; صفحات من دفتر الذكريات (۳۱) استقلال في ليبيا ليمنع وحدتها ١٩٥١م | مجلة المجتمع

العنوان صفحات من دفتر الذكريات (۳۱) استقلال في ليبيا ليمنع وحدتها ١٩٥١م

الكاتب الدكتور توفيق الشاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 10-يناير-1995

مشاهدات 12

نشر في العدد 1133

نشر في الصفحة 48

الثلاثاء 10-يناير-1995

مذكرات

كانت تجزئة ليبيا تجربة نموذجية صاغها المستعمر ليطبقها على الدولة القطرية

بعد أن انتهت مناقشات شكوى مصر ضد فرنسا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر ١٩٥١م، بدأت الوفود العربية تستعد المناقشة قضية ليبيا الموضوعة على جدول هذه الدورة، وكان مندوب هيئة الأمم الذي عينه الأمين العام قد أتم تقريره ووزع على الوفود لمناقشته، وكان يدعو فيه إلى أن تعلن الأمم المتحدة استقلال ليبيا كدولة موحدة، واقترح مشروع دستور لها يأخذ بوجهة نظر الأغلبية الساحقة في شعب ليبيا الذين يريدون الوحدة ويرفضون تقسيم البلاد إلى مناطق ثلاث تتمتع بالحكم الذاتي كما تقترح الدول الغربية. 

كان من الواضح أن هذا التقرير النزيه سوف يحظى بتأييد أغلبية الأعضاء في الجمعية العامة نظرًا لأن المجموعة العربية والأسيوية والشيوعية تؤيده كما يؤيد عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية بإيعاز من إيطاليا التي كانت تفضل إبعاد الدول الكبرى عن أن تحل محلها في السيطرة على الشواطئ الليبية، وترى أن الشعب الليبي في ظل دولة موحدة مستقلة أضمن لمصالحها من وجود قواعد إنجليزية وفرنسية وأمريكية فيها.

استقلال يكرس التجزئة

في هذا الوقت وفي ليلة عيد الميلاد المسيحي، فوجئ العرب جميعًا بالملك إدريس السنوسي يعلن استقلال ليبيا، ويمنحها من عنده دستورًا اتحاديًا على أساس وجود ثلاث مناطق تتمتع كل منها بالحكم الذاتي، وعين وزارة اتحادية، وأعلن أن وفدًا يمثل هذه الحكومة سيذهب إلى باريس ليقدم طلب انضمام ليبيا الاتحادية المستقلة إلى الأمم المتحدة ويدافع عن استقلال ليبيا ضد العرب الذين يريدون التدخل في شئونها «الداخلية»، وذلك بالطبع كان بتحريض إنجلترا وحلفائها لكي يحولوا دون مناقشة تقرير المستر «بلنت» ومقترحاته وليضعوا الأمم المتحدة أمام أمر واقع لا يمكن تغييره، وإلا كان تدخلًا في الشئون الداخلية لدولة مستقلة، وهنا يظهر بوضوح كيف أن الدول الكبرى تستطيع أن تستعمل «الاستقلال» ستارًا لتنفيذ سياستها متى كان الحكم الوطني، الذي يعلن هذا الاستقلال مواليًا أو عميلًا لها. 

لقد شعرت الوفود العربية أن الذي طعنها من الخلف هو الملك إدريس السنوسي ووزراء حكومته الذين تولوا تنفيذ الخطة الإنجليزية التي تهدف إلى تقسيم ليبيا إلى مناطق ثلاث تخضع كل منها لنفوذ إحدى الدول التوسعية «بريطانيا وأمريكا وفرنسا».

