; في رثاء عالم جليل | مجلة المجتمع

العنوان في رثاء عالم جليل

الكاتب د.حمزة زوبع

تاريخ النشر السبت 01-أغسطس-2009

مشاهدات 15

نشر في العدد 1863

نشر في الصفحة 31

السبت 01-أغسطس-2009

عرفته عبر الصحف والمجلات، حين كانت لأندية أعضاء هيئات التدريس صولة وجولة وكلمة عليا في مواجهة جبروت السلطة وعنفوانها برئاسة الوزير زكي بدر، كان البروفيسور بدر الدين عطية غازي - يرحمه الله - ساعتها نائباً لرئيس نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، ثم رئيسا بعد وفاة د. يوسف عبد الرحمن عليه رحمة الله.

قرأت عنه وملأت صفحات صحف المعارضة صوره وتصريحاته القوية والعفيفة في آن واحد، لم أسمع منه وقد عرفته لسنوات قليلة مؤخراً - لسوء حظي - لفظة معيبة ولا كلمة غريبة، يستخدم لغة بسيطة غير معقدة.

كنت أشعر وأنا أتحدث إليه كأنني في جوار رجل من عامة الشعب بسيط غاية البساطة، لم يشعرني ولا أحدا من حوله أنه عالم حصل على دكتوراه العلوم بعد دكتوراه الفلسفة في الكيمياء الفيزيائية، أو أنه نال جوائز تقديراً لعلمه ونبوغه، لم أشعر للحظة أنه درس في جامعات أمريكا وعمل أستاذاً زائراً بها لسنوات، بل كنت أشعر حتى وأنا أزوره في بيته أنه أبسط من ذلك بكثير، وكنت أسأل نفسي: ما بال أقوام آخرين لم يحصلوا معشار ما حصل من العلم، ولم يرتقوا معشار ارتقائه في ساحات العلم والعمل ما بالهم يتكبرون على الناس ويلوون أعناقهم ذهابا وجيئة!

 عرفته عن قرب، فكان لي بحق أبا بعد أن فقدت أبي منذ عشرين عاما تقريبا، كان الناصح الأمين رغم قصر مدة المعرفة، كثير الصمت عميق الفكرة، إذا تحدث أسمع وربما أوجع بكلمات لطيفة وخفيفة، ولكنها في العمق وإلى القلب مباشرة.

كان يرى أن المسلمين يملكون رصيداً ومخزونا حضاريا يؤهلهم لقيادة العالم ويشرح بالأرقام كيف أن أمريكا فقدت مخزونها الأخلاقي، وأوروبا من قبلها، وبقي التنافس على الشرق؛ لأن الحضارات لا تقوم إلا بالأخلاق.. وهذا ما تبقى لنا نحن المسلمين.

كانت له رؤية سياسية محنكة، وكان يرفض الصدام رغم قوة معارضته للنظام، بل كان يرفض أن يرفع شعارا واحدا يشعر فيه الآخرون بالإهانة أو المهانة، وكان يرى أن قوة أي مؤسسة أو جماعة أو حزب تكون في قدرتها على إصلاح عيوبها وتطوير نفسها، وخصوصا جهازها الإداري، فالمؤسسات الضعيفة إداريا ضعيفة في كل شيء تقريبا، وعديمة النفع مثلها مثل الدول. كان - يرحمه الله - حريصاً على وقته ووقت الآخرين، لا يحب كثرة الكلام، لكنه لا يقاطع من يتحدث وإن أطال، وربما نبهه بعد نهاية كلامه إلى أن وقتنا ليس ملكا له.. ومن هنا تبدأ عملية التغيير السلس والرائع حقا.

على الجانب الإنساني، كان كلما زارني في بيتي داعب أولادي الصغار، وحملهم بين يديه الكريمتين وطار بهما في المكان وأعطاهم من الهدايا ما تجود به نفسه، ولما مرض ودعوته لزيارتنا جاءني برفقة زوجته الكريمة الصابرة المحتسبة، وعز عليه أنه لا يستطيع حمل أبنائي إلا الصغيرة «زينة» ورأيت في عينيه الألم، وتجاوزنا اللحظة بالكلام في موضوعات أخرى.

حين علم بخطورة مرضه أصر أن يستعد للرحيل، وكلما اشتد عليه المرض رأيته محتسبا صابرا رغم شدة الألم، وكلما داعبته قائلا: هيا بنا نخرج نتمشى قليلا. رد علي قائلا: يا أخي أود ذلك ولكن ما بي أكبر بكثير مما تتصور، واغرورقت عيناه بالدموع، فبكينا سويا وهو يقول: ادع الله لي بالتثبيت، فدعونا.

استأذنته أن يزوره أبنائي حيث يعالج ففرح، ولما رآهم فرح بهم واستهل وجهه ودعا لهم وسألهم الدعاء.

وقبل سفره للعلاج في ألمانيا رأيته يكتب كل شيء في نوتة صغيرة، ولم يترك شيئا معلقا، حتى أنه قال لزميل له في الجامعة إن لديه عهدة متبقية من المعامل مقدارها حوالي ١٠ دولارات، فلما نظر إليه زميله قائلا: يا دكتور ١٠ دولارات ربما توضع في بند الشاي والقهوة فرد عليه بقوة وهل تحاسب عني يوم القيامة؟ كان حريصا أن يلقى ربه وقد نفض يديه من الدنيا وتعلق قلبه بالآخرة.

أيها العالم الجليل إن مصابي فيك جلل ولكن إرادة الله فوق كل شيء، ولا أقول: وداعا، بل أقول: إلى لقاء يجمعنا في جنة الخلد، في ظل عرش الرحمن مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

ثم جاء.. دور الصلاة!

نشر في العدد 33

21

الثلاثاء 27-أكتوبر-1970

آراء وقراء (عدد 297)

نشر في العدد 297

16

الثلاثاء 27-أبريل-1976