العنوان أصُول الاقتصَاد من الكتاب والسُنَّة 2
الكاتب د. عيسى عبده
تاريخ النشر الثلاثاء 31-مارس-1970
مشاهدات 25
نشر في العدد 3
نشر في الصفحة 10
الثلاثاء 31-مارس-1970
تاريخ قريب ..
في خلال مائتي عام مضت.. تجمعت للدراسات الاقتصادية مكتبة تجل عن الحصر، وقامت مدارس فكرية ومناهج علميـة ومنظمات ساهرة على هذا الأمر الذي يتلخص في كلمتين : « الثروة والخدمة » فهذان قطبان المحور واحد . تدور من حولهما الجهود وتتعلق بهما الآمال.. أمال الأفراد والجماعات.. من الزمرة القليلة العدد إلى القبائل والشعوب والأمم: إلى التكتلات التي تصطبغ طورا بصبغة ظاهرة من السعي في طلب المعاش كقولنا «سوق مشتركة» وطورا تصطبغ بالعسكرية والدبلوماسية العالمية.. كقولنا «أحلاف ومنظمات وهيئات» وعلى جميع هذه المستويات.. القضية واحدة: ثروة وخدمة وإن شئت فهي الرفاهة.. لأن رفاهية الفرد ومن حوله أسرته، ورفاهية الشعب من حاكمه إلى آخر رعاياه.. تقوم على نصيب كل فرد من المتاع العاجل ومن الأمن، وهذان عنصران يدخلان في مفهوم الرفاهية - الدراسات الاقتصادية أذن وثيقة الصلة بالحياة اليومية للناس كافة في كل عصر ومصر .. فلماذا أذن بحرص الثقات على ذكـر مائتي عام خلت من يومنا هذا .. بوصفها الوعاء الزمني لما يعرف في زمننا هذا بالاقتصاد السياسي ؟
قالوا إن الثورة الفرنسية قد عاصرت بداية الثورة الصناعية.. وهاتان معا دفعا الى الوجود بالكثير من الثورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وتناول التغيير كلا من الفكر والأحداث .. وحاول البعض « ومنهم شارل ريست » أن يضع التسلسل الصحيح لكل من الفكر والأحداث .. أيهما أصل وأيهما تبع !!
وبعد تحليل مستنير ترك المحاولة وقرر بأنهما ظاهرتان على فلك دائر وهذا لا ينفي بطبيعة الحال أن فريقا من الكتاب اليساريين يقول بأن الأحداث هي الأصل وبأن التغيير المادي هو الذي يؤدي إلى ما عداه .. على تفصيل واف في الفكر الاشتراكي، ولكننا هنا نذكر كاتبا حاول أن يقرر الرأي المحايد ونريد به العالم الفرنسي الذي أسلفنا ذكره «شارل ريست»، وقد دلت أحداث التاريخ في جميع المجالات -لأنها الاقتصاد وحده- على أن محاولة الفصل بين الوقائع وبين التطور في الآراء.. هي جهد ضائع.
فريسة التخلف
- وقالوا أيضا بأنه في إطار هذه الفترة الزمنية من الثورة الفرنسية إلى الآن يقع القرن التاسع عشر « وقد تم » والقرن العشرين وقد تخطى الربيع من عمره .. وفي خصوص القرن التاسع عشر بالذات تفصيلات بالغة الأهمية لكل مشتغل بالاقتصاد علما وعملا .. أما بالنسبة لنا نحن العرب فإن هذه التفصيلات حيوية، لأن القرن التاسع عشر هو الذي شهد الفصول الأخيرة من قصة الدولة العثمانية .. كما شهد التمهيد لتمزيق أرضها بعد الحرب الكبرى .. وإذا ألغيت الخلافة عام ١٩٢٤ فإن أرض العرب ومواردهم ومصالحهم قد أصبحت نهبا لكل طامع .. وبخروج الموارد من أيدي أصحابها .. ضعفت القدرة على السير في ركب التقدم التكنولوجي .. ومن هنا نشأت فرية كبرى يقال لها « التخلف » ولا تزال هذه الفرية عالقة بنا نرددها ونزكيها .. تقول بأن القرن التاسع عشر أذن . هو أهم قطع من المائتي عام الأخيرة .. فمتى بدأ ، ومتى انتهى ؟
دخول العمال البرلمان
الإجماع منعقد على أن القرن التاسع عشر بدأ في يوليه سنة ١٧٨٩ للميلاد بسقوط الباستيل ..
وبسقوط حصون أخرى كانت تعيش من ورائها أوضاع معلومة من توزيع الثروة والمشقات في كسب المعاش .. كما كانت تعيش من ورائها نظم ترفع وتخفض على أسس من الجنس والحب والتفاوت الطبقي .. وبانهيار الحصون تباعا، من بعد الباستيل، توالت الأحداث في عشرات من السنين تالية وظلت كذلك حتى وصلت الأفواج التي زحفت على صروح الظلم في عام ۱۷۸۹ م إلى نهاية الشوط.. فمتى کان ذلك؟ وهل حتما أن تصل الجماهير الصاخبة في العاصمة الفرنسية إلى نهاية الشوط في حياة الجيل الذي بدأ المسيرة .. أم أنهم يقضون العمر على الطريق .. ويسلمون القياد إلى الأبناء ومن بعدهم إلى الأحفاد .. حتى يتحقق الهدف المسيرة الأولى ولو بعد جيلين؟؟
قول لا ينقصه المنطق قرر وصل القرن التاسع عشر بأحداثه وبأفكاره إلى نهاية واضحة .. في آخر سنة 1905.. لأنه في شهر السنة التالية «١٩٠٦ » وصل الفوج الأول من نواب العمال إلى مجلس العموم البريطاني .. في بلاد تعتبر بحق من بلاد الغرب الشورى .. وحرصا على حق صاحب المال « أو دافع الضريبة كما يقولون » في رقابة الدولة ومحاسبتها في كل شأن .. وعلى الأخص الثروة والخدمة .. كم منهما يبقى للفرد وأسرته ، وكم تتولى السلطات العامة جمعـة وتوزيعه ، وما هي ملامح العدالة في توزيع المنافع والتضحيات ؟؟
كان الشعب الإنجليزي من أقدم شعوب الغرب في هذا الأمر .. وسبق الثورة الفرنسية بقرنين كاملين .. وكان شديد الاستمساك بالقديم .. ولذلك حين وصل العامل « الذي لم يكن عندئذ يدفع الضرائب، بل يتلقى الخدمات » إلى مجلس العموم .. فإن هذه الحقيقة التاريخية وحدها كانت علامة كبرى على الطريق .. وهي تهدي الباحثين في جملة الأمور الإنسانية .. إلى أن الزحف الذي بدأ في شوارع باريس عام ۱۷۸۹.. قد استمرت مواكبة حتى وصلت الطلائع إلى مجلس العموم في لندن عام ١٩٠٦ .. وعندئذ تكون أحداث القرن التاسع عشر قد تكاملت القرن العشرون !!
قول لا ينقصه المنطق قرره المؤرخون للفكر الاقتصادي وللنضج السياسي الذي صهر الشعوب الأوروبية في التاريخ الحديث .. ومع ذلك يأبى فريق من الكتاب ألا أن يقول : أن المسيرة كانت لا تزال في آخر الشوط، إن أردنا الأفراد والشعوب والحكومات جميعا .. كانت أحداث القرن التاسع عشر تقترب من القمة حين وصل العمال إلى البرلمان، هذا صحيح، ولكن الهيكلية المتكاملة لأحداث هذه الفترة كانت لا تزال متماسكة ومندفعة في فلك الزمان .. حتى قامت الحرب الكبرى عام ١٩١٤ .. وعندئذ وصل القرن التاسع عشر إلى قمة التجمع والتراكم لكل من الأحداث والتغييرات الاجتماعية فيما بين الأفراد والدول على جميع المستويات .. وبانطلاق مارد الحرب عندئذ طوى الزمان سجلا حافلا وفتح سجلا آخر .. وكانت أولى صفحاته وعاء لأول صراع دموي على نطاق عالمي .. جمع بين الشمول وبين امتداد المعارك في شتى الجبهات خمسة أعوام .. وعندئذ بدأ القرن العشرون !!
فشل الاقتصاد المعاصر
- نقول بأن هذا أيضا منطق جدير بالاعتبار .. وبين هذين الرأيين تقف هذه الفترة الزمنية بأبعادها وبأهوالها .. في تاريخنا نحن العرب .. لكي تدلنا على أصول المأساة التي نعيشها اليوم ..
وأخطر ما في القرن التاسع عشر أحداثه الاقتصادية وأفكاره الاقتصادية أيضا... وكل هذا الذي تقدم من القول، هو قدر متفق عليه .. وينبني على ذلك سؤال بالغ الأهمية نثيره بين يدي هذه المقالات. فنقول: هل هذا أوان البحث في أصول الاقتصاد من القرآن والسنة .. ونحن نعلم أن مصادر القول عندئذ تعود بنا إلى أربعة عشر قرنا كاملة !! وكيف نوفق بين التسليم بالمركز الفريد لأحداث القرن التاسع عشر .. وبين التشاغل بالكلام عن القرن السابع للميلاد ؟؟
- سؤال يتردد في الأوساط العلمية وفـى الدراسات العليا بوجه خاص .. ثم تتلقفه الكثرة الكاثرة من الأمة .. في شوق وفي لهفة .. وللإجابة عنه صدرت مؤلفات وارتفعت الأصوات .. ولا نزال في أول الطريق .. ولذلك نسارع إلى القول بأن ليس في هذا الأمر ترف علمي ، ولا تشاغل عن الحاضر المرير بذكريات من الأمجاد .. ونقول بأن هذا الذي كان يبدو من عشرات السنين وكأنه حلم يقظة .. أو أماني من نسج الخيال .. قد ملك على بعض الباحثين مسالك التفكير .. ومنهم من يؤمن به .. وآخرون حملهم على ذلك فشل الاقتصاد .. كل الاقتصاد الغربي والشرقي في تحقيق أغراضه الكبرى ، ولذلك عاد يفتش فيما قبل التاسع عشر وما قبل عصر النهضة ، والذي كان من عصور وسطى قديمة .. ثم وقف عند عصر النبوة وعاد أدراجه مع تقدم الزمن من جديد .. ولكن في موكب نور التراث الإسلامي .. وإذا بهذا التراث لا يزال على جدته .. إذا قال فقد قال .
- مطلب كبير .. هذا الذي نقصده ، ومن دونه تقدير وتقويم لما يعرف بالاقتصاد الوضعي .. ولماذا ذهبت جهود أنصاره وخصومه أدراج الرياح ..
وهذا هو محل النظر في المقال التالي إن شاء الله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
في الطريق إلى الانتعاشة الإسلامية.. «بنك إسلامي ينهض في دبي»
نشر في العدد 241
18
الثلاثاء 18-مارس-1975