; التبشير الإسلامي في جنوب السودان | مجلة المجتمع

العنوان التبشير الإسلامي في جنوب السودان

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 04-نوفمبر-1975

مشاهدات 35

نشر في العدد 273

نشر في الصفحة 40

الثلاثاء 04-نوفمبر-1975

التبشير الإسلامي في جنوب السودان

  • جهود متواضعة أثمرت لأن الإسلام غلاب.
  • ضرورة التخطيط والتنظيم في التبشير الإسلامي في كل مكان.

فيما يتعلق بالتبشير الإسلامي بالإقليم الجنوبي فنورد الحقائق التالية:

أولًا: لقد دخل الإسلام الإقليم بطريقة غير منتظمة، وإنما بطريقة عفوية فقط. فقد دخل عن طريق التجار والموظفين والفلاتة «الهوسا والفلاني» وعن طريق حاميات العهد التركي ومنها حامية أمين باشا في العهد التركي وقبيل المهدية.

ولكن هزيمة المهدية لجيش أمين باشا جعلت الآخرين يهربون إلى يوغندا ويقطنون بها، وعيدي أمين رئيس جمهورية يوغندا الحالي واحد من سلالتهم. وهذا الهروب إلى يوغندا أضعف تأثيرهم على الأقليم، لأن المهدية لم تركز في الإقليم الجنوبي لأن طموحها كان أكبر من ذلك. ولكن أكبر دور من التبشير قام به سلاطین الفور الذين تزاوجوا مع قبائل الفرتيت في بحر الغزال، ومثل ذلك فعل البقارة الذين قاموا بامتصاص بعض الدينكا والتأثير عليهم، وكان ذلك سببًا في دخول معظم سكان هذه المناطق في الإسلام. ثم كان دور بعض الجنود في عام ١٩٢٤م، وفي أثناء الحرب الأهلية؛ لأن ذوي الأخلاق المسلمين من الجنود والموظفين كانوا يقومون بنشاط تبشيري ولكنه كان محدودًا ثم كان هناك دور الأفراد كالشيخ محمد الأمين القرشي، وعبد الله آدم زكريا والمغفور له علي بلدو، وبعض الطرق الصوفية كالقادرية. أما النشاط التبشيري الإسلامي والقائم على أسس علمية حديثة مدروسة وإمكانيات مخططة ومركزة فلم يحظَ به الإقليم على الإطلاق.

 ثانيًا: كما ذكرنا آنفًا أن الاحتلال البريطاني قام بقفل الإقليم في وجه التجار من مسلمي الشمال والفلاتة، وانتهزت الكنيسة هذه الفرصة «لتمسيح» الوثني والمسلم على حد سواء مستغلة في ذلك الوضع «السلطوي» وجهل المسلمين بأساسيات دينهم، وتفكك الأسرة الجنوبية بصفة عامة. ولكن رغم كل ذلك صمدت أعداد كبيرة من المسلمين-بعون الله وتوفيقه- وحافظت على دينها. كما أن هنالك قبائل وثنية رفضت المسيحية تمامًا كقبائل «المولدي» في شرق أعالى النيل و«التيوسا» و«الديدنقا» بالاستوائية، كما قابلها «الدينكا» بفتور شديد لأنها تناقض الكثير من أوضاعهم.

ثالثًا: إن المخطط المحلي للصليبية يهدف أساسًا إلى تنصير المسلمين أو جعلهم في مركز الانحطاط والجهل والتخلف، حتى تسهل إبادتهم عن طريق جهلهم ويتم إقصاؤهم عن الساحة فتكون خالية للصليبية العالمية والمحلية وهذا المخطط يسير بخطى ثابتة وناجحة.

رابعًا: المسلمون في هذا الإقليم يعتمدون على أنفسهم كلية وبطريقة بدائية، ومثال لذلك مجموعة من المسلمين تتكون من ثلاثة عشر مسلمًا قام بإدخالهم إلى نور الإسلام المسلم عبد الله آدم زكريا، فهؤلاء يصلون عراة داخل راكوبة من القش ونساؤهم وأطفالهم من ورائهم، وأهم نشاطات المسلمين إلى جانب صلاة الجماعة- في بعض الأماكن المستنيرة- إقامة المناسبات الدينية، وبناء الخلاوي والتي انتشرت في أماكن محدودة وبإمكانيات محدودة أيضًا، وغالبيتها ذات شكل بائس ومنفر، عندما يقارنها الطفل الصغير مع إمكانيات الكنيسة الضخمة ومبانيها الجميلة الواسعة والإغراءات التي تقدم، وكل هذا على بعد أمتار من الخلوة الآنفة الذكر. كما أنهم كمسلمين مفككون ويفتقرون إلى تنظيم يهتم بهم. 

خامسًا: في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود حظي المسلمون هناك- لأسباب سياسية- باهتمام كبير من الحكومة المركزية، وخاصة في الاستوائية تحت إدارة المغفور له علي بلدو محافظ المديرية في تلك الفترة، والذي قام ببناء عدد كبير من الخلاوي والمساجد والمعاهد، كما أحضر عددًا كبيرًا من المرشدين والوعاظ وأئمة المساجد، ورغم اختلاف الناس هناك حول تقييم هذه التجربة إلا أنها أتت بفوائد ملموسة، لا جدال في ذلك. وهذه المساجد الآن هي منارات يؤمها المصلون من أبناء الإقليم وغيرهم فصارت كأمل وضّاء لغد مشرق بإذن الله.

ففي جوبا مثلًا ستة مساجد يؤمها أكثر من ألف مسلم من أبناء الإقليم وغيرهم. وكل القرى والمدن التي بها تجمعات مسلمين بها مساجد تؤمها أعداد كبيرة من المسلمين «كالرنك» و «القيقر» و«ملوط» و «وزدكونة» و «كدوك» بمحافظة أعالي النيل، و«راو» و«راجا» و«أويل» بمحافظة بحر الغزال، و«جوبا» و«مريدي» و«توريت» و«كاجوكاجي» بمحافظة الاستوائية، وهذه مجرد أمثلة حية يلمسها الزائر لتلك المناطق. والملاحظة الجديرة بالالتفات أن هذه المساجد ينقصها الأئمة والمرشدون الأكفاء والإمكانيات المادية والتخطيطية ذات الأثر الفعال.

سادسًا: إن الحقيقة التي يلمسها المرء هي حماس المسلمين وخاصة أبناء الإقليم منهم. فهم يشعرون أنهم في وضع حرج ومنافسة شرسة تحتم عليهم العمل الدؤوب وإلا سيجدون أنفسهم- في أمسية يوم أو صباحه- کمسلمی زنجبار أو الفلبين أو أثيوبيا على أحسن تقدير.

هذا وقد سمعت همسًا عند أكثر من مسؤول وشخصية من المسلمين يقولون إن اتفاقية أديسأبابا شملت نصًّا يتعلق بالنشاط الديني بالإقليم وأن هناك حدًّا من النشاط التبشيري الإسلامي، كما أعطى المجلس التنفيذي حق طرد كل من لا يرغب فيه بالإقليم! ولم أتمكن من مقابلة أحد من المسؤولين الكبار الذين صنعوا الاتفاقية لأستوثق بنفسي من صحة هذا الزعم أو دحضه.

هذا هو وضع المسلمين الحقيقي الآن وعلى الطبيعة، ولكن ثمة سؤال هام ألا وهو: ثم ماذا بعد الاتفاقية؟

لقد وضح مما سبق ذكره أن نشاط الكنيسة المحموم ذاك إنما هو محاولة لسبق الزمن حتى تتقدم المسلمين في العمل، وتركز أقدامها ونفوذها وتقطع أمامهم خط التقدم، وذلك بنشاطها وإمكانياتها ومكرها ودهائها، لأنها وكعادتها لا تستطيع أن تعمل منافسة حرة مع المسلمين، وفي هواء نقي طلق يستنشقه الجميع ولو بنسب مختلفة!! وعلى ضوء كل ما تقدم من ملاحظات وتحليلات وعرض نستطيع أن نتقدم بهذه المقترحات لعلها تساعد ولو إلى حد ما في التبصير بأبعاد العمل للإسلام في هذا الإقليم وفي هذا الجو الخانق على وجه التحديد:

أولًا: مراجعة محاولة الماضي في مجال العمل للإسلام بالأقليم وتقييمها تقييمًا دقيقًا، كتجارب واقعية مرحلية ومثال ذلك:

