; شهداؤنا في الصومال قافلة جَديدة في طريق الجنة | مجلة المجتمع

العنوان شهداؤنا في الصومال قافلة جَديدة في طريق الجنة

الكاتب محمد المجذوب

تاريخ النشر الثلاثاء 18-فبراير-1975

مشاهدات 18

نشر في العدد 237

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 18-فبراير-1975

لم يعد ضروريًّا وصف فواجع الإسلام بالهول، وتشبيه أثرها في نفوس المسلمين بالزلازل.. فقد كادت هذه الألفاظ تفرغ من مدلولاتها اللغوية لكثرة تردادها، ولتتابع الكوارث التي تستنفدها.. وعلى هذا لا أرى داعيًا إلى عرض الأخدود الذي أوقده ملاحدة الصومال الشقيق هذه الأيام لرجال الإسلام، في موكب من العويل، والدعاء بالويل والثبور. وما أدري، فلعل مرد اتجاهي هذا جفاف الدموع في عيني، حتى لم أعد قادرًا على البكاء، أو امتلاء المشاعر بين جنبي بأكداس الأحزان، حتى لم يعد فيها متسع لحزن جديد. وإذن فسأتجنب ما استطعت لغة العاطفة، کي أفرغ لمعالجة القارعة الجديدة بالأسلوب الموضوعي، الذي يحدد المعاني في إطار الوقائع وحدها. إن في مقديشو زمرة من العسكريين قفزت إلى مركز السلطة عن طريق الدبابة، التي توشك أن تصبح ميزة العصر في أمريكا اللاتينية وإفريقية والبلاد العربية.. وهي كغيرها من العصائب الثورية تدرك جيدًا أن ليس لها من قاعدة شعبية ترتكز إليها، فيهاجمها الخوف من كل مكان، إذ لا تجد لها نصيرًا يدفع عنها نقمة السواد الأعظم. وقد تعلمت من محركها في الكرملين وبكين أن الرعب أقوى دعائم التسلط الكرهي، فلجأت إلى الحديد والنار تختطف بهما أرواح الأبرياء عند كل بادرة تتصور فيها تهديدًا لسلطتها ولو بمجرد الظن. وقد شاء الله أن يكون الإسلام هو الحصن الأخير الذي إليه تأوي كرامة الإنسان وحريته، والذي لا يزال أبدًا رافد العزة في نفوس أهله، يغمز آباءهم كلما أذن بالخمود، فتتلظى أنوف الأسد، وتستعيد الأعصاب في ظلمة طاقاتها الكامنة، لتقف في وجه التسلط الوحشي، معلنة نداء دينها الخالد: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا». لقد بدأت معركة الإسلام مع أعداء الإنسان منذ انطلقت صيحته الأولى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تتابعت المؤامرات على دين الله حروبًا في الحلبات، ودسائس في الظلمات، توقدها اليهودية الحاقدة حينًا، وتقودها المجوسية الموتورة حينًا آخر، ثم تتضافر هذه القوى الشيطانية مع الفلسفات الوثنية، لتخلق في صميم المجتمع الإسلامي أشتاتًا من الفرق والمذاهب والتيارات الهدامة، تشغل الإسلام بالمعارك الداخلية عن الامتداد في جنبات الأرض، ولتغري جيوش الطواغيت بالغارة على شعوبه، التي فترت في صدورها حمية الدين، وأقبلت على مواريث الجاهلية تتلهى ببهارجها المسمومة.. ولكن حقائق الوحي ظلت، على امتداد هذه الفتن المثيرة، تطلق أضواءها دون انقطاع، فتجمع الطاقات المبعثرة، وتوحد القلوب المتنافرة، وتنير للثابتين على أمانة الله وضح الجادة، فيمضون في الطريق الأقوم يعلنون كلمة الله ويبلغون دعوته، ظاهرين على الحق، لا تثنيهم عن رسالتهم النبوية ألغام الباطنية، ولا مذابح الصليبية، ولا زلازل التتار، ولا كوارث الاستعمار. حتى كانت الضربة التي أطاحت بالخلافة على يد الزنيم اليهودي، فانكسرت مغاليق السد، وطاشت العقول، ثم تشتت بالركب السبل، فإذا أرض الإسلام مشحونة بأقزام القيادة، يتنافسون على مزقها، ويجهزون على طاقاتها، ففي كل بقعة مسيلمة وفي كل ناحية سجاح، وفي كل جانب زحوف من الكفر البواح.. على أن قمة الفواجع في هذه الفترة الحالكة من عمر الإسلام هي أقدام المتسلطين في أرضه على نسف الشورى.. الركن الأساسي في نظامه السياسي، ومن هذه الثغرة تسلل البلاء الأكبر، فكممت الأفواه، وعقدت الألسن، وحيل بين الإسلام وعقول المسلمين، فإذا الكثرة الكاثرة منهم مشلولة الوعي، لا تكاد تفقه عن دينها شيئًا.. ثم تدفقت سيول الفتن، فطفا الغثاء، وغاص الدر، فلا يسمح لصوت بالارتفاع إلا أن يكون هتافًا للكاذبين، أو تسفيهًا للصادقين. وفي هذه الغمرة المزلزلة شرعت أبواق الإلحاد المستورد من الشرق والغرب تطلق المفتريات وتحوك المؤامرات.. فإذا آنست بقايا الوعي تراقب تحركاتها، انصرفت إلى حَمَلة الدعوة الإلهية تسدد إليهم سهام التهم، وتسلط عليهم ذئاب الدنيا تنبحهم، فتمزق أعراضهم، وتشوه أغراضهم، وتؤلب عليهم غناء الغوغاء ممن لا يفرقون بين الحق والباطل.. حتى إذا ما وثق الطواغيت من سنوح الفرصة صبوا على الأبرياء من أفانين النكال ما تنوء به الجبال.. وبذلك تنفسح أمامهم السبل لمواجهة الإسلام نفسه، فيعلنون ما استتر من حقدهم عليه، ويعملون على نقض ما تبقى من بنائه الاجتماعي، ليستبدلوا به مقررات التقطوها من أعداء الله، ثم راحوا يفرضونها على شعوبهم، التي خيل إليهم الغرور أنهم استطاعوا تفريغ قلوبها من كل صلة بمبادئ الوحي. كان هذا ولا يزال مسلك كل طاغية قفز إلى مركز السلطة في بلاد الإسلام عن طريق الرشاش والدبابة. حدث ذلك على أيدي العصابة الماسونية في تركيا، حيث علقت عشرات المشانق لأحرار العلماء، الذين أعلنوا حكم الإسلام على تصرفاتها.. ثم تكررت المأساة في إيران والأفغان ومصر والسودان والشام وباكستان وزنجبار وجنوب اليمن.. واليوم تطل أفاعي الفتنة من قلب الصومال، الذي خاض عشرات المعارك لاستخلاص حويته من مخالب الاستعمار الصليبي، ثم وجد نفسه فجأة أمام الشرذمة نفسها التي تأبى إلا تجريد المسلمين من كل مقومات العزة. إن نظرة واعية إلى إطار المآسي، التي يعيشها الإسلام في دياره منذ نصف قرن، تؤكد دون ريب أنها سلسلة متماسكة الحلق، قد نظمت بعناية محكمة، لتحقق أهدافها في مواقيتها المحددة.. فوراء كل انفجار في جانب إيذان بالتفجير في جانب آخر.. وإلا فكيف يفسر المفكر المدقق توالي هذه الضربات على بقايا نظام الحياة الإسلامية في بلاد العرب والإسلام.. ولعمرى لئن لم يكن ثمة تخطيط مقصود وراء هذه النوازل لأنكر أن لكل واحدة حوافزها المشجعة على أمثالها. ولنلق النظرة الفاحصة على مأساة الصومال العزيز.. لقد انفجر انقلاب الصومال العسكري في جو الزعازع الثورية التي كانت تخض معظم الأقطار العربية.. فهناك نكبة حزيران التي مرغت بها العسكرية الدكتاتورية