; الأبرار الساكتون الهالكون | مجلة المجتمع

العنوان الأبرار الساكتون الهالكون

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الثلاثاء 11-يوليو-1972

مشاهدات 15

نشر في العدد 108

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 11-يوليو-1972

رياض المؤمنين

يكتبها: محمد أحمد الراشد

الأبرار الساكتون الهالكون

في فقه الدعوة

تحليل الأحداث، وتفسير التاريخ، وتسمية المقدمات الخفية المؤدية إلى النتائج المنظورة، كل ذلك إنما يتبع العقيدة التي يحملها الشخص المحلل المفسر، والميزان الذي یزن به الأمور، والظواهر الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.

ومن هنا اختلفت التفاسير والاجتهادات اختلافًا بينًا واضحًا، وصار المؤمن ينظر أشياء من العلاقات بين النتائج وبين بعض الأحداث والأحوال نظرًا واضحًا كأنها أمام عينيه، ويلمسها بيده ويفركها، فتزول قشورها التي تحجبها، بينما لا يراها الكافر والجاهلي أو الفاسق الذي طبع على قلبه وتغلف بأغلفة الشهوات والغفلات.

إن هذا الاختلاف مرده اختلاف الميزان فحسب، ومن أهم الظواهر التاريخية التي يختلف في تفسيرها وتحليلها ظاهرة الاضطراب الاجتماعي والتراجع والخراب المدني من بعد التقدم العلمي والعمراني والفني، واستمرار التقهقر التدريجي، حتى ربما یختم بدمار كامل فجائي بقوة غير عادية.

فالكفار والفساق يدورون في حلقة مفرغة من التعليلات لهذه الظاهرة كلها أوهام، أما المسلم فله قول فصل واحد في تفسير هذه الظاهرة مستمد من كثيٍر من آيات القرآن وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأوجزه الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بجملة واحدة جامعة حين سئل:

«أوشك القرى أن تخرب وهي عامرة قال: إذا علا فجارها على أبرارها.»

هذا هو السبب، والداء الدوي، إنه علو الفجار على الأبرار سبب الاضطراب والخراب، يعلو الفاجر، فيولي أمثاله الأمور.

ولا ينفك كل فاجر أن يكون أسير شهواته، فيطبَعُ على قلبه، ويعيش في غفلة عن ارتياد ما فيه منافع قومه، ثم يكون أسير مصالحه، فيظلم ويشتط ويتعسف، فتهدر بالتالي طاقات كثيرة، وتتوارى الكفايات، تطلب لنفسها الستر، ستر عرضها من الاعتداء، وبدنها من العذاب، ويعود لا يتصدى لأمور الأمة إلا كل جاهل أناني، فيعم الاضطراب الاجتماعي، ثم من بعده الخراب الاقتصادي والمدني العلمي.

والله سبحانه شديد الغيرة على دينه، وعلي أعراض العباد فيمهل الأمة حين يعلو الفاجر، ويحب أن تبادر جماعة من عباده الأبرار لإصلاح الحال ومنازعة الفجار والتطويح بهم، لترجع الأمور إلى نصابها ويعود العمران، فإن بادرت فرقة أمر ملائكته بنصرهم وفتح عليهم ينابيع فضله وبركته وتوفيقه، وإلا فإنه يمهل أخرى، من بعد أخرى، حتى إذا تمادى الفاجر في فجوره، وحتى إذا تمادى الأبرار في خوفهم وجبنهم وسكوتهم وقعودهم عن النهي عن المنكر: اشتد غضب الله، فإذا غضب عم وشمل غضبه الفجار بما فجروا وظلموا، والأبرار بما سكتوا وتقاعسوا ورضوا الذلة.

وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك، كما في تعقيبات شیخ الإسلام وإمام الدعاة تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني على قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (سورة الأنفال: 25)

وقرأ طائفة من السلف: لتصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، وكلا القراءتين حق فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم، وتارك الإنكار عليه قد يُجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه، وقد يُجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب.

وعلى هذا قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَـِٔيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: 165)، فانجي الله الناهين.

وأما أولئك الكارهون للذنب، الذين قالوا: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ (الأعراف: 164) فالأكثرون على أنهم نجوا لأنهم كانوا كارهين، فأنكروا بحسب قدرتهم.

وأما من ترك الإنكار مطلقًا فإنه ظالم يعذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» وهذا الحديث موافق للآية والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ ( الأنفال: 25)

أي لا تختص بالمعتدين، بل يتناول من رأى المنكر فلم يغيره. ومن قرأ: «لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» ادخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه.