  • تجربة حكومة الفريق إبراهيم عبود بقيادة السيد علي بلدو محافظ الاستوائية سابقًا.
  • تجربة الشيخ الوقور محمد الأمين القرشي بمحافظة أعالي النيل.
  • تجربة النائب عبد الله آدم زكريا بمحافظة الاستوائية.
  • تجربة الفور والبقارة والفلاتة، ومجاهدي ثورة ١٩٢٤بمحافظة بحر الغزال.
  • تجربة جمعية التبشير الإسلامي بواو بمحافظة بحر الغزال. 
  • تجربة المركز الإسلامي الأفريقي «سابقا» بأم درمان.
  • تجربة مصلحة الشؤون الدينية «مكاتب المرشدين والوعاظ بالإقليم ولجنة أندية الوحدة الوطنية ۱۹۷۳». 
  • تجربة جمعية التبشير الإسلامي بأم درمان بقيادة المربي المعروف شوقي الأشد وجماعته.. إلخ. 

ثانيًا: يجب ألّا يترك التبشير الإسلامي لمجهودات فردية تتأرجح مع حماس المتحمسين وتنطوي مع انطواء حماس المتحمسين أيضًا.

ثالثًا: يجب أن يقوم أي عمل للتبشير على أساس خطة وبرنامج تسبقها دراسة ميدانية موضوعية؛ وذلك حتى يمكَّن المخططون من وضع كل خطة على أساس علمي مدروس. 

رابعًا: أي نشاط للتبشير يجب أن يكون قوميًّا، ويجب العمل على إبعاده عن أي شبهة سياسية أو صراعات سياسية أو انتهازية. يجب أن يكون خالصًا لوجه الله ويدخله الأجر والثواب الخالص من عند الله، وعليه لا بد من إيجاد هيئة مركزية قومية للتبشير ذات فروع منتشرة على مدى القطر، ويمكنها أن تعمل تحت أي اسم يناسب الزمان والمكان والإيفاء بالغرض على التمام.

خامسًا: هذا يحتم إقناع الدولة وكل المسؤولين بجدوى هذا النشاط التبشيري الهادئ المخلص الهادف من أجل مصلحة البلاد والمسلمين مستقبلًا وحماية المسلمين بالإقليم الجنوبي، وحماية أبنائهم وضمان سلامة مستقبلهم وكل هذا استنادًا إلى حرية الأديان التي ينبغي أن تكون مكفولة لكل الأديان بالبلاد.

سادسًا: يجب العمل بجد على إيجاد تنظيم إقليمي متعدد الأغراض يوحد المسلمين بالإقليم، ويوحد كلمتهم وجهودهم ويرعى مصالحهم ومساجدهم ومعاهدهم وليكن ذلك تحت أي اسم خيري أو اجتماعي أو ديني أو اقتصادي، كما يفعل المسيحيون الآن.

سابعًا: وإنه لمن الضروري الاعتماد- كسياسة ثابتة- على أبناء الإقليم أو القبيلة في العمل التبشيري، وهذا يعني البحث الجاد عن المتعلمين المسلمين واستقطابهم وتدريباتهم للقيام بهذه المهمة الشاقة ثقافيًّا وحركيًّا.

ثامنًا: يجب أن يبدأ العمل أولًا بالتركيز على مناطق تجمعات المسلمين ثم التحرك منهم لغزو الأماكن الأخرى، وهذا يساعد على تدريب الدعاة، كما وأن هذه المناطق تهيئ حماية حقيقية للعمل الإسلامي وأمن دعاته في حالة أي مخططات إرهابية ضد العمل الإسلامي ودعاته، وخاصة في المراحل الأولى لهذا النشاط، كما يجب الاستفادة القصوى من أماكن تواجد الخلاوي الحالية كمنطلق آخر للنشاط، لأنها منتشرة بالإقليم ويكفي أن بمدينة واو وحدها- عاصمة مديرية بحر الغزال- حوالي ثماني خلاوى، بإحداها حوالي خمسة وتسعون دارسًا مسلمًا صغيرًا.

وكذلك يجب أن تكون المساجد الحالية مراكز تبشير ونشاط ديني مكثف ومنطلق حقيقي إلى مناطق وآفاق أخرى.

تاسعًا: توعية المسلمين أبناء الإقليم الموجودين حاليًّا والعمل على رفع مستواهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وذلك بتدريبهم على أساليب الزراعة الحديثة والحرف وترشيدهم وتبصيرهم بأمور دينهم وما يدور من حولهم، والاهتمام بأسرهم وتوثيق عراها، وتشجيعهم على التزاوج والإنجاب مع حسن التربية؛ وذلك لمواجهة المنافسة القائمة على الكثافة السكانية بالإقليم، والعمل كذلك على إزالة أي نعرات قبلية بينهم وذلك بالتزاور والرحلات وجمعهم في الصلوات والمناسبات وأعمال الخير.. إلخ. 

