العنوان في مؤتمر "رسالة المسجد" بحث قيمّ عن الرسالة العسكرية للمسجد .. الحلقة الأخيرة
الكاتب اللواء الركن محمود شيت خطاب
تاريخ النشر الثلاثاء 04-نوفمبر-1975
مشاهدات 37
نشر في العدد 273
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 04-نوفمبر-1975
في مؤتمر "رسالة المسجد"
بحث قيمّ عن الرسالة العسكرية للمسجد الحلقة الأخيرة
في يوم من الأيام سألت أحد هؤلاء: ماذا تعرف عن العسكرية الإسلامية؟ فأجاب بكل بساطة: لم أدرس هذا الموضوع في الكلية العسكرية ولا في كلية الأركان.
إن الأيدي الخفية التي لا تريد الخير للعرب والمسلمين هي التي عملت وتعمل على إشاعة المفاهيم الخاطئة الهدامة عن الدين والمتدينين العسكريين، حتى لا تقوم قائمة للعرب والمسلمين، وحتى ترسخ إسرائيل أقدامها في الأراضي المقدسة.. فلسطين.
إني أتحدى كل من يستطيع أن يذكر قائدًا عربيًا واحدًا منتصرًا، لم يكن يتحلى بالتدين العميق، ولم يكن يؤمن بالمثل العليا النابعة في صميم تعاليم الدين الحنيف.
لن يستطيع أحد أن يذكر قائدًا عربيًا واحدًا كان له في ميدان النصر تاريخ إلا وهو متدين إلى أبعد الحدود.
سيد القيادات، وقائد السادات، الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام هو نبي الإسلام وسيد المنتصرين.
وقادة الفتح الإسلامي العظيم كلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين عليهم رضوان الله.
لقد أحصيت عدد القادة الفاتحين، فكانوا «256» قائدًا عربيًّا مسلمًا منهم «216» من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و «10» من التابعين عليهم رضوان الله، وكل القادة المنتصرين بعد الفتح الإسلامي كانوا متدينين غاية الدين كما ذكرت سابقًا.
فمن أين جاء المستعمرون بفرية التناقض بين التدين والعسكرية؟ وإذا كان من حق الاستعمار والصهاينة أن يفتروا خدمة لمصالحهم، فلماذا يصدقها العرب والمسلمون؟ ولماذا يرددونها باقتناع؟
أمن أجل خراب بيوتهم؟ إني لأعلم علم اليقين أن المتحوب جنسيًّا أو المتحوب جيبيًّا لا يمكن أن يقاتل كما يقاتل الرجال، ولا ينتصر أبدًا.
أثر المسجد في العسكريين
«1» الجيش:
قبل معركة اليرموك الحاسمة بين المسلمين والروم التي دارت رحاها سنة ثلاث عشرة الهجرية «634 م» قال رجل من المسلمين لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين.. إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان.
ومعنى ذلك أن الجيش ليس بعَدده وعُدده بقدر ما هو بمعنوياته.. والجيش الذي لا يتحلى بالمعنويات العالية لا قيمة له في الحرب، والفئة القليلة ذات المعنويات العالية تغلب الفئة الكثيرة ذات المعنويات المنهارة.
وقد كان نابليون بونابرت يقول: قيمة المعنويات بالنسبة للقوى المادية تساوى ثلاثة على واحد، أي أن تكون ٧٥ % في الناحية المعنوية و٢٥% في الناحية المادية.
وقد أيد نابليون في رأيه هذا كبار القادة العسكريين في الماضي والكثير من القادة العسكريين في الوقت الحاضر.
غير أن اللواء «فولر» في كتابه «الأسلحة والتاريخ» خالف نابليون نظرًا لابتكار الأسلحة النووية والهيدروجينية، وللتحسينات الهائلة التي طرأت على القذائف الموجهة وعلى وسائل قذف هذه الأسلحة وعلى أساليب استعمالها.
وليس هناك شك في أن الأسلحة الحديثة ذات تأثير في الناحية المادية للجيوش الحديثة، إذ جعلت نسبة هذه الناحية بالنسبة للناحية المعنوية٥٠ % لكل منهما.
أي أن الناحية المعنوية لا تزال ذات قيمة عظيمة، حتى بعد ظهور الأسلحة الجهنمية الحديثة، وأن المعنويات كانت ولا تزال وستبقى عاملًا حاسمًا من عوامل النصر.
وفي الحروب القديمة أي الحروب التي خاضتها الدول قبل الحرب العالمية الثانية (1939-1945) كان الجيش في كل دولة هو المسؤول الأول والأخير عن إحراز النصر.
أما في الحروب الحديثة ابتداء من الحرب العالمية الثانية، فقد أصبحت الحرب إجماعية «وهي الحرب الشاملة أو الحرب الاعتصامية» تحشد لها الأمم طاقاتها المادية والمعنوية؛ لذلك أصبح الشعب كله-لا الجيش وحده- مسؤولًا عن إحراز النصر.
إن الحرب الإجماعية تقتضي زج كل قادر على حمل السلاح في الحرب ودعم المحاربين بكل طاقات الشعب المادية والمعنوية، لذلك كان إعلان الحرب معناه أن يكون الشعب كله- لا قواته المسلحة وحدها- في الصفوف الأمامية خاصة بعد تطور القوة الجوية، واختراع الأسلحة النووية، فقد أصبح كل مكان في البلاد المحاربة ساحة حرب لا تقل أهمية وخطرًا عن الجبهة الأمامية في ميدان القتال.
لذلك أصبحت أهمية المعنويات في الشعب كأهميتها في الجيش سواء بسواء، كما أن الجيش من الشعب، فإذا كانت معنويات الشعب عالية، كانت معنويات الجيش عالية، والعكس صحيح.
من هنا تأتي أهمية المعنويات للشعب كله، وتبرز ضرورة إدانة هذه المعنويات في الشعب والجيش على حد سواء، فما هي المعنويات؟
كان تعريف المعنويات قبل الحرب العالمية الثانية، بأنها الصفات التي تميز الجيش المدرب المنقاد إلى أسس الضبط «الانضباط» عن العصابات المسلحة، وتتجلى بهذه الصفات الطاعة القائمة على الحب، وتنمي الشجاعة وتظهر الصبر على المشاق، وتبدي كل المزايا التي تجعل الجندي مطيعًا باسلًا صبورًا.
وهذا التعريف يشمل الجيش وحده كما ترى، لأن الحروب كانت حروب جيوش لا حروب أمم، كما أصبحت في الوقت الحاضر.
أما تعريف المعنويات اليوم، فهو القوى الكامنة في صلب الإنسان، التي تكسبه القابلية على الاستمرار في العمل، والتفكير بعزم وشجاعة، مهما اختلفت الظروف المحيطة به.
وهذا التعريف يشمل الشعب كله، لا الجيش وحده.
وإذا أردنا إيضاح هذا التعريف وتبسيطه، فيمكن القول إن الفرد في الشعب يجب أن يكون شجاعًا لا يجبن، عزيزًا لا يهون، ثابتًا لا يتراجع، صابرًا لا ينهار، متفائلًا لا يقنط، مستعدًّا للتضحية بماله وروحه من أجل المثل العليا.
إن المعنويات العالية هي العقيدة الراسخة، والدين الإسلامي لا يقتصر على رفع المعنويات فقط، بل يأمر بالإعداد المادي أيضًا.
2- المسجد والعسكرية:
في المسجد يتلقى المؤمنون تعاليم الدين الحنيف، وفي المسجد يقوى الإيمان ويشتد، فما هو أثر المسجد في العسكرية؟
إن أثر المسجد في العسكرية هو أثر الإسلام فيها، إذ المسجد ليس بأحجاره وجدرانه، بل بالعلماء العاملين الذين يحافظون على كرامة العلماء، وحث الإسلام على الطاعة، والطاعة هي الضبط والنظام: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285).
وأشاع الإسلام معاني الخلق الكريم، ومنه الصبر الجميل ﴿ثُم جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 110).
وقال تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ (آل عمران: 200).
وغرس الإسلام روح الشجاعة، والإقدام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 15-16).
والتولي يوم الزحف من الكبائر، كما نص على ذلك حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام وأمر الإسلام بالثبات في ساحة القتال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ (الأنفال: 45).
ودعا الإسلام إلى الجهاد بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات: 15).
وقال تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (التوبة: 41).
وانظر تفسير هذه الآية الكريمة في «الكشاف» للزمخشري، لتجد أن المسلمين سبقوا العالم إلى مفهوم الحرب الإجماعية التي تنص على: إعداد الأمة بكل طاقاتها المادية والمعنوية للحرب بينما زعم المشير لورندروف بعد الحرب العالمية الأولى « 1914- 1918» في كتابه «الأمة في الحرب» بأنه أول من فكر في الحرب الإجماعية.
وبين الإسلام أن المصلحة العليا للمسلمين لا بد أن تكون لها الأسبقية على كل شيء في الدنيا ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).
وجعل الإسلام مقام الشهداء من أعظم المقامات ﴿فَأولَئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ﴾ (النساء: 69) وقال تعالى ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154) و قال تعالى ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 74).
كما أن الإسلام يصاول الحرب النفسية التي تستهدف القضاء على الطاقات المعنوية للإنسان ليستسلم للأعداء.
ولعل أهم أهداف الحرب النفسية هي التخويف من الموت والفقر ومن القوة الضاربة للمنتصر، ومحاولة جعل النصر حاسمًا، والدعوة إلى الاستسلام وبث الإشاعات والأراجيف وإشاعة الاستعمار الفكري بالغزو الحضاري، وإشاعة اليأس والقنوط. المؤمن حقًّا لا يخشى الموت، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34)، وقال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 145).
وقال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ (النساء: 78)، وقال تعالى: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾(آل عمران: 154).
وما أصدق قولة خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما في جسمي شبر إلا وفيه طعنه رمح أو سيف، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
والمؤمن حقًّا لا يخاف الفقر، لأنه يعتقد اعتقادًا جازمًا أن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (البقرة: 212).
وقال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾(الطلاق: 2-3).
والمؤمن حقًّا لا يخشى قوات العدو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم بعدة أو عدد، بل كان انتصارهم انتصار عقيدة لا مراء، قال تعالى: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ (البقرة: 249)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال: 65).
والمؤمن حقًّا لا يقر بانتصار أحد عليه ما دام في حماية عقيدته، لذلك إن انتصار العدو في معركة ما قد يدوم ساعة، ولكنه لا يدوم إلى قيام الساعة ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).
والمؤمن حقًّا لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يعلم أن بعد العسر يسرًا وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(المنافقون: 8) وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۚ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (يونس: 65).
والمؤمن حقًّا لا يصدق الإشاعات والأراجيف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
وقال تعالى: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾(الأحزاب: 60)، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ﴾ (النساء: 83).
والمؤمن حقًّا يقاوم الاستعمار الفكري ويحاول الغزو الحضاري، لأن له من مقومات دينه وتراث حضارته، ما يصونه من تيارات المبادئ الوافدة التي تذيب شخصيته وتمحو آثاره من الوجود.
والمؤمن حقًّا لا يقنط أبدًا ولا ييأس من نصر الله ورحمته ﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر: 53)، و قال تعالى: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ (الحجر: 56) و قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ﴾ (الروم: 36)، و قال تعالى: ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ (فصلت: 49).
ولكن القول إن الإسلام يؤجج الحوافز المعنوية في المقاتل لا يغني عن كل قول.
والواقع هو أن في الإسلام حوافز «مادية» لا تقل أهمية عن الحوافز المعنوية تعمل عملها جنبًا لجنب لترصين الحوافز «المعنوية»، فالإسلام دائمًا «مادة» و«معنويات».
ومن أهم الحوافز المادية عدم الاستهانة بالعدو أولًا، والإعداد الحربي تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا وتجهيزًا وقيادة ثانيًا.
لقد استهان المسلمون بعددهم يوم «حنين» فغلبوا على أمرهم في الصفحة الأولى من صفحات ذلك اليوم العصيب ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25).
والحذر واليقظة من مظاهر عدم الاستهانة بالعدو ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122)، وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ (المنافقون: 4) وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾ (المائدة: 92)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ (النساء: 71) وقال تعالى: ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ (النساء: 102).
إن الاستهانة بالعدو تؤدي حتمًا إلى الاندحار، وما أصدق المثل العربي القائل: إذا كان عدوك نملة.. فلا تنم له.
والإعداد الحربي إعدادًا متكاملًا يرفع المعنويات ويقوي الثقة بالنفس ويؤدي إلى النصر قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60)، وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (الحديد: 25).
تلك هي لمحات من الحوافز المعنوية والمادية في الإسلام، ليجعل من الأمة المسلمة التي تعمل بتعاليمه أمة لا تقهر أبدًا.
ذلك لأن الإسلام بتعاليمه السمحة الرضية، جعل من المسلم الحق، مطيعًا لا يعصي، صابرًا لا يتخاذل، شجاعًا لا يجبن، مقدامًا لا يتردد، مقبلًا لا يفر، ثابتًا لا يتزعزع، مجاهدًا لا يتخلف، مؤمنًا بمثل عليا، مضحيًا من أجلها بالمال والروح، يخوض حربًا عادلة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
لا يخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يهاب قوة في الأرض، يسالم ولا يستسلم، ولا تضعف عزيمته الأراجيف والإشاعات، لا يستكين للاستعمار الفكري، ويقاوم الغزو الحضاري، ولا يقنط أبدًا ولا ييأس من رحمة الله.
هذا المسلم الحق، يقظ أشد ما تكون اليقظة، حذر أعظم ما يكون الحذر، يتأهب لعدوه ويعد العدة للقائه، ولا يستهين به في السلم والحرب.
وهذا ما يفسر سر انتصار المسلمين الأولين، لأن شعارهم كان ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ (التوبة: 52) النصر أو الشهادة.
ولأن المسلمين كانوا يحرصون على الموت حرص غيرهم على الحياة ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ (آل عمران: 173-174).
وأشهد أنني لم أقرأ، حتى في كتب التعبئة وسَوْق الجيش الصادرة في القرن العشرين، أوضح تعبيًرا وأدق تعريًفا وأكثر شمولًا، مما جاء في القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة تعريفًا للمجاهد الصلب المقاتل الرهيب.
بل لا يقتصر معناها على المجاهد المثالي وحده، بل يشمل تعريف المعنويات المالية أيضًا، تلك هي عظمة القرآن الكريم حتى في المجالات العسكرية ولكن يا ليت قومي يعلمون.
إن دور المسجد لا يقتصر على غرس هذه المثل العليا العسكرية في عقل المسلم الحق ونفسه، بل إن روح المسجد الذي يتسم بذكر الله يجعل القلوب تطمئن والنفوس تهدأ اتجاهًا إلى العمل الصالح خدمة للإسلام.
كما أن صلاة الجماعة تدريب عملي على الضبط والربط والنظام.
لقد بدأت منذ ظهور الإسلام الصلاة العامة، ثم قامت صلاة للجماعة التي أداها المسلمون وراء إمام واحد، وهذه الإمامة يقوم بها رجل واحد يؤم المصلين جميعًا، ينفذون ما ينفذ تمامًا، يقوم بها رجل مطهر يؤمن أصحابه بصدقه، هي تطبيق للقيادة في إصدار أوامرها وتنفيذها من الجنود.
ومن يرى المسلمين وهم مجتمعون صفوفًا للصلاة يؤدون ركعاتها وسجداتها في تناسق مدهش وفي نظام ووقار لا يمكن أن يغفل ما لهذه الصلاة المنظمة من قيمة تربوية عسكرية في نفوس المسلمين.
إن العرب والأعراب أباة لا يخضعون لمشيئة خارجية، ولكنهم كانوا يفتقرون إلى الشعور التام بالطاقة والنظام، فكانت لهذه الصلاة أهمية بالغة في «إيقاظ» روح النظام في نفوس العرب والأعراب والمسلمين؛ لذلك غدا المسجد أول ميدان حقيقي للتدريب العسكري عند المسلمين.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤم ألفين في عمرة القضاء ومائة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم في نظام أدق نظام هرولة ومشيًا واستلامًا للركن أو الحجر الأسود، هذا النظام المتصل بروح الإسلام سبب من أسباب القوة، بل هو مصدرها وملاكها.
إن الإسلام دین نظام.. والنظام روح العسكرية.. وعمودها الفقري، والمسجد هو المكان الأول لفرض النظام والتدريب العملي على تعاليم الإسلام.
فما أحرانا أن نعود إلى المسجد مقرًّا للقيادة، ومكانًا لرفع المعنويات وموضعًا للتدريب وموقعًا للسمو الروحي.
مقترحات
1- يجب إقامة المساجد في كل وحدة عسكرية وكل معسكر وفي كل مدرسة ومعهد وكلية وحث التلاميذ والطلاب والعسكريين على أداء فريضة الصلاة.
ولقد أقام العسكريون الأجانب كنيسة في كل بارجة ومدرعة وفي كل وحدة وكتيبة ومعسكر، كما أقام المسؤولون الأجانب عن التربية مسجدًا في كل مدرسة ومعهد وكلية، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
2- اختيار العلماء العاملين الأعزاء ليؤدوا واجب الإمامة في كل وحدة وكتيبة ومدرسة ومعهد وكلية عسكرية وغير عسكرية.. واختيار أمثال هؤلاء ليكونوا أئمة المساجد العامة.
3- إعادة النظر في تربية النشء الإسلامي ووضع مناهج تربيتهم على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف.. إن مناهج التعليم في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات تناقض تعاليم الدين الحنيف نصًّا وروحًا.
4- على الدول العربية والإسلامية أن تختار العلماء العاملين المخلصين من رجال الدين، للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام والمساجد والنوادي وقاعات المحاضرات.
لكن أين هم العلماء والعاملون المخلصون.. هنا تسكب العبرات.
من الضروري إجراء مسابقات دينية بين العسكريين وغيرهم كإتقان قراءة القرآن وحفظ الكتاب العزيز وتفسير الذكر الحكيم وإعداد المحاضرات الدينية وإلقائها.
إن المسجد بالعالم الديني الذي فيه لا بأحجاره وأركانه، فلا بد من التفكير العميق في إعداد الدعاة الصالحين الذين يتكلمون من قلوبهم ليؤثروا في قلوب الناس، وفي إعداد العلماء العاملين المخلصين لينشروا الإسلام على هدى وبصيرة.
إننا لسنا بحاجة إلى تخريج علماء موظفين.. بل نحن بحاجة إلى تخريج علماء حقيقيين.
أدعو الله في هذا اليوم المبارك.. في هذا الشهر المبارك.. من هذا البلد المبارك.. في هذا المكان المبارك.. أن يفيد العرب والمسلمين بما قدمته وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وحسبى الله ونعم الوكيل.