; دكتاتورية بابنجيدا.. وأنظمة الحكم العسكرية في العالم الثالث | مجلة المجتمع

العنوان دكتاتورية بابنجيدا.. وأنظمة الحكم العسكرية في العالم الثالث

الكاتب عبدالمنعم سليم جبارة

تاريخ النشر الثلاثاء 03-أغسطس-1993

مشاهدات 19

نشر في العدد 1060

نشر في الصفحة 39

الثلاثاء 03-أغسطس-1993

استوقفني تعليق إحدى الإذاعات الغربية على المهزلة الأخيرة للحكم العسكري في نيجيريا - والتي تمثلت في إلغاء الجنرال إبراهيم بابنجيدا لانتخابات الرئاسة التي أجريت في 12/6 في وقت كانت لجنة الانتخابات المشكلة بقرار منه على وشك أن تعلن النتائج على الناس.

قالت الإذاعة الغربية: «لقد ألغى الرئيس غير المنتخب بابنجيدا نتائج انتخابات الرئاسة في نيجيريا.. وبذلك حال دون وصول رئيس منتخب من قبل الشعب إلى موقع الرئاسة والمسئولية.. ليتولى سلطاته في السابع والعشرين من أغسطس القادم وهو الموعد الذي كان إبراهيم بابنجيدا قد حدده بنفسه لانتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين».

والمضحك أن الجنرال الهمام بابنجيدا أعلن أنه ألغى انتخابات الرئاسة، وأوقف عمل لجنة الانتخابات، وأبطل المراسيم الصادرة حول نقل السلطة إلى الحكم المدني - من أجل مواجهة الخروج على الشرعية. فقد اعتبر نفسه ونظامه الديكتاتوري العسكري - السلطة الشرعية في البلاد، وأن ما قام به المرشحان اللذان خاضا انتخابات الرئاسة من دعاية أو ترويج لبرامجهما وإعلان كل منهما أنه قد كسب الغالبية العظمى من الأصوات إنما هو الخروج على الشرعية، وقال في بيانه الذي أذاعه من إذاعة نيجيريا: إن قراره بإلغاء الانتخابات إنما يستهدف حماية الشرعية مما وصفه بالنزاع الداخلي، وعلى عادة العسكر في فرد العضلات في غير معارك أضاف «أن حكومته لن تلقى السلاح ولن يصيبها الإحباط في مواجهة الوضع الحالي غير المبرر!!».

ومن المعروف أن بابنجيدا قفز على السلطة سنة 1985م في انقلاب عسكري هو امتداد لحكم عسكري جثم وما زال يجثم على صدور النيجيريين على مدى ثلاثة وعشرين عامًا من عمر استقلالهم الذي بلغ حتى اليوم ثلاثة وثلاثين عامًا. وما زال بابنجيدا يحكم نيجيريا من خلال مجلس عسكري يمثل ضباط وقوات الجيش، ومجلسًا نيابيًا لا يعدو الواجهة الديكورية لديكتاتورية عسكرية همشت الشعب تهميشًا تامًا. 

وليست هذه هي المرة الأولى التي يعد فيها النظام العسكري في نيجيريا بإجراء انتخابات للرئاسة تمهيدًا لنقل السلطة للشعب.. ثم يعود فيلغيها ويضرب بحق الشعب وإرادته عرض الحائط، ولكنها المرة الثالثة التي يعد فيها العسكر بتسليم السلطة للمدنيين... ثم يعودون فيتلمسون أو يصطنعون الأسباب والسبل الواهية والشاذة لإلغاء الانتخابات ومواصلة إحكام القبضة العسكرية الديكتاتورية التي تحيط بالأعناق وتكمم الأفواه.

وإذا كان التدهور الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي قد أصاب نيجيريا – الدولة الأفريقية الغنية والثرية بمواردها على مدى الثلاثة والعشرين عامًا - أي طوال الحكم العسكري، فإن ما لحق بها من تدهور خلال السنوات الثمانية الأخيرة قد تضاعف حتى وصلت الديون الخارجية إلى 27 مليار دولار إضافة إلى انتشار الفقر والبطالة، وظهور جيوش من المنتفعين والمفسدين والمنافقين امتصت دماء وأقوات العباد وأثرت على حساب الملايين في ظل حكم العسكر.

والحكم العسكري في نيجيريا الذي يزعم الشرعية لنفسه، ويحشد قواته الأمنية والعسكرية، ويحرك طيرانه المروحي فوق لاجوس لمواجهة الانتفاضات الشعبية تحت زعم حماية الأمن والشرعية والاستقرار، لا يفتأ يعبث بمقدرات البلاد.. ومن أشكال وأنماط العبث المضحك أن يعلن العسكر عن موافقتهم على قيام حزبين في البلاد، حددوا شكلهما وتوجهاتهما، ثم أتى بعد ذلك الإعلان العسكري عن إجراء انتخابات الرئاسة لاختيار رئيس من مرشحي الحزبين وتحت إشراف لجنة أصدر العسكر قرارًا بتشكيلها وتحديد مسئولياتها.. وحين تبدأ الجماهير في مزاولة حقها الانتخابي وفي الإطار الذي رسمه العسكر.. إذا بهم يخرجون على الناس بقرار إلغاء الانتخابات والزعم بأن مخاطر داخلية وخارجية تهدد نيجيريا وأنهم لن يسمحوا بأن تتحول نيجيريا إلى صومال ثانٍ أو سودان تنتشر فيه الفوضى.

