العنوان العابدون اللاعبون
الكاتب محمد أحمد الراشد
تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-1972
مشاهدات 13
نشر في العدد 111
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 01-أغسطس-1972
ما نقلناه سابقًا عن ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، وبعض المعاصرين، في وجوب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، معتمدين على طائفة من الآيات والأحاديث، إنما هي نقول تحمل معها من الوضوح ما كان كافيًا لرد أوهام المتخارسين الذين ظنوا أن بعض العبارات الفقهية المجملة تعفيهم من هذا الوجوب.
ومع كثرة صيحات الدعاة في هذه السنين وأهابتهم بالناس، وبالمصلين خصوصًا، أن يعملوا، ويعاونوا الدعاة الأمرين النهاة، فإن الأكثرين ما زال الحزن على واقع المسلمين يستهلكهم يومًا من بعد يوم، ولم يعرفوا طريق العمل، أو عرفوه ومنعهم الخوف من تحمل التضحيات عن العمل، أو منعهم الحرص على المال والمصالح الدنيوية، فانعزلوا في مساجدهم وبيوتهم، يبكون الإسلام، ويتركون الأجيال وجماهير الشباب الساذج لمن يربيها من دعاة الإلحاد والعلمانية والشيوعية والوجودية، ولمن يجرها إلى الفساد، والحياة الشهوانية، والزنا، والخمر، والإسراف في اللهو.
إن هؤلاء المصلين، وأهل الغيرة والحزن على مصير المسلمين، يقرأون كتب الفقه التي ننقل عنها، وكتب الزهد والرقائق، ولكن كأن خور عزائمهم لا يوقع أبصارهم على ما فيها من صيحات المخلصين على مر الأجيال والقرون، من لدن عصر الصحابة إلى العصور المتأخرة، وحثهم على العمل للإسلام، والتبشير به، ودعوة الخلق، وتنبيه الجموع الغافلة، وترك العزلة والتواري، والتصدي للجهاد والبذل.
إنه حزن قاتل، وتعبد مرجوح، وعزلة مضيعة، وبدعة هادمة، وإن تجلل كل ذلك بالإخلاص والنية الصالحة.
من يقاتل العدو إذا اعتزلتم؟
وأول فوج ظهر من هؤلاء الواهمين كان في عصر صدر الإسلام والصحابة رضي الله عنهم ما زالوا أحياء، فتصدى لهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعرف ما في العزلة من مضادة للإسلام المتحرك، إسلام الأمر والنهي والجهاد والدعوة الذي رباه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأوضح لهم بدعتهم، ونهرهم واجتث أوهامهم من عروقها، وعاد بهم إلى الصواب..
يروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي، أن رجالا «خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم:
ما حملكم على ما صنعتم؟
قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد.
فقال عبد الله: «لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا».
روى ذلك شيخ المحدثين عبد الله بن المبارك رحمه الله. «١»
وأظن، والله أعلم، أن هؤلاء أخذوا هذه البدعة عن النصارى، إذ كانت أراضي الفرات حول الكوفة كثيرة الديارات النصرانية، وكانت قبيلة طي تسكن حول الكوفة آنذاك، وقد فشت فيها النصرانية قبل الإسلام، كما يدل على ذلك كون رئيسها عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه نصرانيًا قبل إسلامه.
ومن ها هنا، من عبد الله بن مسعود، اقتبس الوعي الصحيح الداعون إلى الإسلام على تعاقب الأجيال.
إنها كلمة الحق، وعنوان الوعي، وشارة التربية النبوية الكريمة.
سيماهم في كلامهم، مثلما هي في وجوههم، من يقاتل العدو إذن لو اعتزل العابدون؟
من يرد كيد الصهيونية والماسونية، والدعاية الشيوعية الإلحادية، إذا بقي المصلون في مساجدهم الآن لا يضمون جهودهم إلى جهود دعاة الإسلام؟
فلما مات ابن مسعود وأصحابه، وذهب جيل المجاهدين من التابعين الذين رباهم الصحابة، عاد البعض إلى التخلي عن الجهاد، وإلى العزلة، مرة ثانية، في النصف الثاني من القرن الثاني.
ابن المبارك يرث ابن مسعود
ولكن الله سبحانه يهدي عبد الله بن المبارك « ت ۱۸۱ هـ » ليجدد حيوية الأمة.
كان رحمه الله محدثًا ثقة، وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد يشهد بذلك، وكان فوق ذلك من الفقهاء النبلاء، وله مال كثير ينفقه على أهل العلم في جميع عواصم الإسلام، وله شعر إيماني جيد.
ولم يكتف بذلك، بل كان داعية مجاهدًا، يغزو كل سنة بلاد الروم، ويتخذ له من طرسوس مقرًا، وهي جنوب تركيا الآن، حتى صار بهذه الصفات المجتمعة رأس المحدثين في جيله ذاك.
تهز ابن المبارك هذه الكلمة التي نقلها في كتابه عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ فيتخذ منها نبراسًا، ويقوم بدور ابن مسعود ثانية، حتى نراه ينكر على رفيقه الزاهد العابد الثقة الفضيل بن عياض رحمه الله «ت ۱۸۷ هـ» اعتزاله ومجاورته في مكة.
