; سراقة بن مالك رضي الله عنه | مجلة المجتمع

العنوان سراقة بن مالك رضي الله عنه

الكاتب د. نجيب الكيلاني

تاريخ النشر الثلاثاء 31-مارس-1970

مشاهدات 91

نشر في العدد 3

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 31-مارس-1970

قصة إسلامية قصيرة

بقلم الدكتور : نجيب الكيلاني

 جلس «سراقة بن مالك» مكفهر الوجه، قلق النظرات، متوتر الأعصاب، في رأسه الكبير تزدحم عشرات الأسئلة،  و على بعد خطوتين منه جلست جاريته الحسناء، ترمق انفعالاته المتعاقبة على قسمات وجه «سراقة» دون أن تنطق بكلمة واحدة، إنها تعرفه، وخاصة عندما يكر به أمر، أو تلح عليه معضلة من المعضلات، تعرف أنه حاد الطبع، عنيد الرأي، شديد التهور ،  يطغى كبرياؤه على عقله في كثير من الأحيان، و إدراكها لهذه الصفات النفسية فيه كان هو المفتاح الذي ولجت به باب قلبه، فحبها حبا شديدا فلم تعد مجرد جارية مشتراة بمال، بل أصبحت رفيقه روحه، و أسيرة هواه، وتمتم سراقة في غير قليل من الضيق:

- «اختلط كل شيء... وغامت الرؤية أمام عيني، لم أعد متأكدا من شيء...أين الحق وأين الباطل؟ لا أدري ثم تنهد في أسى وقال مستطرداً: «كل هذا بسبب محمد..» ثم سدد إليها نظراته القلقة الحائرة وقال مستعطفا:

-«أريد كأسا من خمر» أسرعت الجارية ودخلت الخباء، ثم عادت وفي يدها ما طلبه، فقال وهو يشربها دفعة واحدة:

-«لم يصنع يهود يثرب أعظم من هذا الدواء .. »ابتسمت «رباب»  قائلة:

-«ليس دواء، وإنما هو خديعة كبرى..»  قال سراقة وهو يتجشأ:

«كيف؟ إنها السحر الذي يزيل الهموم، ويبدد الأحزان».

«ولكنني أراها وسيلة ساذجة للهروب من مواجهة الحقائق.. إنها غيبوبة مؤقتة لا يقبلها الشجعان ..» قذف سراقة بالكأس في عنف، وقد آلمه حديثها الذي يبدو صريحا عاريا من الزيف والمجاملة لأول مرة ثم قال:

«أية حقائق! أصبح عالمنا بلا حقائق يا رباب.. الموميات القديمة نبشها محمد، وأغرقها بسخرياته.. إنه يسخر من آلهتنا .. وفكرنا .. ونظام حياتنا .. وأخلاقنا» قالت باسمة محاولة أن ينطوي حديثها على شيء من الرقة والوداعة:

-«لا تغضب يا سراقة .. أن محمداً يضرب بمعوله في القديم لكنه في نفس الوقت قدم لكم البديل..» صاح في حدة 

«البديل؟ ماذا تقصدين؟ أنتبع محمدا، ونترك ديننا وأمجادنا وتقاليدنا؟»

قالت رباب مستدركة:

«لا اقصد ذلك.. أن ما أعنيه هو أن كلمات محمد جديدة وغريبة، وأنها تجربة فريدة تستحق النظر.. فأنت تعلم أنها أقامت العرب وأقعدتهم.    

ضرب بقبضته على الأرض في عنف وقال:

«وهذا هو سر عذابي النظر فيما يقول هو الذي جلب عليَّ الشقاء، لست ممن آمنوا به، ولست ممن كفروا بدعوته.. أنا واحد من الذين يتأرجحون بين النور والظلام .. لم أنعم منذ جاء محمد بنعمة الاستقرار واليقين..

 أنا ضحية من ضحايا دعوته يا رباب .. ولهذا أحقد عليه أشد الحقد، هو الذي أثار القلق والأرق في حياتي .. أقسم باللات والعزى وبآلهة العرب قاطبة، لئن أمكنتني منهم الأقدار لضربته ضربة لا يبرأ منها أبدا..»

قالت في هدوء:

«ولماذا تفعل ذلك؟»

- «لأنه هاجر إلى «يثرب » خفية..  لم تستطع قريش اللحاق به، اختفى بطريقة مثيرة عجيبة.. أتدرين معنى هجرته؟» قالت:

« سيريحكم ويستريح منكم .. »

صاح محتدا:

«أنت واهمة ..  لقد آمن به الأوس والخزرج..  سيزداد بأسه، ويتفشى خطرة.. سيسيطر على طريق التجارة إلى الشام، وسيكثر أنصاره.. ومن يدري؟ قد يأتي مكة غازيا في يوم من الأيام..»

وكف «سراقة بن مالك» عن الحديث، حينما سمع رجلا ينادي في وسط الحي ويقول: «لقد رأيت قافلة صغيرة بها ثلاثة رجال، وأظنهم محمدا وأبا بكر والدليل الذي يرافقهما»

هب سراقة واقفا وفكر برهة،  واستقرت في رأسه فكرة باهرة،  لقد رصدت قريش جائزة مائة ناقة لمن يأتي محمد أو رفيقه.. ولا شك أن أهل الحي سيهرولون إلى مكانهما الآن، كل يحاول أن ينال الجائزة، وأخيرا وثب سراقة إلى قلب الحي، و هتف بأعلى صوته:

«إن من رأيت هما فلان وفلان وفلان من أهل الحي وقد خرجا لبعض شأنهما .. أما محمد وصحبه، فقد أفلتا إلى الأبد..»

 فصدَّق الحاضرون مقالة سراقة، وانصرف كل إلى مسكنه، وعاد سراقة إلى الخباء، وقال لجاريته:

«الآن جهزي لي فرس وخذيه من خلف الخباء، اذهبي إلى بطن الوادي الأكمة دون أن يراك أحد قالت في دهشة:

«ماذا تريد؟»

«سألحق بمحمد وصاحبه.. وسأعود به حيا أو ميتا»

«أكل هذا من أجل مائة ناقة؟

«أجل .. ومن أجل ثأري عنده .. لقد طالت حيرتي وعذابي .. هو أثار فكري وحياتي، وأشعل 

فيها الأسى المرير ، لئن كان نبياً حقاً، فليدفع عن نفسه، وإن كان غير ذلك، فليتلق جزاءه.  

 قالت رباب في غير قليل من الألــم:

-«محمد قال كلمته و ترككم و شأنكم.. ففيم تقتلونه؟»

-  «أتدافعين عنه يا حمقاء؟»

-«بل أدافع عنك أنت يا سراقة . . ألا يمكن أن يكون محمد مسلحا، أو أن بعض أنصاره من يثرب يحرسونه أو ينبثون في الطريق!؟ أن مغامرتك بلا معنى:

 »وحاول أن يتكلم، لكنها استطردت قائلة: - «أنت مقدم على عمل لا تؤمن به۰۰»

-«من قال ذلك؟ أنى أعني تماما ما أقول أو أفعل.. الآن استقر قراري، و محمد عدوي الأول اذهبي بالفرس في التو واللحظة دون مناقشة «وانصرفت الجارية بالفرس خفية، و بعد قليل تبعها «سراقة»، و معه رمحه في كامل عدته و انطلق بفرسه يسابق الريح، و يتخطى كثبان «تهامة» الرملية، غير عابئ بقيظ الصحراء، وصمتها الموحش، و امتدادها الرهيب.. لكنه لم يستطع أن يبعد الأفكار القديمة عن ذهنه.. « آه .. محمد يدعو إلى توحيد الآلهة و جعل منها إلها واحدا ... و يرسل الأحكام.. و يناقش القضايا العويصة ببساطة عجيبة ساحرة.. وحكى قصص الأولين.. و يدعو إلى مساواة السادة والعبيد .. ما أعجب هذا.. بلال مثل أبي سفيان .. و رباب مثل أمي .. إنه اضطراب غریب.

 يجب أن يوضع حد لهذه الأفكار المخيفة .. الكلام بحساب والعمل بحساب.. و مالي أنفقه بحساب رقابة مرعبة لمن وجدته لأسفكن دمه .. »

 و أفاق سراقة من أفكاره على كبوة شديدة، كاد جواده يلقيه على إثرها فوق الثرى الملتهب، لكنه تمالك نفسه، وشكم الجواد، ثم مضى في طريقه، وعاد إلى أفكاره المضطربة من جديد .. «إن كان محمد على حق، فلماذا لا يحيل هذه الصحراء إلى جنات وارفة الظلال؟ ولماذا لا يحيل جبل «أبي قبيس وحراء » إلى ذهب؟ لماذا لا يسوق له الله الناس طوعا وإيماناً، حتى لا يقاسي أصحابه و المؤمنون به العناء و التعذيب المرير؟ ولماذا يخرج مهاجراً باحثاً عن أرض جديدة يبذر فيها بذور دعوته؟»

و ترك سراقة أفكاره اللاهثة مرة أخرى حين كبا الجواد من جديد، و كان على وشك السقوط أيضا..

 و تعجب سراقة، لماذا يكبو جواده هكذا، و هو الجواد الأصيل القوي الذي يعتز به ويفخر بأصالته؟ لقد نال الجواد قسطاً كبيراً من الراحة، ونال طعامه على أكمل وجه، وليس به أي داء..؛ لكنه لكز جواده! و جذب لجامه عدة مرات، وصرخ فيه محتداً، فانطلق الجواد يسابق الريح .. لكأنما يحاول سراقة أن يواري أفكاره المشتعلة الحائرة، أو يغرقها في خضم اللعنات التي يصبها على الجواد، أو يحاول أن يسقطها دبر أذنيه وهو يشق الهواء مندفعا كالشهاب الخاطف، و رآهما من بعيد ..

هذا محمد و هذا صاحبه أبو بكر ..

 محمد لا يلتفت وراءه، أما أبو بكر فيكثر من التلفت إلى الخلف و دليلهما «عبد الله بن أريقط» منكس الرأس صامت..

وأشار أبو بكر إلى حيث سراقة، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ووجهه داعياً الله وفجأة كبا جواد سراقة للمرة الثالثة كبوة عنيفة، لم يستطع سراقة أن يحمي نفسه إزاءها، فانقذف بعيداً يتدحرج في سلاحه، و قد غبر التراب رأسه وشعره وملابسه وغبر عينيه، فهب واقفا في ذعر، وقد داخله فزع وروع عجيبان، وقد تمتم بينه وبين نفسه: «إن ما حدث لا يمكن أن يكون صدفة من الصدف، لقد رأيت محمداً بعيني رأسي يدعو الله.. و رأيتني أطير في الهواء.. ارتمى بلا إرادة..  ان كان محمد على حق فلن أستطيع أن أنال منه شيئا.. و قد يصيبني أذى بالغ، وأصبح مادة للسخرية والمسامر.. »

 وهب سراقة واقفاً، وأخذ ينفض التراب عن وجهه وثيابه ثم اتجه صوب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: «أنا سراقة بن جعشم» انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه .. فليكتب لي محمد كتاباً، يكون آية بيني وبينه» وحمد أبو بكر الله، وكتب الكتاب بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاه لسراقة الذي أخذه وانصرف.

استقبلته رباب في دهشة و تشوق لما جرى، و تمتمت:

- «وأخيرا أتيت .. كنت أرقب الطريق منذ رحلت...» ترجل من فوق جواده وهو يداري وجهه وقال:

-«أتیت دون ضجة .. لم تستقبلني اهازيج النصر ».. قالت متلهفة: و «كيف تركت محمداً؟»

«لم أقتله، محمد الآن على الطريق إلى يثرب، و لن يناله أحد بأذى..»

 وشرد ببصره إلى بعيد، وهو يغمغم:

«أجل .. لن يناله أحد بأذى .. لأن كل من قابلوني يبحثون عنه ضللتهم.. لم أدلهم على طريقه .. أليس عجيباً أن أذهب إليه طالباً قتله، ثم أعود وأنا أبعد الشر عنه؟ الأمر يبدو لي يا «رباب غير مفهوم.. عدت من رحلتي التعسة وأنا أشد ما أكون قلقا واضطرابا.. »

 ثم أمسك بتلابيبها فجأة،  وصرخ فيها وعيناه المحتنقتان تسددان إليها نظرات حانقة:

-أین وجه الحقيقة في هذه الحياة؟»

 أرخت أهدابها في ألم وقالت: « إن ظهور محمد يا سراقة لحدث كبير.. وخلال الأحداث الكبيرة يضطرب الناس، وتشتمل الرؤوس بالتساؤلات الكثيرة.. وفي النهاية يشرق النور.. نور الحقيقة..»

 ومرت سنوات عاشها «سراقة» نهبا للأرق والقلق، ولم يتشرب قلبه نور الحق القدسي إلا أيام فتح مكة، ولما انتصر جيش المسلمين بعد سنوات النضال المرير، ودخل محمد صلى الله عليه وسلم مكة قدم سراقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً ذلك الكتاب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر بكتابته لسراقة بن مالك في ذلك اليوم المشهود «يوم الهجرة»، وما أن رآه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ابتسم، وعفا عن سراقة الذي رفع يديه ووجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهتف وقد شعر بيقين رائع:

«أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله..».. ومن خلفه قدم أهل بيته، يرددون كلمات الخلاص الأعظم ..

 

الرابط المختصر :