وجوه العرب والمسلمين في أنحاء العالم.. وقد سبقتها حمامات الدم في اليمن ومصر، وفظائع الماركسية في جنوب اليمن، والمشانق الجماعية في العراق ومآسي الإسلام في الشام.. فوجد انقلابيو الصومال في هذه الممهدات أفضل المشجعات على إعلان مخططاتهم دون تستر أو تردد، وبخاصة بعد الذي لمسوه من عجز الشعوب الإسلامية عن التناصر بإزاء هذا التخريب العام.. وهكذا أعلنوا غارتهم على الإسلام منذ الخطوات الأولى، وكان ذلك في إلغاء الحرف العربي، ومصادرة المعاهد الإسلامية لتحويلها ملتقيات شيوعية يحشد في فصولها الجنسان، ثم بإكراه المرأة المسلمة على ارتياد المنتديات الشيوعية باسم التوعية، تحت طائلة العقوبات الرهيبة، يصبها الجلادون على كل من يتخلف أو يغري بالتخلف عنها.. وبخاصة الرجال الذين يعارضون اتصال زوجاتهم بهذه الحمآت الخطيرة. النفاق المفضوح وكدأب الشيوعيين، ولا سيما في البلاد العربية، عمد هؤلاء إلى تغطية زحفهم على الإسلام ببعض مظاهر النفاق، رغبة منهم في امتصاص بعض النقمة، التي قد تحول دون حصولهم على مساعدات لا مندوحة لهم عن استجدائها.. فقام فريق من طغاتهم بجولة في بعض الدول العربية، لإقناع مسئولیها ومؤسساتها الإسلامية بأن انقلابهم لا يعدو حدود الإصلاح الداخلي، ولا يمكن أن يتعرض للإسلام بأي سوء.. بل إنهم حاولوا إنكار جريمتهم في محاربة العربية، وفي تنفيذ الأهداف الشيوعية من خلال مسيرة التعليم وغير التعليم.. وذلك على الرغم من افتضاحها في إذاعاتهم وصحفهم نفسها.. ومبالغة في التضليل سمحوا لوفد من رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وآخر من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أن يزورا الصومال ليتقصيا حقيقة الأوضاع على الطبيعة.. وكان الموفدون بفضل الله من الطراز الذي لا يخدعه التزوير، فبذلوا وسعهم للإحاطة بالواقع، ثم أقبلوا على الطواغيت يناقشونهم ويفندون مدعياتهم، ويحملونهم تبعة العواقب الوخيمة، التي سيجرون إليها الصومال المسلم بانحرافاتهم الخطيرة. واستطاع وفد الجامعة يومئذ أن يخترق النطاق المضروب على تجواله، فزار مختلف المدن والقرى، وكانت تلك مناسبة رائعة مكنت الإخوة الصوماليين من أن يطلقوا لعواطفهم الصادقة عنانها، فزحفت تظاهراتهم الكبيرة لاستقبال الزائرين هاتفة بشعائر الإسلام، التي أكدت سلامة الروح الإسلامي، وتفوقه على كل محاولة هدامة. ولقد غادر الموفدون الصومال يومئذ، وهم يحملون أسوأ التوقعات، بما لمسوه من تصميم الملاحدة على مواصلة الانحدار بشعبهم إلى أعماق الهاوية.. وليست خطوتهم الأخيرة بإلغاء التمايز بين الجنسين إلا تحقيقًا لهذا الاتجاه الرهيب، الذي لا يريدون من ورائه سوى القضاء على آخر معاقل الحياة الإسلامية في الصومال. لماذا المرأة دائمًا؟ هذا السؤال لا بد من الإجابة عنه، لأنه أحد مفتاحي المشكلة التي يعانيها الإسلام من أعدائه سواء كانوا قوميين أو شيوعيين أو ممن يسمون أنفسهم تقدميين. إن موضوع المرأة كموضوع العامل والفلاح أول ما يفتتحون به معارك الهدم في كيان هذا المجتمع.. فباسم المساواة بين الجنسين يستجرون المرأة إلى الشك في مقومات الحياة الإسلامية. وباسم الغيرة على العامل يحركون أحقاد هذه الطبقة ضد كل شي.. وبذلك يبدأ تمزيق أواصر المجتمع، ثم يستحر الصراع، الذي يتعهدون تغذيته بكل أنواع الوقود لكي يظل متجددًا لا ينطفئ أبدًا، وذلك هو السبيل الوحيد لبقاء القبضة الباغية حول أعناق المغفلين والأبرياء.. ثم عن طريق المساواة المزعومة بين الجنسين يتسلل الإلحاد إلى حصون الإسلام ينقضها لا حجرًا فحجرًا، بل جدارًا فجدارًا؛ ذلك لأن أحكام الإسلام في حظر الاختلاط الجنسي، کتنويعه أنصبة الميراث بين الذكر والأنثى، كلاهما نابع من نظامه المتكامل، الذي لا يقبل التجزئة. إن المرأة في نظام الإسلام مخلوق مکرم، أوجب على الرجل حياطته بالرعاية العالية، حتى ليعتبر نوع معاملته هو المقياس الذي يقرر قیمته نفسه، فهو الكريم إذا أكرمها، وهو اللئيم إذا أهانها. وجعل لها في كل مرحلة من حياتها حقوقًا لا تنقض ولا تنقص، فهي أُمًّا موضع الإجلال الذي لا يعلو عليه إلا مقام الألوهية، فتحت قدميها طريق الجنة، ومجرد الإساءة إليها ولو بكلمة «أف» مدعاة لغضب الله ولازدراء المجتمع الإسلامي. وهي بنتًا أو أختًا موضع الإيثار بالتكرمة على أخيها، وصاحبة الحق بكل فضيلة تسمو بالجنسين. وإذا كانت زوجة فهي السكن والمودة والرحمة لها مثل الذي عليها بالمعروف، وعلى الزوج نفقتها في سعة إن كان من ذوي السعة، وإن كان ممن ضيق رزقه فمما آتاه الله بالمعروف، وهي مع ذلك مطلقة التصرف في صداقتها لا سلطان لأحد على مالها سواها.. وقد عهد إليها بإشراف المهام إذ وضع في يدها أمانة إعداد الإنسان الذي يصلح لتحقيق ملكوت الله في الأرض.. ثم زادها كرامة وتأثيرًا فجعلها قوام المجتمع يسمو بسموها، ويهبط بهبوطها، ولهذا أحاطها بكل ضروب الحماية التي تصون سمعتها حتى من شبهة الظن، فكانت بذلك حارسة الشرف لمجتمعها الأصغر أولًا، ثم لمجتمعها الأكبر ثانيًا.. وعرفت هي ذلك بوعيها لحقائق دينها العظيم، فجعلت من بيتها- ولو كوخًا في براح من الأرض- جنة لا تسمع فيها لغوًا ولا تأثيمًا، فلا تفارقه إلا لضرورة قاهرة، وفي حدود المعاني التي تحفظ لها أنوثتها نظيفة نقية كما أحب لها الله.. ذلك شأن المرأة في نظام الإسلام.. وعلى أساس هذا الوضع عينت حدود ميراثها، فكان أقل في العدد من نصيب الذكر، ولكنه أكثر منه في الأثر والفعل.. وهو وضع لا انفكاك له عن نظامه الكلي أشبه بالقلب في الجسد الحي، إذا عزل أحدهما عن الآخر قضى عليهما جميعًا دون استثناء. ولقد أدرك هذه الحقيقة الضخمة قطب التبشير الصليبي القس زويمر، إذ سمع بعض زملائه من العاملين في الدعوة إلى النصرانية، يشكو استعصاء المسلم على مكرهم، وعجز جهودهم عن التأثير في قلبه، فأكد في تعقبيه عليه أن ليس غرض التبشير هو مجرد التنصير، ولكن أقصى ما يجب على المبشر عمله هو تفريغ القلب المسلم من الإيمان بالله ونقله من جو الإسلام إلى جو الحياة الصليبية، ثم قرر أن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع المسلم وسلخه من مقومات دینه. عملاء المبشرين ولا