العنوان المجتمع التربوي.. عدد 1480
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر السبت 08-ديسمبر-2001
مشاهدات 12
نشر في العدد 1480
نشر في الصفحة 54
السبت 08-ديسمبر-2001
وقفة تربوية
من ثبت وصل:
كان يجلس إلى أمير المؤمنين في الحديث الإمام سفيان الثوري فتى كثير الفكرة، حسن الاستماع، طويل الإطراق، فأراد الإمام الثوري أن يعرف حقيقة، معدنه فاستفزه بسؤال قائلًا: «يا فتى إن من كانوا قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمير دبرة» فقال: «يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق، فما أسرع لحوقنا بالقوم». (حدائق الأزهار ۱۰۳ لابن الجوزي)
لا شك أن ملاحظة فارق المستوى بين القدوات في الصدر الأول وبين المعاصرين، أو من هم في بداية الطريق- أمر مهم وإحساس ضروري ليدفع ذلك الإنسان للمزيد من العمل والتنافس على الخير، ولكن الأهم من ذلك ما أدركه ذلك الفتى النابغ، واستيقنه ألا وهو الثبات على الطريق، وسلوك الطريق نفسه الذي سار عليه أولئك القدوات، «إن كنا على الطريق، فما أسرع لحوقنا بالقوم» إن قضية الثبات هي التي كانت تشغل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، ولهذا كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.«
وحتى لو سلكنا الطريق ذاته فليس مضمونًا أن نصل إلى مستوياتهم، وليس هذا هو الهم الأكبر، إنما يجب علينا أن ننشغل بالثبات على الطريق المستقيم، لا بموعد الوصول إلى مستويات أولئك العمالقة، فمن ثبت وصل بإذن الله.
أبو خلاد
حاجة البشرية لليلة القدر:
أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر في السنة المقبلة تقدر في ليلة القدر، هكذا قال المفسرون في تفسير الآية بسورة الدخان: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (سورة الدخان: 4)، وقوله -تعالى- بسورة القدر: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ (سورة القدر: 4)
أفلا ينبغي للمسلمين عامة وأبناء الحركة الإسلامية خاصة أن يحرصوا كل الحرص على إحياء هذه الليلة، خاصة أن أعداء الإسلام يشنون حربًا عالمية بكل التقنيات للقضاء على الإسلام والمسلمين؟ إن ليلة القدر لها صفات وخصائص عدة
نذكر منها:
1- فضلها: قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (سورة القدر: 2-3)، وقال رسولنا: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» فقيامها يغفر الذنوب، ويعدل عبادة (٨٣) سنة وأكثر.
۲ -وقتها: دلنا رسولنا العظيم على أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وأكد أنها في ليالي الوتر منها (ليالي: ۲۱، ۲۳، ۲۷،۲۵، 29) وأقسم الصحابي الجليل أبي بن كعب بالله إنها ليلة (۲۷)، وحثنا رسولنا على أن نكثر فيها من قول: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» ومن كرم الله أنها طوال الليل يقول -تعالى-: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (سورة القدر: 5)
الاعتكاف والدعاء:
فلنحرص على هذه الليلة التي فيها يُحدد مستقبلنا للسنة المقبلة، ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا إذ يقول: «وليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، بل العشر هي من ليالي التجلي، فروضوا فيها أنفسكم، وجردوها من علائق الدنيا، وأقبلوا على الله بالصلاة والمناجاة والإلحاح في الدعاء؛ فإن الله يحب الملحين في الدعاء» ومن كان في فراغ فليعتكف في العشر الأواخر بالمسجد، ولا يخرج إلا لحاجة ملحة، فهي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذ بها الصالحون، أما المشغول فلا أقل من أن يعتكف فيها بالليل، و»كان ﷺ إذا أقبل العشر الأواخر من رمضان شد المئزر، وقام الليل، وأيقظ أهله».
فلنجتهد في أن نرفع كل ما نريد إلى الله -جل وعلا- القائل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ (سورة فاطر: 44)
محمد عبد الله الباردة
حنين إلى «رمضان الذكريات»
صلاح رشید (*)
تمر أيام رمضان - يوماً بعد يوم. حتى ناجا بانتهاء الشهر الكريم، فلا تتبقى منه توى ذكريات جميلة مؤثرة من أيام الطفولة الشباب، وهذه جولة مع بعض الشخصيات جزء من هذه الذكريات الطيبة رمضان يحمل ذكريات ما زالت مؤثرة في نفسي الآن منذ أن كنت طفلاً الهو مع رفاقي، فقديماً كانت حياة الناس هادئة أكثر، وكنا ننام مبكراً ستيقظ قبل صلاة الفجر وكنا نتناول وجبة السحور الى دقات المسحراتي
في حنين إلى الماضي لا يخفى يتذكر الدكتور مال الزيات - رئيس قسم علم الاجتماع سابق كلية الآداب جامعة القاهرة . أول يوم صام فيه يقول: كان والدي يصطحبني معه لأداء صلاة الفجر كانت هذه بمثابة النواة الأساسية التي أنبتت بداخلي شعور الديني منذ الطفولة، فهي صورة لا أنساها تى وقتنا الحالي، ووجود القدوة والمثل الصالح في ياة الأبناء ضرورة.
أما أسوأ عادة لابد أن تتغير فينا جميعاً فهي إنفاق المبالغ فيه في شهر رمضان لأن هذا إسراف بذخ لا حاجة لنا به فالاعتدال مطلوب في الشهر كريم، ولابد كذلك من الإحساس بالفقراء، وتعويد النفس التخلي عن شهواتها وترويضها علي تحمل أى مشقة تتعرض لها، والرضا بالقليل الذي قد لا جده الكثير من الفقراء والمحتاجين.
تجديد النية.. وإحياء رمضان
وفي سياق متصل، يؤكد الدكتور عبده زايد . لاستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر - أن لى المسلمين أن يغتنموا فرصة الصيام لكي يتخلوا ما اقترفوه من أثام وموبقات، مؤكداً أهمية تجديد نية والعزم على الإخلاص في الطاعة والعمل المستمر من أجل إعلاء صرح الإسلام والاستمساك بأوامره الانتهاء عما نهى الله عنه.
وقال الدكتور زايد إن إحياء رمضان يجب أن كون مستمراً طوال العام لأن رب رمضان هو رب لشهور كلها، لذلك فإن المؤمن الحق هو من يتخذ لصيام موسماً لتجديد الطاعة، والابتعاد عن رذائل لشيطان، ومن هنا يعرف أهل التقوى والمخلصون أن لتفريط في هدية السماء إلى الأرض أعني شهر مضان والتقصير في صيامه، وعدم الامتثال لأوامر الخالق سبحانه وتعالى هو جحود لنعمة الله ونكران فضله على الإنسانية...
ويتذكر الدكتور عبده زايد أن أيامه الخوالي لأولى، أمدته عندما كان يعيش في صعيد مصر) بالقرب من الله ومعايشة رمضان روحاً وجسداً، فكان يدنه حفظ كتاب الله ومدارسة تفسيره وعلومه، فضلاً
خدمة مركز الإعلام العربي القاهرة
عن الاطلاع على السيرة النبوية وأصول الفقه وأداب الصيام والأحاديث الشريفة، مشيراً إلى أن حياة الريف أمدته بزاد الروح وجعلته يلتقي مع رمضان ويتعرف إليه بعيداً عن مادية المدنية التي تركن إلى القشور وتهتم بالمظاهر ومؤكداً أنه يتذكر بشوق كبير تلك الليالي التي كان يقضيها مع أصحابه في صلاة التراويح والتهجد والقيام والقنوت
رمضان الحقيقي
ومن جهته، يقول الدكتور مصطفى الشكعة استاذ الدراسات العربية والإسلامية إنه بدأ يتعرف الصيام في سن مبكرة، ويتعود على ممارسة الصوم في سن ست سنوات، لاسيما أن أسرته كانت تسمح له بأن يصوم ما دام استطاع ذلك ولكي يدرب نفسه على الصيام، مؤكداً أنه اكتشف جوهر شهر ،رمضان وأنه بمثابة الصديق الذي يزور صديقه مرة في العام ليزيل حب الدنيا ومغرياتها من قلبه، ويحوله إلى كائن رباني، مفطور على مناجاة الله والتعبد والتصدق وعمل الصالحات وفعل الخيرات والإحسان إلى الجيران والأهل والمسلمين. وقال إنه قضى فترة شبابه اثناء رمضان في العبادة وصلاة التراويح وقراءة القرآن الكريم وتفسيره ليلاً، أما في النهار فكان مشغولاً بالدراسة والبحث العلمي، ومتابعة أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، موضحاً أنه كان حريصاً على صلاتي العشاء والتراويح كل يوم في الأزهر الشريف، كما كان يحرص على حضور الدروس الدينية من كبار علماء