ونظام بابنجيدا الذي يزعم لنفسه الشرعية في نيجيريا.. مثله مثل كل النظم العسكرية في بلاد المسلمين.. تنكر على الشعوب حقها في الحرية والأمن، حقها في الاختيار، والمراقبة والمساءلة.. بل إن الشعوب في عرف ومفهوم عسكر المسلمين ليست مؤهلة لإبداء الرأي أو تقرير المصير، ولم ترتفع إلى مستوى المشاركة لا المراقبة والمساءلة، ويجب أن توضع تحت الوصاية، وتخطو خطواتها على درب الحياة تحت المراقبة والمتابعة، وفي إطار التدرج والتدرج البطيء، ويجب أن يبقى العسكر في موضع من يعطى ويمنح، وأن تبقى الشعوب في موضع من يتلقى المنحة والعطاء، كما يجب أن يظل العطاء وتظل المنحة من خلال القطارة، وفي تقتير يدرأ عن الشعوب مفاسد الحرية، وأمراض ومخاطر الانفلات!!

في مؤتمره الصحفي - وفي مواجهة الأزمة ورغم عديد من الملامح التي أنذرت بتفاقم الأوضاع في لاجوس وغير لاجوس قال بابنجيدا: «سننصب حكومة منتخبة في 27 أغسطس القادم، وسننصب رئيسًا منتخبًا يلبي الطموحات والتطلعات في أذهاننا عن نيجيريا القرن 21» فالعسكر هم الذين ينصبون، وهم الذين يحق لهم أن يطمحوا ويتطلعوا إلى آفاق القرن الواحد والعشرين، ومن ثم فمن الأمور البسيطة عند بابنجيدا أن يلغى الانتخابات الرئاسية التي جرت بين مسعود أبيولا زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وبشير نوفا زعيم الحزب الجمهوري، وأن يصدر فرمانًا لاحقًا يمنع الاثنين من الترشيح في الانتخابات القادمة لعدم صلاحيتهما.

إلا أن ثمة سؤالًا له أهميته يطرح نفسه.. وهو: ماذا يحمل الغد لنيجيريا؟ 

إن نيجيريا مثال للدول الإسلامية، بل ولدول العالم الثالث الخاضعة للديكتاتوريات وخاصة الديكتاتوريات العسكرية.. والتي لم تجن في ظل الديكتاتوريات إلا المزيد من الفقر والتدهور والتأخر، والمزيد من القهر يلحق بالإنسان وينتهك آدميته، ومن ثم فهي تظل مرشحة للمزيد من القلاقل والاضطرابات والمواجهات وتصاعد الانتفاضات.. وإن كانت الشعوب هي التي تبقى تدفع الثمن.. من حاضرها ومستقبلها.. إلا أن الحكم الديكتاتوري وخاصة العسكري أكثر من مريرة.. كما أن روح العصر ورياح العصر والتغيير صارت أقوى من أن تحول بينها وبين وصولها إلى عالم المسلمين سدود أو جيوش أو أجهزة أمن أو مروجات بابنجيدا.

إن تجربة نيجيريا مثال يؤكد انحياز الشعوب للحرية، ورفضها للديكتاتورية ونبذها لأي دور سياسي يزاوله العسكر، وفي لاجوس أعلن مؤتمر العمل النيجيري وهو المنظمة النقابية العمالية الوحيدة في نيجيريا، وأعلنت النقابة الوطنية للمحامين الدعوة إلى الإضراب الشامل، وأعلنت طوائف وفئات الشعب الأخرى رفضها لقرار أو مهازل العسكر وإصرارها على بلوغ الديمقراطية والحرية. 

وسقط خلال يومين 118 قتيلًا برصاص قوات أمن وعسكر بابنجيدا، الذي ربما استطاع أن يؤجل أو يؤخر المواجهة، أو يهز أو يربك الانتفاضة.. ولكن كل الدلائل تقول إن حكم العسكر في نيجيريا.. بات وشيك الزوال أو السقوط لأن العسكر نسوا أو تناسوا واجبهم، وخرجوا عن إطار دورهم الصحيح.

لفت نظري وشد انتباهي قولة كريستوفر وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان: «إن أمريكا ستعمل على إيجاد دور جديد للجيوش في العالم الثالث»، وتساءلت كما تساءل كثيرون: هل ينتظر عسكر العالم الثالث دورًا جديدًا يرسم لهم من الخارج أم يسعون من أنفسهم لممارسة دورهم الصحيح في بلادهم.. فينسحبون من كراسي ومواقع السلطة والسلطان والوصاية إلى داخل الثكنات.. وإلى الثغور والحدود يذودون عن الأوطان.. ويحفظون أمن وأمان وحريات واستقلال العباد والبلاد؟!!

الرابط المختصر :