جرم أن زويمر- القس الصليبي الحقود- كان على خبرة كبيرة بمنزلة المرأة في حضارة الإسلام، إذ أدرك بحق أن مجرد انتزاعها من إحسان هذا الدين كافٍ لضعضعة الكيان الإسلامي كله.. والمؤسف أن فلسفة زويمر قد شقت الطريق إلى التنفيذ لا على أيدي قسسه ومدارسهم فحسب، بل عن طريق أذنابهم من حكام المسلمين وخريجي أفكارهم المسمومة.. وقد شهد بعيني رأسه أولى بوادر هذه الخطة الشيطانية تتحقق بعد أتاتورك، يوم أكره المسلمة التركية على السفور بقوة الحديد والنار، فدفع بذلك تركيا كلها في المنحدر الذي أطمع بها أخيرًا حتى مطران قبرص.. ثم جاءت الضربات تتلاحق في هذا الاتجاه الضرير، فإذا المرأة المسلمة في معظم الوطن الإسلامي، إلا من رحم الله، تترامى على خطى المرأة الجاهلية شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلت الكتابية أو الوثنية جحر ضب لدخلته وراءها.. فهي اليوم وزيرة وسفيرة، وعضو هتاف في مجالس الحكم، وموظفة تزاحم الرجل على عيشه، ثم هي «فنانة» تشحن الإذاعات بالأحاديث التافهة، والقهقهات الماجنة، دون أن تجد إنكارًا من أحد.. بل إن بعض حكام المسلمين لينشئون لها الكليات التي تعدها لأحقر المهن تحت اسم السكرتيرية.. وكان من نتائج هذا التدهور الخلقي أن يتجرأ بعض أذناب الغرب من الإمعان على الهزء بمفهوم الشرف عند المسلمين، حتى ليزعم أنه أصبح ينحصر عندهم في أحقر مكان من جسد المرأة. وإنما يريد بذلك التهوين من شأن العفة، والدعوة إلى الإباحية، التي لا يرى أنجح منها في الإجهاز على بقية القيم الإسلامية، تجاوبًا مع دعاة القرمطية الحديثة في لبنان والجنوب العربي وغيرهما. حيث تنطلق بعض الأصوات بتمجيد المبادئ المزدكية، التي طالما أغرقت أرض الإسلام بدماء الأبرياء في مختلف أرجاء الدولة العباسية. يعلمون ويهدمون وطبيعي أن انتصار هؤلاء في هذه المعركة هو الذي أغراهم بالمحاولات التالية، فأقدم بعضهم على إلغاء ما أباحه الإسلام من تعدد الزوجات، وهم يعلمون حتمًا أن هذا التعدد الذي تقتضيه الضرورة أحيانًا لا يعدو كونه صمام أمن لصيانة الفرد والمجتمع من دواعي الهبوط، الذي يتعرض له ذوو الطاقة الفائضة، إذا لم يجدوا لها المتصرف الشرعي، وللحفاظ على استمرار النسل لمن يئس من استعداد زوجه الوحيدة للحمل.. ولكنهم مع علمهم بهذه الحقائق، التي لا يعذر أحد بجهلها، يمضون في تعطيل هذا التشريع الإلهي المنسجم مع فطر الناس، ليدفعوا مجتمعهم عامدين إلى التمرغ في وحول الفحشاء.. حتى لقد حدث أن رجلًا قُدِّمَ إلى القضاء في إحدى الدول العربية السابقة في هذا المنزلق، لمخالفته قانون منع التعدد، وكاد يحكم عليه بالعقوبة المقررة لهذه «الجريمة» لولا دفاعه الذي أقنع القضاة بأنه لم يتزوج ثانية، وإنما اتخذ خليلة إلى جانب زوجه، فلم يسعهم إلا إعلان براءته. وهكذا كان إصدار مثل هذا القانون اختبارًا جديدًا لمدى صلاحية المسلمين للذود عن شريعتهم، حتى إذا تحقق للمتربصين خلو الميدان من فرسان الإيمان أقدم طغاة الصومال على خطوتهم بإلغاء الفوارق الشرعية بين الذكر والأنثى، وهم موقنون أن نجاحها كفيل بالقضاء على البقية الباقية من أحكام الإسلام في موضوع الأحوال الشخصية.. الذخر العملي الوحيد الذي تركه أعداء الله من دين الله.. وبذلك يتحقق للماسونية والصليبية والصهيونية الحلم الذي طالما راودهم، ولم يتمكنوا من تحقيقه خارج حدود الجحيم الشيوعي حتى الآن. هؤلاء الأقزام على أن قمة المفارقات في مجزرة الصومال اليوم إنما تبرز في ذلك الغباء العجيب الذي يتجلى في تعليلات القتلة لأحكامهم الجنونية، إذ يعلنون دون أي حياء أنهم إنما يقدمون على تحريق رجال الإسلام لأنهم فقط أعلنوا حكم الله في مرسومهم الغاشم.. وكفى بذلك في زعمهم تفرقة للصف وإضعافًا من هيبة السلطات الثورية. لقد سبق الحكم الناصري إلى تقتيل المؤمنين في مصر، ولكنه كان أكثر ذكاء من هؤلاء، إذ كانت محاكمه الصورية تختلق أفانين القضايا ضد الضحايا، فتكيل لهم التهم بالمؤامرات، ومحاولات الانقلاب، واقتراف الجرائم ثم تتخذ من هذه المفتريات سندًا لمقرراتها الظالمة.. وكذلك صنعت محكمة المهداوي في بغداد، فلم تقدم واحدًا من ضحاياها إلى المشنقة إلا في موكب من الأكاذيب الكبيرة.. وحتى ثوريو الحبشة، الذين أغرقوا أديس أبابا بحمامات الدم، لم يقدموا على مجزرتهم إلا في زفة من التهم بالخيانة والفساد والرشوة وما إلى ذلك، مما لم يكن بعيدًا عن واقع الحكم الإمبراطوري. أما شيوعيو الصومال هؤلاء فقد خانهم المنطق الثوري نفسه، فإذا هم يظهرون على حقيقتهم وحوشًا متعطشين إلى الدماء، لا يملكون من مؤهلات الحكم سوى أحقادهم اللاهبة على الإسلام.. وبذلك يعلنون انضواءهم إلى صفوف الأقزام، الذين عجزوا عن الارتفاع إلى مستوى الرجولة.. فلم يجدوا أستر لجهلهم من أن يتنكروا للحق، ويكيدوا لأهله على هذه الوحشية. ليت ولیت ولیت ولقد كان من حق الشعب الصومالي في محنته الرهيبة أن يتطلع إلى مؤسسات حقوق الإنسان، رجاء نجدته ولو بكلمة منصفة... ولكن هذه لم تعتد قط الاهتمام بحق الإنسان المسلم، حتى ولو كان القضاء عليه بالإحراق، الذي لم تشهد له البشرية مثيلًا منذ أصحاب الأخدود الأول.. فلا مطمع إذن بنصرة هذه المؤسسات ولا بمن وراءها من الهيئات الدولية التي تزعم العطف على الإنسان. وكان من حق الأمل أن يتجه إلى جامعة الدول العربية يستصرخ ضميرها باسم القرابة والرحم.. ولكن هذه الجامعة أصلحها الله ليس من صلاحيتها كما يبدو أن تتعامل مع الشعوب. وإنما علاقتها مقصورة على الحكام ولو تسلقوا إلى عرش السلطة جماجم الآلاف من محكوميهم، ولو حولوا بلادهم قواعد لأعداء العروبة والإسلام. أما حجة جامعتنا الحكيمة في إغضائها عن فواجع هذه الأمة فعائد إلى التزامها مبدأ عدم التعرض لشئون أعضائها الداخلية.. وهو مبدأ تتجاوزه التكتلات الدولية كلها عند الضرورة إلا هذه الجامعة.. وأقرب مثال على ذلك موقف دول الحلف الأطلسي من الدكتاتورية العسكرية في اليونان.. إذ قطع الحلف عنها كل عون، انتصارًا لحق الشعب الذي اغتصبت سلطته التشريعية. ولیت جامعتنا الموقرة تعير بعض الالتفات تلك الحقيقة الكبيرة، وهي أن قوتها الحقة ليست في كمية الأعضاء، بل في كيفيتهم، فإذا لم يجتمعوا على وحدة الهدف لم يهتدوا إلى وحدة الصف، ولا سبيل إلى هذه الوحدة إلا عن طريق الالتزام بروح الإسلام، الذي اصطفاه الله لهذه الأمة رسالة عزة وهداية وإنقاذ، ليس لأفرادها فقط، بل للإنسانية كلها. لیت جامعتنا الموقرة تتذكر أن العرب لم يعرفوا التوحد قط إلا بدين التوحيد.. ولم يدخلوا التاريخ إلا تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لم يملكوا حق البقاء في عداد الأمم إلا بالقرآن الذي يهدي دائمًا وأبدًا للتي هي أقوم، والذي يحفظه لغتهم حفظ وجودهم، وصان أمتهم من الانقسام إلى أمم، لكل منها تقاليدها ولغتها. لا قوة مع الذل أجل.. ولو أن جامعتنا الموقرة آمنت بهذه الحقائق، التي هي أكبر من أن تنكر، لرأت أول واجباتها تنقية صفوفها من عناصر الهزيمة التي لا تدخر وسعًا في الكيد لهذا الدين ومحاولة التصفية على آثاره.. ولو هي فعلت لأمنت على أسرارها أن تتسرب إلى تجار النخاسة الدولية، ولحققت السياسة الحكيمة التي وجه القرآن إليها المؤمنين منذ نهاهم أن يتخذوا بطانة من دونهم. وإلا فبأي منطق تتذرع لتسويغ سكوتها عن ذلك العضو الذي يجهز بالطعن على كتاب الله ولا يخجل من نسبة الكذب إلى رسول الله؟ ثم لا يتورع أن يعلن في توجيهاته الإذاعية: إن على علماء الإسلام أن يكيفوا الإسلام لينسجم مع كل الأوضاع وسائر الأحوال التي يقررها هو وأمثاله. وقبل هذا وذاك شهدت آليات القتلة تقتحم حرم المسجد الأموي في دمشق، لتحصد الآمنين وهم بين راكع وساجد ومكب على كتاب الله.. ثم رأيت مدافعهم تدمر مسجد السلطان في حماة على رؤوس العشرات من المصلين.. ولم تلبث أن تلت ذلك مذبحة «أبا» التي ذهبت بالآلاف من أبرياء السودان، على مرأى ومسمع من العالم بأسره. وأعقبت هذا كله مآسي الإخوة في الجنوب العربي حيث اغتيل الأحرار بالمئات، وانتهكت الحرمات، وشرد المئون من الألوف الذين آثروا الجوع والعرى على الكفر.. ومر ذلك كله دون أن تحرك جامعتنا العزيزة شفة ولو بكلمة شفقة.. ذلك لأنها لا ترضى أن تفارق المبدأ الخالد، الذي يفرض عليها لزوم الحياد ولو هلك العباد ودمر أعضاؤها الثوريون البلاد. وها هي ذي اليوم تشاهد الجريمة الكبرى يقترفها شيوعيو الصومال الجريح بقتل علمائه وإغراقه في غمرات الإرهاب لغير ذنب سوى إصرار المؤمنين على التشبث بأحكام الكتاب الذي لا يأتيه الباطل.. ومع ذلك لم تزل حيث هي من الصمت، الذي تواجه به كل نكبة جديدة ينزلها الغاصبون بهذه الشعوب المظلومة. ولعمر الله لقد كان من حق العروبة على الجامعة أن ترفض قبول هذه الطغمة في عداد أعضائها، منذ أن أقدمت على إلغاء الحرف العربي، فمهدت بذلك السبل لقطع كل صلة لها بالعروبة والإسلام.. وإذا كان لها من عذر بالأمس في ذلك التهاون، فبأي حجة تعتذر اليوم إذا لم تسارع إلى طرد هذه العصابة من صفوفها بعد أن أثبتت بإحراقها الإنسان الصومالي أنها وصمة عار في جبين الإنسانية كلها؟ ألا تعلم جامعتنا الموقرة أن مجرد سكوتها على هذه الفظائع يسيء إلى مكانتها في المجتمع الدولي؟ إذ يجعلها كالراضية عنها، فضلًا عما تلحقه بسمعة العرب والمسلمين من المهانة التي لا تمحى.. ثم ألا تعلم أن مثل هذا الإرهاب الجهنمي من شأنه أن يشجع أمثال الطغمة على سلوك السبيل نفسها مع شعوبهم؟ وأن سلب هذه الشعوب حرية الكلمة وحق الحفاظ على شريعتها الإلهية في وطنها مؤدٍّ في النهاية إلى إذلال العرب وتجريدهم من كل قدرة على مقاومة العدوان الخارجي؟ فإلام إلام هذا السكوت المريب وهي تعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ نبأ من رسول الله ألا فليسمع العرب والمسلمون ولتعلم جامعة الدول العربية أن رسول الله لا ينطق عن الهوى، قد أنبأنا بسنين خوادع.. يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة.. وإنما يحدث رسول الله عن زمن تنقلب فيه القيم. إذ يجري كل شيء على غير سننه، حتى تكون الطامة بأن يعلو صوت «الرويبضة» فيتحكم في مقررات الشعوب.. وإذا علمنا أن الرويبضة هو السفيه التافه الذي لا يؤبه له، أدركنا المصير الرهيب الذي نحن مقبلون عليه، في ظل هؤلاء النوكى الذين لا يملكون أي مسكة من العلم أو الحكمة، ومع ذلك يصدرون فتاواهم بإلغاء الشرائع الإلهية، وتهديم الركائز الاجتماعية، وإعدام كل من يجرؤ على الجهر بكلمة الله. وإذا كان من شأن الأمر- الحكم- إذا وسد إلى غير أهله في أمة ما أن يصير بها إلى ساعتها الحاسمة من الخراب والتبار، فإن على العرب والمسلمين أن يتوقعوا المزيد من المحن التي تعصف بهم.. ما داموا يعرفون المعروف ويجتنبون الدلالة عليه، ويرون المنكر ولا يجرؤون حتى على الإشارة إليه.. وقد أخبر المعصوم المؤيد بالوحي: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب». ولئن كان سواد المسلمين قد انتهى من العجز إلى مستوى الإنكار بالقلب وحده، ففي الأمة بقية من أولو الأمر والنهي، لا يقبل الله منهم عذرًا دون العمل الجاد لإزالة المنكر بكل ما يملكون من الطاقات. إن موازين الاقتصاد العالمي مرتبطة بإرادة الدول المسلمة، التي امتحنها الله بنعمة النفط، وإلى عونها يتطلع هؤلاء الذين يقتلون ويسجنون علماء الإسلام، ويشنون الغارة تلو الغارة على أنظمة الإسلام، ولن يكلفها إنقاذ أولئك المظلومين، وردع هؤلاء الظالمين سوى إشارة حازمة، تسجل إنكارها للعدوان على الدين، الذي على نصرتهم إياه يتوقف كل أمل لهم بنصر الله واستدامة نعماه. أما أنتم يا شهداء الإسلام في الصومال الذين أعلنتم كلمة الله في حكم الطاغوت، فلكم تهنئة كل مؤمن يتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيد الشهداء حمزة ورجل وقف عند سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله». إن دمكم المهراق في سبيل الله سيكون لعنة على رويبضة يتحدى شريعة الله، وسيكون حافزًا جديدًا على مواصلة الجهاد، حتى تعود دولة الإسلام، وتشرق الأرض كل الأرض بنور ربها.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (الروم: 4).
الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

لم كل هذه الحرب؟

نشر في العدد 2

38

الثلاثاء 24-مارس-1970

مفهومات خاطئة 4

نشر في العدد 14

22

الثلاثاء 16-يونيو-1970