العنوان أمراض في طريق الدعاة
الكاتب د. جاسم المهلهل آل ياسين
تاريخ النشر الثلاثاء 08-فبراير-1983
مشاهدات 33
نشر في العدد 607
نشر في الصفحة 34
الثلاثاء 08-فبراير-1983
الافتتان بالرجال ونسيان بعض القواعد من أبرز العقبات في طريق الدعاة
سياسة عمر الفاروق رضي الله عنه في معالجة المرض النفسي نموذج حكيم
تبينا في حلقة سابقة أن مهمة الدعوة إدخال الملك في دين الله لا دخول الدعوة في دين الملك، وكذلك لا التقاء في منتصف الطريق إذا كان في ذلك إخلال بأصول هذا الدين.
واليوم نتدارس: دخول العوام في دين الله لا دخول الدعوة في دين العوام.. وقد يخطر على قلب أحد من البشر خواطر غريبة:
- فيقول: أتريد دين الله أن يكون (...) خاصًا بفئة معينة من الناس.
- فيكون الجواب: أبا الخير لا تعجل علينا فإنا نورد الأوراق بيضًا ونصدرهن سودًا «بالحبر» قد ملينا - مع الاعتذار للشاعر الجاهلي.
- فالمراد في الحديث هو إدخال العوام في صفوف الدعاة عن طريق التخلي عن الموازين والضوابط التي جعلتها الدعوة أساسًا لبنائها..
- فإن قلت: هذا تشاؤم منك، واستطراد في ذهنك لا حقيقة له.
-فاليد ترتفع بالدعاء: حقق ما تعتقده ووقانا شر الهدم والحفر «ومن لم يند عن فكره بقلمه يهدم»، وماذا أفعل يا صاحبي:
وفهمي كلما عاتبته *** هان بالتفكير يبغي تعبي
واعلم إن الإغماض عن القذرة لا ينفي وجودها. وإن لم تكن تعلم ما يقال فتلك مصيبة، وإن تكن تعلم فالمصيبة أعظم!! وإن أردت أن تسمع فأعطني سمعك لأسمعك من أفريقيا البعيدة: «عليك بتنزيل مستواك الإيماني» و «على الحركة الإسلامية تنزيل مستوى التدين!!».. وإن كان سمعك ثقيلًا فأعرني سمعك أقرأ عليك من «آسيا» ضرورة التساهل في الشروط - أي شروط وموازين أفراد الحركة.
-كفى وقفًا نذكر للقارئ ما في حواركما:
هناك حقيقة في النفس البشرية لا يمكن إغفالها وهي: حب التملك والمكاثرة ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ (التكاثر:1) ... الآية» ويعبر عنها البعض بالحرص على التجنيد.. وهذه تشتد في البلاد التي نظامها كما يسمونه «ديمقراطي» «وهو حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب» فيكون الشعار كلما جندت شخصًا ساعدت على حصولنا على مقعد انتخابي في أي مركز من مراكز التوجيه والتأثير.. وهنا يفهم المراد بالتوجيه السابق -نزل مستواك الإيماني- بمعنى إذا رأيت الذي معك لا يحرص على هدى النبي صلى الله عليه وسلم فلا شيء فالأمر فيه خلاف عند العلماء، وإذا أراد أن يذهب إلى «دار السينما» مثلًا فلا حرج من ذهابك معه فالصور الموجودة عبارة عن خيال وليست حقيقة وهناك من جوز من العلماء!! وهكذا بعد فترة يجد الداعية المسلم نفسه خاليًا من محتواه الذي يميزه عن غيره من أصحاب الأحزاب الأرضية، ويظل الاختلاف قائمًا بالأسماء دون المسميات.. وهذا من ثم ينسحب على الجماعة فتُنَّزِلْ -بضم التاء- من مستوى التدين عندها لكي تستطيع أن ترضي أكبر عدد من القطاعات ليتسنى لها كسب أكثر عدد ممكن من الأصوات!! وعندئذ تفقد الحركة أصالتها كما فقد الفرد محتواه.. وتتغير الصورة وتدخل الجماعة في دين العوام بدل إدخال العوام في دين الجماعة.
... وهنا قد يعترض معترض: وهل نترك العوام نهبًا للأحزاب الأرضية ألا تذكر بالأمس القريب كيف حكمت طبقة «البروليتاريا» -هي طبقة العمال حين تحكم بالقوة، كما يعرفها ماركس؟ -
- هون عليك يا هذا فلا زلت لا تعرف الكثير كما يقول: أبو حامد:
أنت أكل الخبز لا تعرفه *** كيف يجري منك أم كيف تبول
فإنه لا يعني عدم إدخال هؤلاء معك في الصف إن لا تحسن إليهم ولا تعقد الصداقات معهم، ولا تمش في حوائجهم إن استطعت، ولا تقوم بتعليمهم وتوجيههم فهذا مطلوب منك.. فهذا وكيع بن الجراح شيخ الإمامين أحمد والشافعي رضي الله عنهم جميعًا يقتطع من وقته ليذهب للسقائين والخبازين لتعليمهم وتوجيههم.. ولكن لا يدخلهم في صفوف طلبة العلم حتى يحوزوا الشروط وكذلك لا ينزل -بضم الياء- من مستواه الإيماني ليواكبهم ولا يحط من علمه ليوافق ميولهم فيأخذوه!!
وهنا لا بد من ذكر خطأ وقع به الناس في فهم ما قاله أبو إسحاق الفزاري للأوزاعي «كان رجل عامة» فقالوا: أي أنه يكثر من مجالسة العامة، وهذا خلاف المراد لأن كما هو في سياق التعظيم ليس رجل نفسه، إنما هو رجل يدير الأمة عامة عنده عقل ومدارك تؤهله لذلك».
فالعوام لا يرضيهم إلا ما يوافق هواهم، وما ظن وصف النساء عنهم ببعيد لو أحسنت لأحدهم -العوام- العمر كله، ثم أخطأت في حقه بل لم تلب رغبته مرة لتنكر كما تنكر الناشز زوجها.. لهذا قال الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة وشيخ الإمام الشافعي رضي الله عنهم جميعًا: «لو كان العوام عبيدي لأعتقتهم، وأسقطت موالاتهم».
وللبدء في ختم الموضوع هل سأل شباب الحركة أنفسهم ما هو المطلوب منهم شرعًا؟ هل هو تحقيق النصر في حياتهم؟ أم هو التزام الطريق المستقيم ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ الآية (الأنعام:153)، فإنه كان الثاني وهو البين من خطاب الله سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ (غافر:77)، فلماذا التعجل والتخبط.
ونهاية المطاف، أهل الدعوة على يقين أن هذا الذي هو باخع نفسه على إنتاجية الحركة وسعة أفرادها سيأتي اليوم الذي ينكشف له نقاب الفكر الذي يتنطط به ويرجع كما الباحث الذي يبحث عن حِمَارَي أهله.. ويطلقها مثلًا.. أتعرفون قصته إنه رجل في الجاهلية فقد حِمارَيه، وفي أثناء بحثه رأى امرأة منتقبة فأخذ يتبعها لعله يحصل منها على كلمة أو نظرة وطال المسير، فرقت الفتاة وكشفت عن وجهها ونظر إلى شفتيها وقال: مثلًا: «ذكرني فوك حماري أهلي» ورجع ليبحث عن ضالته لعله يجدها بعد أن طال الطريق! وانطلق الركب، فهل إلى سبيل؟؟
نتاج نستعيذ بالله منه:
«كل إناء ينضح بما فيه» قاعدة مسموعة مرئية أصبحت من البدهيات التي يحفظها الصغار قبل الكبار، ولا خلاف فيها عند العلماء قبل الجهلاء.. فإذا كانت هذه القاعدة كذلك فهلا رأيناها فيما ذكرنا، وطبقناها على ما قرأنا.. إن التساهل في شروط أصحاب الحركة أو ما يسمونه بتنزيل المستوى الديني لدى الداعية لا يقل خطورة عن أصله أذكر منه على سبيل المثال:
أولًا: الافتتان بالرجال يعمي العيون والأبصار:
قديمًا قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبينًا منهج معرفة الحق: «لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق، اعرف الحق تعرف أهله».. وهذه القاعدة تظل مستمرة ما لم يحدث الغبن والافتتان.
فعندما يفتن الإنسان بشيخه لا يرى عيبه، بل الأكثر من ذلك أن ينظر إلى شذوذ شيخه على أنه قاعدة علمية على الناس أن يأخذوا بها.
ولتوضيح ذلك نسوق القصة الآتية وهي مروية من تلميذ عن شيخه:
يقول الأستاذ كرد، متحدثًا عن وجوده في فرنسا مع شيخه محمد عبده: عندما كنا في فرنسا نعمل على إصدار «العروة الوثقى» كان الشيخ يذهب الساعة العاشرة ونحن في أشد الاحتياج للوقت.. وهكذا كل يوم وأردت أن أسأله فهبته.. ولكني تتبعته يومًا فرأيته يجلس في مقهى على طاولة واحدة مع حسناء فرنسية.. فرجعت وأخذت أنتظر حتى يرجع وسألته قال: إنه يتعلم منها اللغة الفرنسية وإن التعلم عن طريق الجمال أسرع» هذه هي الصورة كما يذكرها التلميذ عن شيخه، فما هي ردة الفعل لما حدث وماذا يمكن أن يقول التلميذ المفتون؟ إنه الأمر العجب الذي يذهب بالعقول يقول: «هكذا يعلم منقذ الشرق كيف يتلقى العلم عن طريق الجمال» أليست هذه فتنة وسقوطًا؟
أمر قد يبدو غريبا ولكنه داء الافتتان الذي يصيب ضعاف الدين أصحاب الجري وراء كل ناعق ومن الملاحظ أن انتشار هذا المرض يتناسب مع مقدار الأصالة الشرعية لدى الأفراد تناسبًا عكسيًا. ولم لا وهم أصحاب الفهم السديد والفحص العميق والإدراك الصحيح والمنهج السليم.؟
أعلم أنه لا يحدث التأثر بين المفتون والمفتون به إلا إذا كان بينهما عرق رابط وللتوضيح استمع إلى هذه القصة يرويها أبو حامد الغزالي رحمه الله فيقول «بتصرف»: رأيت مما أعجبني يومًا غرابًا وعصفورًا يطيران معا فأخذت أتتبعهما مستغربًا، فلكل واحد منهما طبائعه ومآربه التي تختلف عن الآخر، فما الذي جمعهما معا؟؟ فلما نزلا إلى الأرض بان السبب فزال العجب، فكل من الغراب والعصفور يعرجان!! فبان العرق الرابط، والاستطراد كما يكون العرج في الرجل يكون في الفهم والفكر والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثانيًا: نسيان قاعدتي القبول - الإخلاص وموافقة الشرع:
كثرة الانتصار، وانتفاشة العضلات، وتصفيق المؤيدين كل هذه وأمثالها تنسى الداعية الضوابط الأولى التي كان يرتكز عليها في بداية الطريق، وهذا الأمر قد يكون مقبولًا في بدايته حيث يسهل إزالته بموقف إيماني يستل من آية أو حديث - يرجعه إلى صوابه الأول فها هي الانتفاشة تحصل للجيل الأول... الصحابة رضوان الله عليهم فيصيبهم البهرج وتخدش القلوب فيأتي الشافي الأعظم والنور الساطع ليرجع الناس إلى أصولهم وقواعدهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ الآيات (الأنفال:24-28)
فكانت هذه الآيات البلسم الشافي الذي لا يحتاج إلى بيان، في إرجاع النفوس إلى صفاء ونقاء أوقات البداية وصدق من قال «واشوقاه لأوقات البداية» ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (الأنفال:26).. في تلك الآفات التي كان الترديد من الجميع «اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك» «اللهم بك نصول وبك نجول وغيرها من الأدعية التي تبين الالتجاء الصادق إلى الله بعيدًا عن غرور العقل وتدبيره.