لقد فوجئ العرب جميعا بإعلان الملك السنويس هذا الاستقلال والدستور الاتحادي الإنجليزي الذي منحه لبلاده ليقر التجزئة التي يريدها الاستعمار، ويجعل الاستقلال هو الواجهة للدفاع عن التجزئة، وجاء إلى باريس وفد الحكومة التي عينها الملك إدريس لحضور الجمعية العمومية لكي يطلب ضم ليبيا إلى هيئة الأمم باعتبارها دولة مستقلة، ويعارض في مناقشة تقرير مندوب الأمم المتحدة الذي أنصف ليبيا وأقر للوطنيين الليبيين بالحق في إقامة دولة موحدة وليس دولة مجزأة، وكانت الخطة الإنجليزية أن يسخروا الملك السنوسي وحكومته الجديدة لكي تدافع عن التجزئة، وأرسل رئيس وزرائه، وعلى ما أعتقده كان اسمه رشدي الكخيا وعددًا من أعضاء الوزارة لكي يقدموا طلب انضمام ليبيا كدولة مستقلة لهيئة الأمم المتحدة، وتؤيد هذا الطلب بريطانيا وأمريكا وفرنسا، ومعها الدول الأوروبية والدول الاستعمارية كلها، وتطلب عدم مناقشةتقرير المستر «بلنت» الذي كان مندوب الأمانة العامة للأمم المتحدة، لأنه لم يعد له موضوع ما دام الاستقلال قد تحقق، وهذا هو الملك قد أعلن الاستقلال، والحكومة التي أعلنت الاستقلال جاءت لكي تدافع عنه ومن عجائب القدر ومصائبه أن هذا الوفد ضم إلى جانب رئيس الوزراء اثنين من أعضاء جبهة تحرير ليبيا الذين كانوا يقيمون في مصر ويعملون بالجامعة العربية، وكانوا يقودون الحركة الوطنية التي تشجعها مصر وتدعمها الجامعة العربية باسم جبهة تحرير ليبيا وهما: الدكتور علي العنيزي، والسيد منصور قدارة، وطبعا نزلوا في فندق آخر، وقاطعوا الوفود العربية وفي خطاباتهم أمام الجمعية العمومية هاجموا مصر وهاجموا الجامعة العربية، وهاجموا الدول العربية التي تصر على مناقشة تقرير ممثل الأمم المتحدة بحجة أن هذا التقرير يعتبر تدخلا في الشئون الداخلية لدولة مستقلة، وهذا يهدد الاستقلال. 

وهكذا ظهر بوضوح أن الاستقلال الوطني في كثير من الأحيان يصبح وسيلة لتحقيقالأهداف الاستعمارية وأولها إقرار التجزئة المفروضة على شعوبنا، وفي الحقيقة كانت هذه صورة مصغرة لما حدث قبل ذلك بعد انهيار الدولة العثمانية وتجزئة إمبراطوريتها وكنت أتأمل كل هؤلاء الوزراء وأعضاء وفود الدول الذين يمثلون دولاً عربية وأراهم غاضبين، لأن الوفد الليبي يدافع عن التجزئة الاستعمارية لبلاده بحجة أنها دولة مستقلة، وأتذكر أن هؤلاء نسوا تمامًا أن الدول العربية المستقلة التي يمثلونها هي ثمرة عملية كبيرة من هذا النوع عندما احتل الحلفاء الأقطار العربية، وأنشئوا دولًا، وأصبح على رأس كل دولة ملك أو أمير أو رئيس ووضعوها تحت الحماية أو الانتداب وأصبح من واجب هذه الحكومات أن تدافع عن استقلالها، ولم يكن هذا الاستقلال إلا ستارًا لتثبيت التجزئة  المفروضة على العالم العربي كله، وعلى العالم الإسلامي، وفتح باب الخصومات بين الدول العربية التي ما زالت قائمة حتى اليوم، بل إنهاتزداد بفعل هذه الحركات الوطنية ذاتها.

نجاح المستعمر في فرض التجزئة

وإذا كان الاستعمار بعد نجاحه في هذه المرحلة الأولى من تجزئة الأمة الإسلامية والعربية إلى عدة دول وطنية قد انتقل إلى مرحلة أخرى لتجزئة كل دولة من هذه الدول كلما كان ذلك ممكنًا، فإن ما عمله الاستعمار من قبل بعد الحرب العالمية الأولى، قد استفاد منه الوطنيون المتعاونون معه في ليبيا الآن فهم جاءوا يدافعون عن استقلال يحقق تثبيت تجزئة ليبيا إلى ثلاث مناطق تتمتع بالاستقلال الداخلي، وهذا ليس إلا صورة أخرى مما فعله الملوك والأمراء والرؤساء العرب، وما تفعله الأحزاب الوطنية القومية، وما زالوا يفعلونه منذ إعلان استقلال تلك الدول، إذ يدافعون عن هذا الاستقلال ناسين أن الشعوب تريد استقلالا عن العدو الأجنبي، لا انفصالًا عن أمتها الموحدة كما يريد الاستعمار والعدو الأجنبي الذي جعله استقلالًا يفتح باب العداوة والخصومات بين الشعوب العربية والإسلامية لأن الحدود التي رسمها الاستعمار في حدود من تأليفه وتستغل الآن لكي تثير خصومات عنيفة بين هذه الدول العربية والإسلامية وجيرانها، وهذه الخصومات ما زالت قائمة حتى اليوم. بل تزداد وتنمو، وقد شاهدنا آخر فصل من فصولها في حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، ثم الثانية بين العراق والكويت ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسمع ضجة كبيرة الإثارة نزاع على الحدود بين مصر والسودان لم نسمع عنها من قبل، وكان ذلك لكي تنسى الشعوب وحدة وادي النيل.

إن الفرق الوحيد بين ما تم في ليبيا أمامنا في ذلك اليوم، وبين ما تم قبل ذلك عقب الحرب العالمية الأولى من إنشاء دولة قطرية هو أن الاستعمار انتقل إلى مرحلة تجزئة كل دولة قطرية من داخلها، وكانت تجزئة ليبيا محاولة نموذجية لهذا، وقد جاءت بعده محاولات أخرى كما نرى في لبنان، وأصبحت هذه الخطة هي التي تسعى سياسة «اللبننة»، ونحن نسمع الآن عن خطة لتمزيق العراق، ولا شك أن هناك خططًا لتمزيق الشعوب الأخرى جميعا مثل السودان وأفغانستان بل وباكستان والجزائر.. إلى آخره.

التجزئة القطرية

وأما المرحلة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى فكانت تسمى «البلقنة» وهي تجزئة الإمبراطورية العثمانية إلى دولة قطرية متعددة في البلقان وفي العالم العربي والإسلامي، وعلينا الآن أن نتوقع مرحلة اللبننة التي يقصد منها تمزيق كل دولة من داخلها إلى مناطق وإلى طوائف وهذه هي المرحلة التي يحاول الاستعمار نقلنا إليها أولًا في ليبيا كما رأينا، وثانيًا في لبنان، وهو يحاولها أيضًا بإثارة النزعات الانفصالية في العراق مع الأكراد وغيرهم وكذلك ما يسمى بالسياسة البربرية في الجزائر والمغرب والفتن الطائفية في السودان ومصر وغيرها، فكل السياسات الاستعمارية تنبعث من منطق واحد وهو تشجيع الحركات الوطنية القطرية والطائفية والعنصرية والإقليمية التي تقصر نظرها على مصالح مباشرة لإقليم معين أو طائفة معينة أو قطر معين، فأهل برقة يقولون إنهم يؤيدون الملك إدريس، وهو يحتاج إلى حماية إنجلترا له ولهم، ويتركون أهل طرابلس الذين عليهم أن يبحثوا عن دولة تحميهم، وكل إقليم عليه أن يبحث عن حليف أجنبي يقدم له المساعدات المالية والعسكرية ويحافظ على حدوده بقدر المستطاع.

وهذا هو نفس المنطق الذي قامت على أساسه الدولة القطرية، والتي ما زالت تسير عليه ويدافع عنه من يسمون أنفسهم حكاما وطنيين في تلك البلاد، إنهم يدعون كل بلدة لتهتم بشئونها الخاصة وألا تشغل بقضايا الشعوب الأخرى، لأن هذا يثقل كاهلها ويزيد أعباءها، ويكفيها ما تواجهه من مشاكل داخلية، وهم ينسون أن هذه المشاكل الداخلية تتعقد وتزيد كلما صفر حجم هذه الأقطار، لأن العالم اليوم لا يمكن أن توجد فيه دولة تكتفي اكتفاء ذاتيا، بل لابد من كتلة كبيرة تستطيع أن تكون إطارًا للتنمية الاقتصادية وأن يوجد بها اقتصاد متكامل متميز ومستقل تستغني به عن مساعدة الدول الأجنبية والحقيقة أن عجز الدول القطرية ناتج عن التجزئة، وطالما وجدت هذه التجزئة فسوف يزداد هذا العجز لأننا نسير نحو الضعف الاقتصادي وغيرنا يسير نحو القوة وفي كل يوم يزداد الاختلاف في التوازن بين إمكانياتنا المتضائلة الضعيفة وبين إمكانيات غيرنا المتزايدة المتنامية، ولذلك نضطر إلى أن نمد يدنا إليهم وهم مستعدون ولكن طبعا هم لا يريدون تقديم ذلك لنا دون مقابل، والمقابل هو التبعية والسيطرة والاستغلال.

(*) أستاذ القانون الدولي السابق بجامعة القاهرة.

الرابط المختصر :