; معالم على الطريق.. جمهورية العمدة وواعظه قُفَّة!! | مجلة المجتمع

العنوان معالم على الطريق.. جمهورية العمدة وواعظه قُفَّة!!

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 20-يوليو-1993

مشاهدات 695

نشر في العدد 1058

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 20-يوليو-1993

كان العمدة في الريف العربي: هو حاكم القرية المطلق، الذي تأخذ برأيه السلطة ويعاونها في كل ما تريد، في التبليغ عن الخارجين على رأي الدولة، وفي جمع الضرائب "المال" من الريفيين، وفي الإشراف على الجمعية التعاونية التي تمد الفلاحين بالتموين والسماد والبذور، وفي الإشراف على المخالفات الزراعية، وفي التعديات على أملاك الدولة، وفي عدم تسليم المحاصيل المطلوبة من الفلاحين وفي جمع أولاد الفلاحين وإرسالهم إلى السخرة– قديمًا أو الجيش– حديثًا وفي دبلجة الانتخابات حسب المطلوب الخ. فهو بهذا مطلق التصرف في القرية، يتحكم في أرزاقها وأقواتها وأهلها، وهو باب الحكومة ومندوب السلطة، لا يؤخذ إلا برأيه ولا يسمع إلا لقوله، يحكم مدى الحياة، ولا ينتخب، بل يعين ولا يؤخذ رأي أحد في توليته، ولا يحاسب من قبل سلطة جماهيرية أو شعبية، لكل ذلك فهو يعتبر جبار القرية وفرعون البلدة الذي تحت إمرته ثلاثون من الخفراء الغلاظ غير المتعلمين، تضعهم السلطة تحت إمرته؛ ليكونوا له زبانية يجوبون القرية كأنهم فهود تبحث عن فرائس، وبهذا لا يستطيع أحد من الناس أن يخالف له قولا أو يحاكم له فعلًا، يستبيح الناس مالًا وعرضًا وكرامةً، والناس يصبرون ويتألمون ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن يستعصي على أمره أو فعله، تؤلف له مصيبة، أو تبرمج له داهية، فهو إذا لم يتهمه العمدة بسب الحكومة يتهم بالتهرب من الضرائب، أو بالتعدي على أملاك الدولة، أو بالتخلف في توريد المحاصيل، أو بسرقة مواشي سرقها العمدة، وإذا لم يكن هذا أو ذاك، فهو مطلوب لأنه يقلق الأمن ويثير البلبلة، والشهود كثيرة لإثبات التهمة، وكلمة العمدة عند السلطة لا ترد؛ لهذا فالناس تبعًا لرأيه وفي خدمته رجالًا ونساءً، ولا يستطيع أحد أن يرفع رأسًا أو يبدي رأيًا أو يشتكي ظلامةً، وفي بعض القرى المحظوظة يعين فيها واعظ ديني من قبل الأوقاف، وبسرعة يطويه العمدة تحت جناحه بالترغيب أو الترهيب، يريده العمدة أن يكون له مفتيًا يضفي على مظالمه صيغًا شرعية، فيأمر بالطاعة لأولى الأمر في الدواهي التي يكون لها تأويل، وبالرضا بالقضاء والقدر فيما يكون صارخ البطلان وليس له تبرير، ولكن واعظ قرية كذا.. كان يتقي الله ويريد في نفس الوقت أن يسالم العمدة، فأحبه الناس، وأقبلوا على المسجد وكأنهم لأول مرة ينظرون إلى دين لا يزيد المظالم، وإلى شريعة لا تبرر البغي والعدوان، وكان الواعظ لحبه السلامة يبتعد في الخطبة عن الموضوعات التي تجلب المتاعب في نظره – صعد مرة يخطب في العدل فقال الناس: إنه يقصد العمدة؛ لأنه ظالم جبار. وقال العمدة: يقصدني فترك الواعظ الحديث عن العدل والظلم، وتحدث في الزنا وحرمة الأعراض

فقال الناس: يقصد العمدة؛ لأنه زانٍ يلغ في أعراض القرية، فتحدث في السرقة فقالوا: يقصد العمدة؛ لأنه يسرق الناس، ومن يسرق يكون بعلمه وتحت حمايته، فتحدث في الرشوة فقالوا: يقصد العمدة؛ لأنه لا يمرر شيئًا إلا برشوة فترك كل ذلك، وتكلم عن الصبر، فقالوا يقصد الصبر على بلاوي العمدة ومظالمه؛ حتى يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فاحتار الواعظ في أمره، وقال: ماذا أفعل وفي أي شيء أتحدث، فقال له بعض الظرفاء، وأصحاب الدهاء همسًا كل شيء محرم فهو في عمدتنا، فأي حديث تتكلم به سيؤلمه ويمس شرفه وينطبق على جرائمه، فإن كنت تحب أن تقول شيئا فهو المديح والثناء وطلب التأييد للعمدة، أعلا الله شأنه، وأدام عزه وبسط سلطانه، وأهلك أعداءه!!! 

ومشكلة المصلحين في العالم الثالث في الحقيقة هي مشكلة هذا الواعظ مع العمدة، فأي حديث يتكلمون، وأي موضوع يثيرون يتهمون بأنهم يقصدون السلطة، أو يتهمون الحاكم، أو يحرضون العامة أو يثيرون القلاقل أو يعدون الفتنة، فإذا تكلموا عن الظلم النازل والقهر الماحق، أو تحدثوا عن الحريات المكبوتة أو فقدان القانون أو انعدام الدستور أو إهدار حقوق الإنسان، أو استباحة الحرمات قالوا: يقصدنا، وإذا تحدثوا عن التسيب أو الفساد أو الانحراف قالوا: يعرض بنا، وإذا تحدثوا عن السرقات ونهب الأموال، وخراب الذمم والتستر على المجرمين قالوا: يحرض علينا، وإذا تحدثوا عن الجبن وفقدان الحمية، والخضوع للابتزاز وعدم القدرة على الدفاع عن الأمة وحرماتها، أو تحدثوا عن الغباء السياسي والعمى الدولي، والاضطهاد العالمي للأمة، أو تحدثوا عن التأخر الحضاري والتخلف الثقافي والانحدار العلمي قالوا: هذه هي الفتنة الكبرى وهؤلاء محرضوها!! فإذا قالوا فماذا نفعل؟ قيل لهم بمنطق فصيح وكلام مليح: تحدثوا عن الأعمال الكبار، والأفعال العظام والإنجازات العملاقة، تحدثوا عن حكمة السلطة وحنكتها، وعدلها وأمانتها، وإنصافها وشهامتها، وقولوا لرمز الأمة وقائدها: أبقي الله حكمك، وأطال عمرك، وأدام عزك، فبالشكر والعرفان نحييك، وبالروح والدم نفديك!!

ولكن هل يترك الزمان هذا العمدة، أو تبقيه صحوة الشعوب، أو يهمله الله، والله يعلي ولا يفلت؟!!!

الرابط المختصر :