وقد يراد أنهم يعذبون في الدنيا، ويبعثون على نياتهم، كالجيش الذين يغزون البيت، فيخسف بهم كلهم، ويحشر المكره على نيته.» ويلاحظ سيد رحمه الله هنا، في معرض كلامه عن الآيات التي استشهد بها ابن تيمية، أن الله سبحانه ذكر نتيجة الذين ينهون عن السوء، وهي النجاة، ونتيجة الذين ظلموا، وهي إصابة العذاب البئيس لهم، أما الذين أنكروا بقلوبهم فقط ولم ينهوا عن المنكر فإن الله سبحانه لم يبين لنا نتيجتهم ولم يقص علينا خبرهم، بل أهمل ذكرهم والإهمال نوع جزاء لمثل هذه الطائفة، «تهوينًا لشأنها -وان كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ إنها تعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي، فاستحقت الإهمال، وإن لم تستحق العذاب.»، فأنه رحمه الله يقول: إنه حتى ولو استبعد القول الأول، من تعذيبهم لعدم الإنكار، فإنهم ما نجوا من عقاب الإهمال والنزول عن الدرجات الفاضلة، والمؤمن يحرص على المنازل العالية.

والحقيقة أن أكثر من تكلم في هذه الآيات ذكر أن هؤلاء الذين سكتوا نالهم العذاب بسكوتهم، وشملهم العقاب، وللقرطبي في تفسيره تصريح واضح بذلك.

ووصف بعض الأفاضل هذا العقاب بأنه «قانون العقاب الجماعي في سنة الله الكونية» وهو «قانون رهيب مخيف يدفع كل ذا علم وفقه، وكل ذي حكم وسلطان، إلى المسارعة والمبادرة، فورا لتغيير المنكر، دفعا للعذاب عن الكل». «٤»

وهذا اللزوم أشد بالنسبة للحكام، لأن بأيديهم السلطة والأمر والنهي، وأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإذا أصلحوا الأحوال حسب أحكام الشرع وأزالوا المنكر، وأقاموا العدل، وقضوا على أسباب المعطيات: أثابهم الله تعالى حسن ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومكن لهم.

فإذا أصلحوا الأحوال حسب أحكام الشرع وأزالوا المنكر، وأقاموا العدل، وقضوا على أسباب المعطيات: أثابهم الله تعالى حسن ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومكن لهم في الأرض وإن هم تقاعسوا عن ذلك انطبق عليهم حكم الله وجرت عليهم سنته، وخسروا الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من الخذلان.» «5.»

وصاحب القلب الحي يحس بفطرته الإيمانية أن الذي يعيشه ذراري المسلمين اليوم من نكسات وهزائم وتراجعات إنما هو مقدمة ونذير بين يدي ما هو أشد وأنكى من عذاب، والأمة الإسلامية اليوم لا يصدق عليها اسمها كل الصدق، فإن الانحراف قد أصابها، «ويكفي الأمة انحرافًا أنها تركت الجهاد في سبيل الله، وأخلدت إلى الأرض، ورضيت بالحياة الدنيا من الآخرة، وأقبلت على الشهوات تعب منها، وأسرفت في المعاصي، حتى أذلها الله، وخذلها الخذلان الأكبر، وجعل قيادتها في أيدي المنحرفين العابثين.» «٦»

ووعي هذه الحقيقة يلزم من علت همته، واستعلى في الطريق العالي، وناضل ووصل إلى صريح الحرية، وأكمل بقية العبودية، أن يرفق بنفسه، ويرحمها، ويتجنب أن يمسه هذا القانون العقابي الرهيب، وإنه لحصار شديد هو محاصر فيه الآن، لا يكفيه مجرد أن يذر غير الله.

بل لا يكفيه أن يفلت من خطط ترويض الأشبال وتحويلها إلى ظبيات جفولة.

بل لا يكفيه مجرد الاستعلاء والسير في الطريق العالي.

ليس له من طريق نجاة من هذا الحصار الذي يحاصره به هذا القانون الرهيب إلا قوة يستطيع أن يفلت منها: قوة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنازعة أهل المنكر، وسلوك سبيل الدعوة، والإهابة بالأمة أن تسارع إلى الصلاة وتحكيم شرع الله، من قبل أن يجرفهم «قانون التماثل» الذي هو من سنة الله العامة في الكون، فيهلكوا، ويصيبهم العذاب، من بعد أن ارتكبوا مثل العصيان الذي أهلك الله بسببه الغابرين، فإن «النظير يأخذ حكم نظيره وأن ما يجري على الشيء يجري على مثيله ويستحيل أن يفترق المتساویان في الحكم، كما يستحيل أن يتساوى المختلفان في الحكم.

وهذا القانون يسري حكمه على الأفراد والأمم على حد سواء، وفي أحوال الدنيا والآخرة، وعلى هذا دل القرآن الكريم، فمن ذلك.

• أ- قوله تعالى مبينًا ما جرى لليهود من بني النضير من نكال في الدنيا بسبب كفرهم ونقضهم العهد وكيدهم للرسول-صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (سورة الحشر: 2). فقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (سورة الحشر:2) صريح الدلالة على قانون التماثل، إذ إن من معناها: تأملوا يا أصحاب العقول السليمة بما وقع لهم، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم إذا فعلتم مثل فعلهم، فإن سنة الله واحدة تجري على الجميع، وأن ما يجري على شيء يجري على نظيره يوضحه أن الاعتبار لا يتأتى مطلقًا ولا يكون للأمر به فائدة إلا إذا كان المثيل يأخذ حكم مثيله.

ب- قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ (سورة يونس: 13) فقول الله تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾  دليل على أن ما جرى للمجرمين السالفين يجري على المجرمين اللاحقين، فالنظير يأخذ حكم نظيره، وأن سنة الله واحدة تجري على جميع المجرمين، والله المستعان.

ج- قال تعالى ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ (سورة محمد: 10) دليل واضح على أن الدمار الذي حل بالكافرين اللاحقين، لأنهم متساوون في وصف الكفر والعناد والتكذيب فيتساويان في العاقبة.

د- قال تعالى:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ (سورة النساء:123) فالجزاء يلحق فاعل السوء أيًا كان، دون محاباة ولا تمييز ولا تخلف.

ه- قول الله تعالى: ﴿أفنجْعلُ الْمُسْلِمِين كالْمُجْرِمِين (35) ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون ﴾ (سورة القلم: 35 – 36) ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (سورة الجاثية: 21) ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار﴾ (سورة ص: 28).

فالقرآن شاهد على صحة قانون التماثل بشقيه أي التساوي في الحكم والعاقبة بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين.

فإذا فهم المسلمون مدلول هذه الآيات القرآنية التي ذكرناها للتدليل على صحة قانون التماثل وأمثالها من الآيات الأخرى، والتي فيها ذم للأقوام السابقة، كاليهود وغيرهم، لتلبسهم بالأفعال القبيحة والأوصاف الذميمة: عرفوا أن الذم كان لهذه المعاني وأن الذم يلحقهم لا محالة إذا فعلوا فعالهم، وأن العاقبة السيئة تصيبهم كما أصابتهم فلا يغرهم مجرد انتسابهم للإسلام من دون عمل وانصباغ بمقتضاه.» «7»

وقد جعل -رحمه الله- هذا القانون من قواعد الهدي الإسلامي، وبين في المحاضرة الخامسة من المحاضرات التي ألقاها بمدينة مدراس الهندية «أن الأمم والجماعات مأخوذة بأعمالها في هذه الحياة، ولهذا يكثر القرآن من قصص الماضيين ويأمر بالنظر في تجارب الأمم، غابرها وحاضرها.» «۸.»

إن هذه القوانين الرهيبة المفزعة لا يفهمها أكثر الناس، وليس لهم استعداد للتصديق بها، إنما يفهمها الدعاة إلى الله فحسب، ولا بد لهم من مسارعة إلى القيام بواجب النهي عن المنكر، ليأمنوا من فزع يومئذ.

أيها الأبرار الصالحون.

أيها الزهاد العابدون.

أمامكم خطر القانون الرباني الرهيب إن تخارستم.

لا يغرنكم زهدكم ولا صلاتكم.

انطقوا بالحق، وانهوا عن المنكر، وإلا ... فهو الهلاك 

1- (الجواب الكافي لابن القيم / 45)

2- (مجموع الفتاوي 17/382)

3-  (الظلال 9/93 )

4-5 (مجلة التربية الاسلامية 6/26 )

6 – (معركة الإسلام للأستاذ الصواف / 24)

7) – (مجلة التربية الإسلامية 6/23 )

8- (كتاب «محمد اقبال» لعبد الوهاب عزام / ۱۲۰)

الرابط المختصر :