عاشرًا: الاهتمام بتوعية وتثقيف المسلمين الذين حول الإقليم ولهم صلة مباشرة به كعرب البقارة الرحل والفلاتة والفور وغيرهم؛ وذلك ليقوموا بدورهم في العمل بوعي وتصميم، وتشجيعهم على دخول الإقليم والاستقرار به وتشجيع الهجرة من الأماكن الفقيرة بدارفور إلى الإقليم أيضًا.. إلخ. كل هذا يجب أن يتم ولكن بدون أي منافسة.. تبادل المصالح والمنفعة فقط هما الأساس.

حادي عشر: حصر جميع الطلاب المسلمين من أبناء الأقليم بالمدارس والجامعات وتعهدهم في جميع مراحل الدراسة بالرعاية والتشجيع والدعم ولا سيما النجباء منهم والمبرزين.

ثاني عشر: الاستفادة القصوى من توصيات مدراء التعليم بالإقليم الجنوبي (٣-٥ يوليو ۱۹۷۲م)، والذين أوصوا بضرورة استمرار مناهج التعليم باللغة العربية، وأوصوا كذلك بإرسال بعض المعلمين من أبناء الإقليم ليتعلموا اللغة العربية بالخارج. كما يجب التأكد من أن مادة الدين الإسلامي تدرس للطلاب المسلمين- ولو كان طالبًا مسلمًا واحدًا- في كل المراحل التعليمية ويقوم بتدريسها معلمون مدربون مقتدرون أكفاء، ويدرسونها بأحدث الوسائل والطرق المؤثرة فكريًّا ونفسيًّا.

ثالث عشر: التركيز بشكل فعال على بناء رياض الأطفال والملاجئ ودور الرعاية ومراكز التدريب المهني والصناعي والكتابي ومعاهد تعليم اللغة العربية وإنشاء المكتبات العامة الموجهة للاضطلاع والبيع والتبرع على حد سواء. على أن تكون جميعها حول دائرة المسجد ما أمكن ذلك؛ لأن هذه أنجع وسيلة لاستقطاب أبناء الوثنيين والمسيحيين معًا.

رابع عشر: الاهتمام كل الاهتمام بالنشاط الاجتماعي العام كبناء الأندية العامة الموجهة والنشاط الاجتماعي والرياضي.

خامس عشر: تنظيم التجار المسلمين في غرفة تجارية موحدة، وتوعيتهم بصفة مستمرة بدورهم في التبشير الإسلامي في ذلك الإقليم.. إلخ!

سادس عشر: شحذ همم الطلاب المسلمين بالجامعات بالإقليم الشمالي لدعم هذا العمل بالتوعية، والعمل على جمع التبرعات- متى كان هذا ضروريًّا- والقيام برحلات منظمة إلى أماكن التبشير للاتصال بالشباب وربط أواصر الأخوة.. إلخ. 

سابع عشر: تشجيع الفنيين المسلمين من ذوي الخلق الديني القويم للعمل بالإقليم- ولو إلى فترات قصيرة- في مجالات الإنشاء والتعمير والخدمات؛ ليعطوا صورة ذات أثر واضح للمسلم الحقيقي، وفي هذا دعم كبير للجهود التبشيرية. 

ثامن عشر: توفير الإمكانيات المادية والأدبية بتجميع جهود المسلمين وتوعيتهم في هذا المضمار، كما يجب الاتصال بكافة المسلمين على امتداد العالم لدعم هذا النشاط بأحوالهم وأنفسهم.

هذه هي خلاصة هذه الدراسة الميدانية وهي نموذج لكل عمل تبشيري في أي قطر أفريقي آخر. 

وختام هذا الأمر كله فإنني أوصي مع إصرار شديد.. أنه لا تخطى خطوة إلا بعد دراسة، ولا يبدأ عمل إلا بعد إعداد عدته، ولا يرسل داعية إلا بعد تدريبه وإلا فالذي يسود فهو الارتجال ثم الفشل والعياذ بالله! نسأل الله التوفيق.

الرابط المختصر :