحامي

لكنه بالدين أصبح عادلا

          ويخاف أن تكبو دواب الشام

ويقول لو أني وضعت طريقها

          سهلا لما عثرت بجنح ظلام

الدين صيره إماما عادلا

        ومحطم الأغلال والأصنام

أبو بلال

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل