العنوان دروس تربوية من امرأة مقدسية
الكاتب عبد الباري محمد الطاهر
تاريخ النشر السبت 05-مايو-2001
مشاهدات 16
نشر في العدد 1449
نشر في الصفحة 56
السبت 05-مايو-2001
المجتمع التربوي
لا تنطق بالقرآن 40 سنة مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها
تملك أمتنا الإسلامية -بفضل الله تعالى- مقومات أستاذيتها على العالم، ولديها من الطاقات ما يؤهلها لهذه المكانة المرموقة، إلا أن عددًا غير قليل من أبنائها قد بهرهم بريق الغرب الزائف، فساروا يلهثون خلف السراب، وفقد كثير منهم جانبًا كبيرًا من الصواب، فارتكست نفوسهم، ونسوا أنهم أصحاب القيادة والريادة الحقيقيون في هذا العالم.
وإذا كان هناك من مفهوم للعولمة، فلا بد أن يكون الإسلام سيد العالم، ولن يتأتى ذلك إلا بعقول أبناء أمتنا التي يحاول الغرب السيطرة عليها، ولن يستطيع ما دام في الأمة أمثال تلك المرأة المقدسية التي مكثت أربعين عامًا لا تنطق إلا بالقرآن، فلسانها رطب بذكر الله، وحديثها مرتبط بكتاب الله، وسلوكها وفق منهج الله، فهي تضفي على من حولها وقار الإيمان، وسكينة الإسلام، وروحانية الدين الحنيف وشفافية القلب الموصول بالله العلي الكبير، وعلى الرغم من كبر سنها، فإن هذا لم يجعلها تتنازل عن مبادئها، أو تتخلى عن سلوكها، أو تفقد صوابها، أو تمتنع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذه المرأة التي تنطق بالقرآن، ولا يعرف لسانها غيره من أرض الرباط، من بيت المقدس، من تلك الأرض المقدسة التي باركها الله تعالى، والتي يكون فيها أهل الطائفة الظاهرة على الحق التي لا يضرها من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، فما حكاية تلك المرأة؟
تبدأ الحكاية حين خرج عبد الله بن المبارك -يرحمه الله تعالى- وهو من العلماء المجاهدين العابدين قاصدًا بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ونتركه -يرحمه الله تعالى- يحكي بلسانه الحكاية، ثم نعلق عليها في النهاية.
يقول ابن المبارك: بينما أنا سائر في الطريق، إذا بسواد، فمررت به، وإذا هي عجوز عليها درع من صوف، وخمار من صوف، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقالت: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس: 58).
فقلت لها: يرحمك الله تعالى، ما تصنعين في هذا المكان؟
فقالت: ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ (الأعراف: 186).
فقلت: إنها ضالة عن الطريق، فقلت: أين تريدين؟
فقالت:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (الإسراء: 1)
فعلمت أنها قضت حجها، وتريد بيت المقدس، فقلت: أنت مذ كم في هذا المكان؟
فقالت: ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ (مريم: 10)
فقلت: ما أرى معك طعامًا؟!
فقالت: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ (البقرة: 187).
فقلت لها: ليس هذا شهر رمضان؟
فقالت: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 158).
فقلت لها: قد أبيح لنا الإفطار في السفر؟
فقالت: ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 184).
فقلت لها: لم لا تكلميني مثلما أكلمك به؟
فقالت: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18).
فقلت لها: من أي الناس أنت؟
فقالت: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36).
فقلت لها: قد أخطأت، فاجعليني في حل.
فقالت: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (يوسف: 92).
قلت لها: هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة؟
قالت: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه﴾ (البقرة: 197).
فأنخت مطيتي لها.
فقالت: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ (النور: 30).
فغضضت بصري عنها، فقلت اركبي. فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها، ومزقت ثيابها.
فقالت: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (الشورى: 30).
فقلت لها: اصبري حتى أعقلها.
فقالت: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ (الأنبياء: 79).
فشددت لها الناقة، وقلت لها: اركبي فلما ركبت قالت: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ (الزخرف: 13، 14).
فأخذت بزمام الناقة، وجعلت أسعى، وأصبح طربًا.
فقالت لي: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (لقمان: 19).
فجعلت أمشي وأترنم بالشعر
فقالت: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ (المزمل: 20).
فقلت: ليس هو بحرام
قالت: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 269).
فطرقت عنها ساعة، فقلت لها: هل لك ربع؟ قالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (المائدة: 101)
فسكت عنها، ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة، فقلت لها هذه القافلة، فمن لك فيها؟
فقالت: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: 46).
فعلمت أن لها أولادًا ومالًا، فقلت لها: ما شأنهم؟
قالت: ﴿وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ (النحل: 16).
فعلمت أنهم قائدو الركب، فقصدت بي القبابات والعمارات، فقلت من لك فيها؟
فقالت: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ (النساء: 125)، ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾ (النساء: 164)، ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: 12).
فناديت: يا إبراهيم، يا موسى، يا يحيى فجاءوني بالتلبية، فإذا هم شبان كأنهم الأقمار، قد أقبلوا، فلما استقر بهم الجلوس، قالت لهم: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ (الكهف: 19).
فقام أحدهم، فاشترى طعامًا، فقدموه بين يدي.
وقالت: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ (الحاقة: 24)
فقلت لهم: طعامكم هذا على حرام حتى تخبروني بأمر أمكم هذه.
فقالوا: هذه لها أربعون سنة لا تتكلم إلا بالقرآن، مخافة أن تزل في كلامها، فيسخط الله عليها.
دروس كثيرة
هذه حكاية امرأة عجوز من بيت المقدس، لكنها حاملة لكتاب الله، ناطقة به، فقيهة، ورعة زاهدة موقنة بقدر الله عابدة قانتة القرآن والصوم سلاحان معها، وفي الحديث: «إن القرآن والصيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة».
ولقد علق بعض العلماء على الحكاية بقوله: «فسبحان الله القادر على كل شيء إنها حكاية تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء».
غير أن هذه الحكاية تحمل من الدروس التربوية الكثير، وهكذا كل تراثنا الإسلامي، يلقي أضواء لا حدود لها في مجال التربية الحقيقية لنفوس تريد لنفسها النجاة في الدنيا والآخرة، وسأترك للقارئ الكريم التعليق بما يراه على سلوك هذه المرأة العجوز الفاضلة المؤمنة التقية، وأضع أمام ناظري -أخي القارئ- ملحوظة أرى أنها جديرة بالنظر والاهتمام، وهي أنه بمثل هذه المرأة ينتصر المسلمون على عدوهم، وبمثل هذا السلوك المنبثق من كتاب الله تعالى ترتفع راية الإسلام على كل شبر على المعمورة، بمثل سلوك هذه المرأة ينتشر الخير، وتعم الفضيلة بين الناس.
واختم بكلمة موجزة إلى أخواتي الفضليات المرابطات في بيت المقدس اليوم، اللائي يقفن في وجه الغادرين، ويستقبلن الرصاصات الحاقدة في صدورهن بنفس صابرة مطمئنة محتسبة، أهمس في أذانهن، وأقول لهن اصبرن، ولا تنسين ذكر الله تعالى، ولا تتركن الالتزام بسلوك الإسلام، واتقين الله تعالى، واحتسبن أنفسكن عند الله تعالى، ولا تتخاذلن عن نصرة الحق، وإن عز النصير، وقل المجير، وضعفت همم أبناء أمتنا الإسلامية عن إنقاذكن، فإن الله معكن، وسيسطر جهادكن بمداد من نور عند الله أولًا، وستذكرن في الملا الأعلى، وإن لم تكتب بطولاتكن بمداد العلماء، فيكفي أن تذهبن إلى حيث الحياة الأبدية، وتحلق أرواحكن في حواصل طير خضر، ترفرف على بيت المقدس تناشد الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها أن تعيد دموع البلد الحزين، وتضم القدس الشريف الأقصى السليب، فلعل صدى أصواتكن يصل إلى قلوب مؤمنة بالله في بيت المقدس أو أكناف بيت المقدس أو في أي بلد مسلم، فتحرر الأقصى من دنس الصهاينة المجرمين، وتمسح إلى البلد الأمين..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
۲۱ أغسطس.. حريق المسجد الأقصى، أم حرق وجود المسلمين الأدبي؟!
نشر في العدد 73
12
الثلاثاء 17-أغسطس-1971