فهذه الأعداد الهاتفة لمسيرة الدعوة، المنقادة لخطابات الدعاة توجد زهوًا في النفس ينسى الإنسان لماذا هو يدعو؟ هل لتكثير الأنصار، وبهرجة الأعداد؟ أم لمرضاة الله سبحانه والفوز بجنته ووعده؟؟ وإنه لتذكرني هذه الانتعاشة بالطيشان لكل أمر ثائر والزبد الذي يخلفه يخيل للناظر في أول الأمر أنه عظيم القدر والحجم، فإذا ما صبر المشاهد عليه وحده قد انكمش ورجع إلى حجمه، وكان أمرًا يلزمه «اخسأ فلن تعد وقدرك» وصدق التابعي الجليل تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه الربيع بن خييم رضي الله عنه عندما قال «كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل» ولما لا والمنبت - المكان الذي ينبت فيه الزرع - إذا خبث لا يخرج إلا نكدًا... وهذا البهرج الفارغ لا يعدو أن يكون أحسن صورة من «خضراء الدمن» النبتة الجميلة في منبت السوء فإياكم وإياكم...
وهكذا كل بناء على جرف هار ينهار بصاحبه.. وكذلك عندما يغفل الإنسان عن مراقبة الله يبدأ بالتخلي عن الالتزام بضوابط الشرع فيبدأ بالانحراف حتى يصل إلى تسمية الفقه الذي قدمه وتركه رجال أوجدهم الله لخدمة دينه فسهروا وجدوا وجاهدوا حتى وصل إلينا نقيًا صافيًا... فيخرج من سمى ذلك «فقه الحفريات» فيقسموا الإسلام إلى عقائد وشعائر ومعاملات فيبنوا بعد ذلك فكرة الانتماء فيقولوا: للمسلم انتماء ديني وانتماء سياسي!! فتبدأ الانقسامات وتكثر التشعبات.
ويظن أصحاب هذا التفكير - الذي انسلخ من مراقبة الله وانفلت من ضوابط الشرع - أنهم يمدون جسرًا لكسب بعض العناصر اليسارية المتدينة ليجعلوهم في صفوفهم بعد أن يبينوا ما في الإسلام من مبادئ إصلاحية تغنيهم عن المذاهب اليسارية الوضعية!!
ومن غير أن يشعر هذا القائل وأمثاله فإنه يصير بوقًا لليسار وأعوانه... ولا نستغرب ذلك فهذا حسن حنفي العضو بحزب التجمع الوطني صاحب مجلة «اليسار في مصر» أجرت معه صحيفة «المستقبل» فسألته بعض الأسئلة عن وسائل الإعلام التي يستخدمونها؟ فقال: نحن نستعمل جميع القنوات الممكنة للتعبير عن أنفسنا: «الأحزاب التقدمية والحركات الإسلامية القائمة..»
وهذه هي أساليب أعداء الله التي أضافوها إلى وسائل التعذيب والتنكيل... فيعمدون إلى الدخول تحت مظلة الإسلام وإدخال مفاهيم غريبة عليه لتقويضه من الداخل. هذا هو سبيل المجرمين فتبينوا يا سالكين سبيل المؤمنين، واسمعوا شاعرنا يقول:
الشرع أعظم مرشد *** في ظلمة الشبه البهيجة
والعقل يقفوه ولو *** لاه لكنا كالبهيمة
فاتبعهما ولمن لحا *** ك عليهما قل يا بهي مه
مع الاعتذار للفهم لذلك يقصد الشاعر في الكلمة الأخيرة «يا بهيمة» يا بهي «أي جميل المطلع» مه عما تقول «وهذا من حسن الأدب».
ثالثًا: خداع البصر
هذا المرض عادة عند صاحب الاحتياج... فالمحتاج إلى الماء يظن السراب ماء، والذي يوشك مع الغرق يظن القشة سفينة، وغيرها من الصور التي نراها في حياتنا، وهذه خطورتها تقل لكونها طبيعية وتأثيرها فردي أما التي تمثل خطرًا على الدعوة الإسلامية هي تلك التي يصطنعها أعداء الله ليخدعوا بها الحركة، فيظنون السائل ماء وهو شراب مسكر يذهب بلباب الرجال فيضلوا الطريق.
خداعات كثيرة تستعمل لكل بيئة بحسبها، فالشيطان قد امتلأت كنانته باسهم مختلفة... ومن أشد صور الخداع تلك التي يرى الإنسان فيها الأرض مخضرة فيظن أنه في بستان غناء وأرض ثابتة وإذا هو مستنقع آسن قد غطته الأوراق الساقطة التي هبت بها الريح... وهذا الخداع سيكتشف يومًا ما ولكن سيكون الوقت قد فات حيث ستهب كسنة كونية ريح قوية وستتطاير الأوراق وتنكشف الحقيقة فيبحث المخدوعون عن يابسة فلا يجدون فيسقطون في المستنقع الآسن وسيفرغون أو يتنجسون وفي كلتا الصورتين سيشعرون ويحسون بعد فوات الوقت أنهم كانوا مخدوعين.
ومن أمثلة هذه الصورة ما يظنه الكثير من المسلمين في البلاد التي تنتشر فيها المظاهر الإسلامية إنهم على الخير، وإن الأحزاب الباطلة كالشيوعية والماسونية وغيرها من الاتجاهات اللادينية محاربة، ومقضى عليها، فلذلك لسنا بحاجة إلى حركة إسلامية، فالناس بخير، والمساجد منتشرة والجمع قائمة وهكذا يظن الجميع أن الأرض مخضرة، وإنها يابسة فإذا جاء أمر ربك وظهرت الحقيقة زال خداع البصر وأنى لهم يومئذ فحذارِ حذارِ من هذا المرض الخبيث، فالمريض الذي يعرف مرضه من أول الأمر يمكنه بعون الله معالجته وقطع الأجزاء المريضة إن كانت تمثل خطورة على الجسد... أما الخطورة فتتجسد عندما لا يكتشف المرض إلا في نهاية مرحلته التي لا ينفع فيها العلاج لا قدر الله.
رابعًا: سقوط قيادة العمل في الدنيا وحبها
إن قيادة العمل الإسلامي هي تكليف وتعب وجهد أكثر مما هي تشريف؛ هذه حقيقة يعرفها الجميع ولكنها تخفى على الجميع في لحظات إقبال الدنيا وبهرجها وزينتها... ولتصوير ذلك لا بد من ذكر ما ذكره الطبري في تاريخ الأمم والملوك ح ص ٦٢٠ قال: "دخل ذات يوم عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر في علته التي مات فيها فقال «.... أراك بارئا يا خليفة رسول الله فقال أبو بكر: أما إني على ذلك لشديد الوجع ولا لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليَّ من وجعي.
إني وليت أموركم خيركم في نفسي «يقصد عمر بن الخطاب» فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه ...» فإذا كان معاشر المهاجرين حرصوا عليها فما بالنا نحن!!
ولوجود هذا المرض في النفس البشرية اتخذ الفاروق رضي الله عنه سياسة حكيمة في تربيتهم لدرجة أنه حظر عليهم الخروج إلى البلدان إلا بإذنه وإلى أجل... فاشتد عليهم الأمر وأخذوا بالشكوى فبلغه رضي الله عنه الأمر فقال: «ألا وإني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعًا، ثم ثنيًا، ثم رباعيًا، ثم سداسيًا، ثم بازلًا ألا فهل ينتظرون بالبازل إلا النقصان وإن قريشًا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده ألا فإما ابن الخطاب حي فلا: إني قائم دون شعب الحرة فآخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا إلى النار» الطبري ح. ص ١٣٤ نص الطبري نقلًا عن كتاب صابر طعيمة انظر كيف صور التهافت على الدنيا بالتهافت إلى النار، وكيف منعهم من السفر خوفًا من معاينة مفاتن الدنيا وبهارجها... فالله نسأل حسن العون والثبات، وأن لا يكون خروج الدعاة في دراساتهم يريدون الدنيا وبهرجها، فوالله؛ للذي خاف منه عمر رضي الله عنه نحن أحوج إلى الخوف منه اليوم منه بالأمس والله نسأل حسن المقاصد.
وفي الختام أسأل الله العظيم أن يعافينا ويحفظنا وينجينا وكما قال ابن القيم رحمه الله:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة *** وإلا فإني لا أظنك ناجيا
كما إني أستسمح القارئ في الاختصار كما قال لي بعض الإخوة من أن الكلام يحتاج إلى شرح أكثر وسندي في ذلك قاعدة المحدثين «ما يقال فيه كلمة لا يقال فيه كلمتان», أما إن كان في كلامي شكوى يشعر بها البعض فأطلب العذر من إخواني لأنه لا بد للإنسان من شكوى يفرج بها همه وغمه كما قال الشاعر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة *** يواسيك أو يسليك أو يتوجع
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل