العنوان في ظلال انتفاضة الأقصى.. صبر المجاهدين
الكاتب د. عيد عبد الحميد
تاريخ النشر السبت 08-ديسمبر-2001
مشاهدات 19
نشر في العدد 1480
نشر في الصفحة 46
السبت 08-ديسمبر-2001
لئن كانت شرعتنا الحنيفة أوصت عموم المؤمنين بامتثال قيمة الصبر والتحلي به فيما حزبهم من أمور كالصبر على المامور والمحذور والمقدور. فإنها اختصت جحافل المجاهدين بأحوال من الصبر المستبين فكان أن أوصتهم بالصبر قبل نشوب المعركة واحتدام الصراع، وبالصبر في خضم النزال والقراع، وبالصبر عقب جولة جهادية صار غبارها إلى انقشاع فهذه أحوال ومقامات من الصبر تنعقد بنواصيها حكم بالغة نيرة وثمرات طيبة خيرة. أما الصبر قبل نشوب المعركة فأثبته قوله تعالى لسيد المجاهدين- صلى الله عليه وسلم- وآله وصحبه أجمعين، بنص قرآني مبين: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ (الأحقاف: ٣٥)
فالوصية بالصبر في هذه الآية الكريمة حملتللمجاهدين بين طياتها لمسة تربوية بارعة مؤداها أنها تضبط مشاعرهم، وتهذب عواطفهم، وتمحص مواقفهم، وتصفي نواياهم وطواياهم وسرائرهم فصولاتهم وجولاتهم الجهادية لا تتأتى من باب ردود الأفعال، إنما من جهة إرضاء الكبير المتعال، فهي ليست رهينة حظوظ النفس إنما من الظلام تقتص تلقنهم ومن شايعهم ومشى ممشاهم أعظم درس فدماؤها وأرواحها في سبيل الله ترخص إعلاء لراية التوحيد وتخضيدًا لشوكة الشرك العنيد
وأذكر للدعاة في فلسطين حقبة زمنية انحازوا فيها إلى تربية النشء على التوحيد وصبغتهم بصبغة الكتاب والسنة، فكان أن تطاولت عليهم الألسنة فانبرى فريق يزاود عليهم، وراح يتمطى أن شهر في وجه يهود الأسنة، مروجين أن الدعاة بصنيعهم هذا إنما تثاقلوا عن دروب الجهاد والاسـتـشـهـاد، ونأوا بأنفسهم عن نصرة العباد، وتخاذلوا عن تحرير البلاد ..... فما لبثت هذه الأصوات أن خمدت حينما أتى على الناس زمان تناحر فيه حملة السلاح، وأثخنوا فيما بينهم الجراح، فتبين حينها أن الـعـقـيـدة هي التي توحد السواعد وليست البندقية، وثبت أنه ليست القضية الهرولة إلى حمل البندقية إنما هي النفوس الأبية التقية التي ينبغي صناعتها وإشباعها بالمبادئ النقية وإفعامها بالقيم القوية لتغدو لدماء شهدائها وفية ويظل شعارها المنية لا الدنية، فمهما ادلهمت الخطوب ونزلت في ساحتها الكروب، فنجم مبادئها وقيمها وثوابتها لن يسير إلى أقول وغروب.. وهذا ما كان للجيل المجاهد في فلسطين
وأما الصبر في خضم المعركة فبينه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (ال عمران:200)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:45-46).
فما حملته هذه الآيات الكريمة بين ثناياها مندعوة المجاهدين إلى التجلد وتجشم المشاق واستعذاب المنايا في سبيل الخلاق، وطلبها من مظانها بلا وجل ولا إشفاق من شأنه أن يفرج كربتهم، وينهي بإذن الله غربتهم في حين يخضد لأهل الزور والفساد شوكتهم، وقد قدمت غزوة حنين للبشرية في هذا الصدد أسمى عظة، صاغتها ثلة مجاهدة بصبر لحظة.
من هنا فعلى المجاهدين في فلسطين في أتون معركتهم المقدسة التي يذودون فيها عن حياض الأم ومقدساتها وحرماتها ... عليهم ألا يقيلوا ولا يستقيلوا عن درب قدموا فيه من الدماء والأشلاء ما يعد ضريبة لا يستخف بها ولا يستهان عن طريق نيل الحرية وتحقيق الاستقلال وعليهم أن يتفطنوا دومًا أن كوكبة الشهداء الذي قضوا نحبهم وجادوا من قبل ومن بعد بأرواحهم إنما شيدوا منار هدى يهتدي به الحيارى، فلا يليق بالجموع التي أنت بعدهم إلا أن تحذو حذوه وتواصل زحفهم دونما أن تحيد أو تتمارى... نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأشد أحوال الصبر ومقاماته لدى المجاهدي الصبر عقب المعركة، إثر انقشاع جولة والفراغ من صولة، كشف ذلك قوله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد:31)، فأخر الصبر عن الجهاد لأن المقصر بالمجاهدين هنا المقيمون عليه، وبالصابرين؛ الثابتون عليه وعلى لأوائه دونما انخزال أو انخذال. ذلك أن غبار المعركة سوف ينجلي عن دماء تنزف وأرواح تزهق من فلذات الأكباد، وقادة الجهـاد وصناع الاستشهاد، فضلًا عما تخلفه وراءها من نساء ثكالى، وأطفال يتامى، وأبنية تتهاوى ومقدرات وثروات وخيرات ومزروعات ترى العدو بإتلافها يتغاوى ...!!.
فهذا كله يتطلب من المجاهدين ومن آزرهم، ومن أهل فلسطين ومن ساندهم استنفار جهود كثيف واستفراغ طاقات حثيثة، بغية تضميد الجرح، وبلسم القرح لكيلا يتوانى أحد عن الزحف نحو التحرير وانتزاع حق الحرية وتقرير المصير. ومتطلبات هذه المرحلة تنوء بالعصبة أولي القوة إلا من رحم ربك، فبث فيه العزيمة والهمة. لذا تجد القرآن الكريم قد أعلى من شأن رواد هذه المرحلة، وأولاهم عناية فائقة، وتوجيهات سامقة، ففي مثل هذه المرحلة وما شاكلها نزل قوله تعالى ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب:23) ذلك أن التبديل والتغيير إنما يزينه المرجفونشياطين الإنس والجن أجمعون حينما يثخن الجسم بالجراح، وتتناثر الأشلاء في الساح، وتسيل بالدم البطاح ... عندها تتكثف جهودهم المذمومة، وتنشل مساعيهم المحمومة وتتعالى صيحاتهم المسمومة لغزو النفوس بسوء الظنون واحر قلباه فلهم في ذلك دروب وفنون
وبعد: فإني موقن أن المجاهد على ثرى بيت المقدس وأكنافه لا يرضى من الغنيمة بالإياب إنما يظل يرنو إلى ما أعده الله تعالى من حسن المآب، ومضاعفة الأجر والثواب لكل من خضد شوكة الشرك وفتح لعز أمته وتمكينها أرحب باب .