مصر في ذلك الوقت للتزود بحصيلة لا غنى عنها من الزاد الديني والفكري والحضاري. ويشدد د. الشكعة على ضرورة أن نحتفل برمضان الحقيقي، الذي هو صوم وخشوع وصلاة وزكاة وابتهال إلى الله وتضرع وتواصل مع خلق الله داعياً المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى التمسك بصحيح الإسلام، وفهم طبيعته الروحية واغتنام شهر الصيام في الرجوع إلى الله، وعدم الركون إلى المال أو الجاه أو المناصب، فهذه الأشياء كلها زائلة، أما رصيد الإنسان الإيماني فهو ذخيرته التي تنجيه يوم القيامة من أهوال النار وعذابها وشرورها
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۗ صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ﴾
قَدْر «ليلة القدر «
من أصابها سعد بخيرات العمر، وحظي بالتقدير والرضا والسرور
محمد رشيد العويد (*)
«سرحان» عامل مضى عليه سنة دون عمل، ولم يكن له دخل سوى دريهمات كان يحصل عليها لقاء أعمال متفرقة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين كل شهر، تراكمت الديون على سرحان، وزادت أعباؤه المالية، وضاقت عليه الدنيا، فما عاد يجد فرجًا لما هو فيه.
مرت الساعات ثقيلة، يفكر في أولاده الذين يحتاجون كساء جديدًا للعيد، وأطعمة وحلويات لا يملك ثمنها، كان ينظر إلى زوجته الصابرة وعيناه تسألانها: هل من فرج قريب؟ بينما هو كذلك إذ سمعت أذناه طرقًا على الباب، هل يتوهم سماع هذه الطرقات أم أنها حقيقة وليست وهمًا؟ زادت الطرقات، وتأكد سرحان أنها على باب بيته، وليست على باب جيرانه، ولكن من يكون الطارق، ولم يسأل عنه أحد طوال شهور مضت؟ قام إلى الباب يفتحه وقلبه مفعم بالأمل مستبشر بالخير، فتح الباب فوجد شخصًا يسأله أهذا بيت سرحان الأدمي؟
أجاب: نعم، ناوله رسالة مغلقة ومضى، كانت الرسالة من إحدى الشركات التي تقدم إليها بطلب للعمل فيها، وتتضمن تحديد موعد للمقابلة، فرح واستبشر، وفرحت زوجته معه واستبشرت، وعاشا ساعات من الأمل حتى حان موعد المقابلة، في المقابلة أجاب عن جميع الأسئلة التي وجهت إليه إجابات موفقة، وبشره مدير شؤون الموظفين في الشركة بقبوله للوظيفة الشاغرة بمرتب جيد، وقال له: نريدك غدًا أن تعمل يومًا کاملًا، وسنعطيك مكافأة له تعادل مرتب سنة.
لم يصدق سرحان ما سمع، يعمل يوم فيتقاضى عنه مرتب سنة؟ مرتب اثني عشر شهرًا لقاء عمل يوم واحد؟ إنه مبلغ كبير يكفي لسد جميع ديونه، ولشراء كساء له ولزوجته وأولاده، والحصول على مؤنة عام بحاله، ما هذا الذي لا يكاد يصدقه؟ أهو في حلم أم أنها ليلة القدر؟
نقف هنا بعد هذه الحكاية القصيرة لنقول: بل إن ليلة القدر تحمل إلى من يحييها أعظم مما حمله كلام مدير شؤون الموظفين إلى سرحان الآدمي، فإذا كانت مرتبات اثني عشر شهرًا قد حملت تلك البشارات جميعها إلى سرحان، فإن ليلة القدر تحمل إلى من يسعد بها خيرات ألف شهر، خيرات عمر، فالألف شهر تعادل أكثر من ثلاثة وثمانين عامًا، فهل يزهد في قيامها مسلم؟ وهل ينصرف عنها من يرجو رحمة ربه، ويطمع في عظيم أجره وثوابه؟
فضل الليلة:
ألم يشعر صاحبنا سرحان حين أعلمته الشركة بأنه سيحصل على راتب سنة كاملة لقاء عمل يوم واحد بالتقدير والرضا والسرور؟ كذلك يشعر، بل بأضعافه من يحظى بليلة القدر، يقول القرطبي: قيل إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، ومن قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة، قاله الزهري وغيره، وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا، وقال أبوبكر الوراق: سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا ذكر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها، وقيل سميت بذلك لأنه سبحانه أنزل فيها كتابًا ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأن الله -تعالى- ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة، وقال سهيل سميت بذلك لأن الله -تعالى- قدر فيه الرحمة على المؤمنين.
الليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري، ويكفي اختيار الله إياها لبدء تنزيل القرآن .
لقد قال -سبحانه- عن هذه الليلة: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (سورة القدر: 3)، فبين فضلها وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، وقال كثير من المفسرين العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر، وقيل عنى بألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال -تعالى-: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (سورة البقرة : ٩٦) يعني جميع الدهر.
وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يُسمى عابدًا حتى يعبد الله ألف شهر «ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر»، فجعل الله -تعالى- لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- عبادة ليلة خيرًا من ألف شهر كانوا يعبدون الله فيها .
وقال أبوبكر الوراق كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله -تعالى- العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرًا من ملكهما .
وقال ابن مسعود: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك، فنزلت ﴿إنا أنزلناه﴾ الآية، وخير من ألف شهر التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله، ونحوه عن ابن عباس، وقال وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلمًا، وإن أمه جعلته نذرًا لله، وكان من قرية يعبدون الأصنام، وكان يسكن قريبًا منها، فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بغير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش انفجر له من اللحيين ماء عذب فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة في البطش، فلا يوجعه حديد ولا غيره، وكان اسمه شمسون.
وقال علي وعروة -رضي الله عنهما-: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- له أربعة من بني إسرائيل، فقال: «عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون فعجب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- له من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، ثم قرأ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ القدر﴾ (سورة القدر: 1) فسر بذلك رسول الله ﷺ.
وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره من أثق به يقول: إن رسول الله ﷺ أري الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته، ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيرًا من ألف شهر.
نزول القرآن فيها:
على أي حال، يكفي هذه الليلة أن تم فيها ذلك الحدث الكوني العظيم، حدث القرآن والوحي والرسالة، وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد، وهي خير من ألف شهر، والعدد لا يفيد التحديد في مثل هذه المواضع من القرآن، إنما هو يفيد التكثير والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.
إنها ليلة عظيمة باختيار الله لبدء تنزيل هذا القرآن، وإفاضة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض به من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير، وتنزيل الملائكة وجبريل -عليه السلام- خاصة بإذن ربهم ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني الذي تصوره كلمات السورة تصويرًا عجيباً.
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان، وفي واقع الأرض، وفي تصورات القلوب والعقول، فإننا نرى أمرًا عظيمًا حقًا، وندرك من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: 2).
لقد فُرق فيها كل أمر حكيم، وقد وضعت فيها قيم وأسس وموازين، وقد قررت فيها أقدار أكبر من أقدار الأفراد، أقدار أمم ودول وشعوب، بل أكثر وأعظم. أقدار.. حقائق وأوضاع وقلوب.
ولقد غفلت البشرية -لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر، وعن حقيقة ذلك الحدث، وعظمة هذا الأمر، وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي -سلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع- الذي وهبها إياه الإسلام، ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة، فهي شقية شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش.
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء، وطلاقة الرفرة إلى عليين.
يجب ألا ننسى :
ونحن المؤمنين مأمورون ألا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى، وقد جعل لنا نبينا ﷺ سبيلًا هينًا لينًا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدًا، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها، وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام، ومن تحريها، والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان، وفي الصحيحين: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وفي الصحيحين كذلك: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه «
والإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثم قال رسول الله ﷺ عن القيام في هذه الليلة أن يكون إيمانًا واحتسابًا، وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة، وإيمانًا ليكون تجردًا لله وخلوصًا واحتسابًا، ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام، ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن، والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر، ولا تقف عند حدود التفكير، وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق، ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك، وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق -دون مساندة العبادة، وعن غير طريقها- لا يقر هذه الحقائق ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد، ولا في حياة الجماعة، وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانًا واحتسابًا هو طرف من هذا المنهج الناجح القويم.
الهوامش
- الجامع لأحكام القرآن - المجلد ۲۰ - ص ۱۳۰- ٣١ – ١٣٣.
- في ظلال القرآن - المجلد السادس - ص: (٣٩٤٥ – ٣٩٤٦)
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل