العنوان معالم الحملة الفرنسية الجديدة
الكاتب أحمد منصور
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996
مشاهدات 42
نشر في العدد 1197
نشر في الصفحة 29
الثلاثاء 23-أبريل-1996
حينما قام نابليون بونابرت بحملته على مصر عام ١٧٩٨م حتى تصبح قاعدة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق جوبه بمواجهة كبيرة من المصريين وعلى رأسهم علماء الأزهر الذين اعتبروا وقوع مصر تحت الاحتلال الفرنسي عارًا ترفضه القيم الإسلامية والنخوة العربية، وظلوا يكافحون جيوش نابليون حتى خرجت من مصر عام 1801م، وخلال ثلاث سنوات من الاحتلال الفرنسي قدم أبناء مصر كثيرًا الشهداء، لا سيما من علماء الأزهر، والآن وبعد ما يقرب من مائتي عام يأتي الرئيس الفرنسي جاك شيراك ليضع أسسًا لحملة فرنسية جديدة ۱۸۰۱م، على العالم العربي تختلف في أسلوبها وطريقتها عن حملة بونابرت، إلا أنها لا تختلف عنها كثيرًا في أهدافها، ورغم أن شيراك قد زار لبنان أولًا وقال إنها «بمثابة الروح بالنسبة لفرنسا» إلا أنه لم يتحدث فيها عن معالم الحملة الفرنسية الجديدة، وجعل مصر هي المكان الذي يطرح فيه معالم حملته، وجعل جامعة القاهرة باعتبارها من من أكبر الصروح العلمية في مصر، هي المكان الذي يوجه منه خطابه إلى «الطلاب في القاهرة ومصر والعالم العربي» وعلل شيراك اختياره لمصر في خطابه الذي ألقاه في جامعة القاهرة في الثامن من إبريل الجاري قائلًا: «ثمة بلدان قادرة أكثر من غيرها على تحريك شعورنا واجتذابنا إليها وإلهام فكرنا، بلدان يثير تاريخها ونبوغها وتراثها فينا الخيال والإعجاب والإحساس، وتأتي مصر في المرتبة الأولى بين هذه البلدان» وفي موقع آخر يقول: «فمصر تمثل في نظر فرنسا شريكًا أساسيًا؛ حيث إن عدد سكانها وسلطان ثقافتها، ونفوذ زعمائها- كل ذلك يجعل منها بلدًا مركزيًا على ملتقى طرق العالم العربي وعالم البحر الأبيض المتوسط والعالم الإفريقي».
وقد اختار شيراك أن يوجه حديثه إلى الشباب؛ لأنهم جيل الغد ولأنه على قناعة بأن العصر الأمريكي السائد الآن من الصعب أن يدخل معه في معترك المواجهة، وإنما عليه أن يبحث عن الأجيال القادمة حتى يحقق من خلالها ما يريد، وقد عبر عن ذلك في بداية خطابه قائلًا: «لقد وددت أن ألتقي بكم، وأن أتوجه من خلالكم إلى شباب مصر وإلى شباب العالم العربي بأسره، هذا الشباب الذي يحدوه الحماس، والراغب بوضع أريحيته وحيويته ومواهبه في خدمة عالم أفضل، عالم يسوده السلام، بيد أنه شباب تنتابه الحيرة أحيانًا أمام المستقبل، هذا المستقبل أتمنى أننا نبنيه سويًا كمصريين وفرنسيين، كأوروبيين وعرب، وهو الأمر الذي أقترحه عليكم اليوم».
ثم يتحدث عن تاريخ فرنسا «الإرهابي»، ضد مصر والمتمثل في الحملة الفرنسية ومشروع قناة السويس الذي أعدم ديليسبس فيه آلآف المصريين على أنه تعاون يستحق الاحتفال بين الشعبين الشعب المصري الذي قهر على يد الفرنسيين وظلمهم، وفرنسا التي قهرت المصريين، وظلمتهم حسب روايات كتب التاريخ، فيقول شيراك: «وفي عام ١٩٩٨م لن تكتفي بالاحتفال بمضي ۲۰۰ عام على تاريخ مشترك بيننا (الحملة الفرنسية ١٧٩٨م) بل سوف نؤكد على إرادتنا بالرد سويًا على تحديات المستقبل»، وعن الخطة الفرنسية الجديدة للهيمنة، والتي يريد شيراك أن تكون مصر مركزها في العالم العربي يقول: «وكما تحدثت أمام الكونجرس في واشنطن عن العلاقة الأطلسية بين أوروبا وأمريكا، وفي سنغافورة عن الشراكة الأوروبية الأسيوية، أود اليوم أمام هذا الحفل الكريم الذي يرمز للثقافة العربية أن أحدثكم عن رؤيتي للعلاقات بين فرنسا وأوروبا والعالم العربي والبحر الأبيض المتوسط»، ويبين شيراك بأن ما ينتهجه اليوم ليس سوى امتداد لسياسة قديمة وضعها ديجول لإيجاد نفوذ فرنسي واسع في العالم العربي بأسلوب جديد يختلف عن ذلك الأسلوب الذي اتبعه بونابرت عام ۱۷۹۸م ضد مصر، واتبعه الفرنسيون فيما بعد عام ۱۸۳۰م في الجزائر، وعام ۱۸۸۲م في تونس، وعام ١٩١٢م في المغرب الأقصى، وعام ۱۹۲۰م في سورية ولبنان حيث يقول شيراك: «ولا بد أن تكون السياسة العربية التي تنتهجها فرنسا أحد الأبعاد الأساسية لسياستها الخارجية، وإنني عازم على منحها زخمًا جديدًا، حتى أكون وفيًا للتوجيهات التي أعطانا إياها الجنرال ديجول عندما قال في عام ١٩٥٨م: «كل الاعتبارات تقضي بأن نظهر من جديد في القاهرة ودمشق وعمان وفي كل عواصم المنطقة، كما كنا على الدوام في بيروت أصدقاء وأعوان»، وقد جاء شيراك اليوم ليحقق ما عجز ديجول عن تحقيقه في عام 1958م، وما عجز نابليون عن عمله في عام 1798م، من خلال حملة فرنسية جديدة أقامها على أربعة مبادئ، يقول عنها: «وأول هذه المبادئ يقضي بأن نتحاور بصفتنا شريكين على قدم المساواة، يكن كل منهما للآخر المودة والتقدير، ولا بد لهذا الحوار أن ينمو في ظل الاحترام المتبادل لشخصية الآخر وهويته، إن وفاءنا لحقوق الإنسان وقيم العدالة والسماحة والحرية، وهي قيم عالمية لا يجوز أن يحول دون اعترافنا بإمكانية أن نعبر عن هذه القيم بأشكال مختلفة حسب الثقافات والتقاليد المرعية في كل بلد.
والمبدأ الثاني: هو أننا حريصون على حق الشعوب في تقرير مصيرها بكل حرية، وتأكيد استقلالها وحقها في حياة آمنة، وتعتبر فرنسا أن هذا المبدأ الجوهري لا بد أن ينسحب على كل الشعوب دون استثناء.
والمبدأ الثالث: هو أننا نؤيد تطلعات الشعوب إلى التضامن والوحدة، وكما لاحظنا في أوروبا، فما من تناقض بين الاستقلالية والتقارب، وفرنسا تساند جامعة الدول العربية كما تساند التجمعات الإقليمية التي باتت تبرز بقوة من المشرق إلى المغرب.
والمبدأ الرابع: هو أننا نؤيد تطلعات العالم العربي إلى الانفتاح والسلام، وستكون فرنسا إلى جانب كل من يحارب التطرف والتعصب وقوى الكراهية، وما من أحد بمنأى عن هذه الظواهر كما تدل على ذلك الأحداث الدموية في منطقتكم وفي أوروبا على حد سواء».
ويلاحظ على خطاب شيراك بصفة عامة أنه يتحدث بالنيابة عن أوروبا ليؤكد الدور التاريخي لفرنسا في كونها تمثل عضلات الكنيسة على مدار التاريخ، فيما تمثل روما عقلها الموجه وفكرها المخطط، فالحملات الصليبية على مدار التاريخ رغم أنها كانت تمثل أوروبا والكنيسة، إلا أنها كانت تنطلق دائمًا من فرنسا، ويعبر شيراك عن الدور الأوروبي بشكل مباشر حيث يقول: «يتعين على أوروبا في هذه اللحظات الحاسمة أن تتحمل مسئولياتها وهي تفعل ذلك على الصعيد الاقتصادي بتقديم مساعدة للشعب الفلسطيني تقدر بنصف ما يتلقاه من المساعدات الإجمالية، وذلك في إطار الجهود المكثفة التي تبذلها أوروبا باتجاه المنطقة بأسرها، ثم يتحدث بوضوح عن دور منافس للدور الأمريكي قائلًا: «إلا أن أوروبا لا يمكن أن تكون مجرد ممول، بل لا بد لها اليوم أكثر من البارحة أن تزيد من مساهمتها السياسية في التسوية السلمية، وأن تصبح أيضًا من الأطراف الراعية لها».
ويختتم شيراك معالم حملته بدعوة خطيرة للشراكة الثقافية قائلًا: «وأخيرًا لا بد لهذه الشراكة أن تكون ثقافية، وأن تشجع الحوار باستمرار بين الشعوب وخاصة بين الشباب، وأرجو أن يتطور التعاون بين الجامعات الكبرى على ضفتي المتوسط، وأرجو أن يزداد تبادل الزيارات الطلابية عبر التقريب بين المناهج، وأن يلتقي الأساتذة للتنسيق بصدد وضع الكتب المدرسية، ولا سيما في مجال التاريخ، كما أرجو أن تتكلف المشاريع السمعية والبصرية المشتركة، وأخيرًا أرجو أن يتعزز دور اللغتين العربية والفرنسية كعامل تبادل واتصال».
هذه هي أهم معالم الحملة الفرنسية الجديدة على العالم العربي، والتي أطلقها الرئيس شيراك من على أرض مصر ومن مبنى جامعة القاهرة في الثامن من إبريل ١٩٩٦م، ورغم أنها بحاجة إلى مزيد من الشرح والتعليق إلا أني أترك للقارئ أن يدرك من خلال هذه العبارات التي انتقيتها من نص الخطاب موقع أمته وغيابها حتى عن أن تخطط مستقبلها لنفسها.