كان الفضيل ثقة، وحديثه في الصحيحين يدل على ذلك، وهو أشهر العباد الزهاد في تاريخ الإسلام، وأجودهم كلامًا، لكن ابن المبارك لا يرى كل ذلك مكافئًا لترك الجهاد وقتال العدو، فيخشن له الكلام، حتى يصفه بأنه عابد لاعب بعبادته، ويبعث له من طرطوس، وبعد معركة من معاركه، قبل أن ينفض غبار المعركة عنه، أبياتًا رائعة جدًا تظل حجة لكل داعية من بعده.
إنها أبيات أكثر من رائعة، وأكثر من صادقة، وأكثر من بليغة.
فافتح قلبك، وفك قيوده و أساره، ليطير ويحلق عاليًا مع أبيات ابن المبارك....
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الكريهة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا عن مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب «٢»
قال ابن المبارك هذا لمن انصرف إلى العبادة والمجاورة في الحرم المكي، وكان الفضيل يلقب بعابد الحرمين، وله شهرة بكثرة البكاء، ولذلك غمزه بذكر الدموع، وكأنه كان مثل بعض المصلين، يتطيبون بدهن الورد وغيره إتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فغمزه بذكر العبير الواحد السهل، في حين كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولورثته من العلماء المجاهدين عبير غبار المعارك إضافة لعبير الورد والمسك.
قال ابن المبارك هذا لأطهر زاهد في ذاك العصر، بل في عصور الإسلام التالية له، فماذا نقول اليوم لمن ينصرف عن الجهاد والدعوة والأمر والنهي لا إلى كثرة العبادة، بل إلى الراحة والترف وجمع الأموال والحرص على إرضاء زوجته؟
وهل لنا أن نقول لمتزهد اليوم إلا كما قال ابن المبارك: يا عابدًا لو أبصرت دعاة الإسلام يصاولون دعاة الكفر والضلال الحزبي لعلمت أنك بالعبادة تلعب؟
ولئن انحنت ظهور بعض المتعبدين اليوم من كثرة الصلاة، جفت حلوقهم من مواصلة الصوم، فإن دعاة الإسلام قد انحنت ظهورهم بعد الفرائض والسنن من كثرة مجالس التداول في أمور ومصالح المسلمين، جفت حلوقهم من كثرة السعي والحركة.
الشيخ الكيلاني... على الدرب
وتتلاحق من بعد ابن المبارك أجيال وأجيال، وإذا بالهمم تضعف مرة أخرى، وإذا بالزهاد والعباد يعتزلون في الرباطات، ويتركون إرشاد الناس، ويعرفون الدعوة فيشيع الاضطراب في المجتمع المسلم مرة أخرى، فإذا بالقرن السادس الهجري يلد لنا وارثًا صادقًا من ورث تلك الأقباس الأولى لابن مسعود وابن المبارك، ينتفض، ويأبى وعيه الانسياق في تيار بدعة الترهب والاختفاء عن الناس، فيقف ينادي الأمة، ويدلها على الأمراض التي تهددها.
إنه الشيخ القدوة العارف عبد القادر الكيلاني رحمه الله.
كان فقيهًا ثقة من فقهاء الحنابلة ببغداد، والغالب على الحنابلة في كل عصورهم الزهد والبعد عن كل ما يعارض التجرد للعلم، وكان شريفًا علويًا من ذرية الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما انتسب إلى مدينة كيلان لسكنى آبائه فيها، ولابن تيمية ثم لابن القيم مدح له، وهما اللذان يسميانه بالشيخ القدوة، كما في أكثر من موضع من مدارج السالكين.
تكلم الشيخ عبد القادر كثيرًا، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، وينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعًا والإمام يخطب خطبه الأسبوعية سنة ٥٤١ هـ، ويودعها كتابًا سماه «الفتح الرباني والفيض الرحماني» قد تجد فيه ما يجب رده، لكنه مملوء بصيحات الحق، والالتفاتات القيمة، والتشديد على وجوب الدعوة والأمر والنهي.
فاسمع من صيحات الحق هذه قول عبد القادر رحمه الله إن:
«المريد الصادق في إرادته الحق عز وجل في بداية أمره يضيق عن رؤية الخلق وعن سماع كلمة منهم، وعن رؤية ذرة من الدنيا، لا يقدر أن يرى شيئًا من المخلوقات، يكون قلبه تائهًا وعقله غائبًا وبصره شاخصًا، لا يزال كذلك حتى تقع يد الرحمة على رأس قلبه، فيأتيه السكون...»
وإذا تمكن في توحيده وإخلاصه ومعرفته بربه عز وجل وعلمه به ومحبته له؛ جاءه الثبات واتساع الخلق، تأتيه القوة من الله عز وجل، فيحمل أثقالهم من غير كلفة.
يقرب منهم ويطلبهم ويكون كل شغله في مصالحهم، وهو لا يشتغل عن ربه عز وجل طرفة عين.
المتزهد المبتدي في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، لا يهرب منهم، بل يطلبهم؛ لأنه يصير عارفًا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه.
المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم.
كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟
ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.
من كملت معرفته لله عز وجل صار دالًا عليه.
يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، يعطي القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم.
يامن اعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول.
یا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم واقربوا مني.
قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل
ما وقعتم بشيء، تقدموا.. » « ٣ » .
قال هذا رحمه الله وهو في الشيخوخة، وكذلك فهم العالم العامل، وأن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا.
تأمل قوله: «يا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم».
خرب صومعتك أيها الهارب الذي ترزح تحت نير الأفكار الأرضية، وآراء طواغيت القرن العشرين.
خذ مكانك في صفوف دعوة الإسلام .
ابن الجوزي يصف حالة الشجعان
وفي ذات الوقت كان داعية آخر في بغداد يحمل مثل هذا القلب الكبير أيضًا، ويصيح بأهل بغداد.
إنه أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي مؤلف «زاد المسير في علم التفسير» و «تلبيس إبليس» وعشرات الكتب النافعة، أبى إلا الصراحة، فاندفع يفضح ويقول:
«الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة وأتباع جنازة وعيادة مريض.
إلا إنها حالة الجبناء.
فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.» «٤»
وهكذا استمرت كلمات الواعين في كل جيل، لا يسوغون لأحد أن يعتزل ويقعد عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة، ولو استعرضنا الجميع لطال السرد، ولكن الدكتور حسان حتحوت -بارك الله فيه- جمع بلاغة الجميع، وناب عنهم، وأعطى كلمة الفصل في أبيات واضحة، وذلك قوله:
حسبوا بأن الدين عزلة راهب
واستمرءوا الأوراد والأذكارا
عجبًا أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضا
ونوافلًا لله واستغفارا
والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرارا
والدين حكم باسم ربك قائم
بالعدل لا جورًا ولا استهتارا. «٥»
دع بيتك وراء ظهرك
والقعود في البيوت، من بعد الاعتزال في المساجد، أكثر بعدًا عن صفة المسلم الكامل، ولذلك كان للصحابة رضي الله عنهم إنكار شديد على من يتوارى في بيته، ويأنس بالقرب من زوجه وأولاده، ويترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويتخلى عن مكانه الذي يجب أن يحتله في صف المحاربين للطواغيت.
وقد حفظ لنا الرواة عن الصحابي الجليل المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله القرشي رضي الله عنه أنه قال:
«إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره.» «٦»
وما كان أعيان العلماء يرضونه بتاتًا هذا الغزالي رحمه الله يقول:
«اعلم أن كل قاعدة في بيته أینما کان فلیس خالیًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق.
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه ـفرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية- أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد، ومن العرب، والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم» «٧»
وهذا ابن تيمية يفسر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ (المدثر : ١ - ٢) فيقول:
«فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢)
والجن لما سمعوا القرآن:
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِين﴾ (الأحقاف: ٢٩). «8»
وكما تتفاضل الأعمال في الميزان الإيماني الإسلامي، فإن العمل الصالح الواحد يتفاضل تطبيقه أيضًا من شخص إلى شخص وظرف إلى ظرف، ووقت إلى وقت، بحيث يندب إليه أحد المسلمين دون الآخر، وفي ظرف دون آخر، ولكل مسلم عمل من أعمال الخير هو أفضل له من الأعمال الأخرى الفاضلة، وذكر ابن القيم رحمه الله أن «الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله، أفضل من الحج، والصوم، والصدقة، والتطوع.
والعالم الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة، وقراءة القرآن والتسبيح.» «۹»
فلا يحتجن أحد بأحاديث فضل النوافل والتسبيح ليبرر اعتزاله الناس، ويترك مهمته الإرشادية التي يلزمه إياها علمه الذي تعلمه، فإن مباشرة الدعوى خير من مباشرة النوافل.
الداعية رحالة
ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يوميًا، والإكثار من ختمات القرآن، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجرًا، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكًا هادفًا، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم.
هكذا كان شأن الدعاة دومًا.
وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.
انظر مثلًا كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي، تبلغ الأعراب كلمة الإسلام وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: «لا أزيد عليهن ولا أنقص»
كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
«يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك» «۱۰»؟
أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تؤتى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أوالبرد، ليبلغ دعوة الإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها.
لا بد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم.
ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة.
فافقه سيرة سلفك، وقلدهم، تصل، وإلا فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه.
«١» كتاب الزهد لابن المبارك / ۳۹۰.
«۲» طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ١ / ٢٨٧.
«۳» الفتح الرباني للشيخ عبد القادر / ٧٣ مع حذف.
«٤» صيد الخاطر لابن الجوزي، طبعة محمد الغزالي ٢٢٤.
«٥» مجلة المسلمون ۱۹۹/۳ من قصيدة طويلة.
«٦» طبقات ابن سعد ۲۲۱/۳.
«٧» إحياء علوم الدين ٣٤٢/٢.
«٨» مجموع فتاوى ابن تيمية ٣٢٧/١٦.
«٩» عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم / ۹۳.
«١٠» صحیح مسلم ۳۲/۱.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل