الثلاثاء 07-يوليو-1970
«السّاكت عَن الحَقّ شيطانٌ أخرس»
المسافة بيننا وبين عدونا أعمق من قناة السويس وأقسى من سيناء
بقلم أبو هالة
● كلمة الحق في عالمنا العربي مكتومة الأنفاس، لا تستطيع أن تجد طريقها في سهولة ويسر!! حتى ولو تنادى أصحاب السلطان بضرورتها!! لأن التجربة دائمًا تفيد بأن كلمة الحق مرة المذاق، صعبة الابتلاع، عسيرة الهضم!! خصوصًا عند من يتحسسون أنفسهم فيجدونها تقصدهم، فيدركون تأثيرها وأنها قد تزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وصدق الله العظيم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (البقرة: 206).
● لكنها وجدت دائمًا وعلى مر الزمن الأبطال الفدائيين في طابور الشهداء الذين قالوها بكل سبيل. وحملوها متحملين تبعاتها، وجادوا بأرواحهم من أجلها، مطمئنين إلى أنهم على هدي رسولهم العظيم صلوات الله عليه «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»!!
● وأحيانًا يستطيع ضمير الكاتب أن يسرب بعض هوائها، زفرات خافتة أشبه بالأنين!! لكن قوة احتباسها مع غليانها، تمنح الخيط الهوائي المتسرب اندفاعًا وقوة نفاذ، تنخرق به الحواجز المصنوعة فيتسرب إلى الأعماق بعيدًا، بعيدًا، متجمعًا مع الروافد الأخرى من اليقظة والحس، فإذا بصانعي الحواجز والسدود يفيقون يوما على الماء الهادر، والسيل الجارف، مندفعًا، يهدم ما بنوه من حيث لا يحتسبون!! وتلك كلمة الحق فيما توصي به الآيات الكريمة ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: 17).
● وأهون ما يتعرض له «كتاب كلمة الحق» مقص الرقيب في وزارات الإعلام أو الإرشاد أو الأنباء!!
● وأقسى ما يصيبهم من ألم يمزق قلوبهم قبل تمزيق صفحات كتاباتهم، مقص رؤساء التحرير، حينما يتواطؤون بالصمت، تجاه الباطل، إما خوفًا على أرباحهم أو رضا بأن يكون لهم في الموكب أقل نصيب، «وهو أضعف الإيمان».!!
أو يفلسفون هذا الأسلوب بالأدب وعدم التجريح، متجاهلين قانون الله المسنون في كتابة المكنون ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ﴾ (النساء: 148)، متناسين قول المعلم الرسول صلوات الله عليه «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
● فهل درى هؤلاء أن الباطل إذا لم يكشف للناس ويبين سرعان ما تقوى دولته وتشتد صولته، ولن ينجو من جبروته وبطشه أحد، حتى الجبناء والذين أوصدوا أفواههم على ما في قلوبهم،
● ومن أجمل الكلمات الصادقة ما جاء في جريدة الأخبار القاهرية يوم 5 حزيران ۱۹۷۰ تحت عنوان «مواقف» قال الكاتب:
«ركبت آخر طائرة عادت من الجبهة يوم 4 يونيو ١٩٦٧ وهبطت منها إنسانًا آخر: صلبًا كالدبابة، بعيد النظر کالرادار، منيعًا كالطائرة. فقد رأيت وسمعت وسعدت وتمنيت وحلمت وانتظرت. ولم يطل الانتظار. فقد جاء يوم 5 يونيو: صدمنا، مزقنا، أطلقنا کالرصاص بعضنا على بعض. أحرقنا وأضاء لنا وأضاء بنا، فعلى ضوء الدماء رأينا عمق الجراح ووضعنا يدًا على السلاح ويدًا على الجراح، وكان السلاح أعمق جراحنا أيضًا.
ونبهنا وخز الضمير إلى أن المسافة بيننا وبين عدونا أعرق وأعمق من قناة السويس وأقسى من سيناء. فقد توهمنا أننا عمالقة وتصورنا أنه قزم. وكانت هذه بداية هزيمتنا أمام أنفسنا. فقد هزمنا أنفسنا قبل أن يهزمنا العدو. وإنما أكد لنا حقيقة جهلنا بكل ما هو ضروري لنا، وجوهري لمواجهة العدوان، ثم عاقبنا أنفسنا فاعتقلنا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا في أفواهنا.
وفي مرارة الهزيمة استسلمنا لليأس في أن نقوم. وإذا قمنا أن نصمد. وإذا صمدنا أن نتقدم. وإذا تقدمنا أن يكون ذلك في عام أو ألف عام، إلخ.
ولعل ذلك يرجع بي إلى فقرات نشرت بالأهرام القاهرية في ٨ نوفمبر ١٩٦٨ عن لسان رئيس الجمهورية العربية المتحدة «الآن يبدو واضحًا أمامنا أن كثيرين لم يتكلموا، ومن هنا فلسوف يبقى أهم الضمانات في نظري، أن يكون في هذا الوطن دائمًا ذلك الفرد المؤمن، الذي يقول كل ما يريد قوله حتى إذا أعطى رأسه ثمنًا لإيمانه».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل