; أيام في دمشق | مجلة المجتمع

العنوان أيام في دمشق

الكاتب د. محمد بن موسى الشريف

تاريخ النشر السبت 18-أغسطس-2007

مشاهدات 14

نشر في العدد 1765

نشر في الصفحة 36

السبت 18-أغسطس-2007

 وصفها الوزير ابن شكر بأنها: الأبصار وعروس الأمصار ومجرى الأنهار ومغرس الأشجار ومعبد الأبرار.

 تشتهر بلذيذ طعمها واعتدال هوائها.. وأهلها معروفون بالتدبير وعدم التبذير وغالبيتهم يقبلون على الإسلام.

 سوق «الحميدية» المشهور مسقوف كله وبه محلات عتيقة وهو جمال للناظرين ومتعة للمتسوقين والداخل إليه كوالج التاريخ من بوابته ومودع العصر عند عتبته.

 تعج بمقابر الأنبياء العظام والرسل الكرام وكان لعلمائها أعظم المشاركات في بناء مجد الإسلام.

كانت دمشق عاصمة الدنيا أيام الخلافة الأموية، ثم لما كبا الأمويون لم تتخلف دمشق عن المشاركة في الحضارة الإسلامية فقد كان لعلمائها خاصة وعلماء بلاد الشام عامة أعظم المشاركات في بناء مجد الإسلام، وإن ينس التاريخ أشخاصًا فلا ينسى أبدًا شيوخ الإسلام المقادسة الدمشقيين مثل الحافظ عبد الغني المقدسي ( توفي ٦٠٠ هـ).

والضياء المقدسي وابن قدامة المقدسي (توفي ٦٢٠ هـ) الذين سكنوا جبل قاسيون في دمشق، وسميت المنطقة إلى اليوم بالصالحية نسبة إليهم ولا ينسى التاريخ شعلة النار الحافظ ابن عساكر ( توفي ٥٧١ هـ) يرحمه الله تعالى وكان يلقب بذلك لعظم همته وكثرة حركته ورحلاته، وشيخ الإسلام ابن تيمية (توفي ٧٢٨ هـ) وتلميذه الحافظ ابن القيم (توفي ٧٥١ هـ) والإمام الذهبي- ذهب ذلك العصر لغة ومعنى ( توفي ٧٤٨ هـ) والإمام ابن كثير ( توفي ٧٧٤ هـ) وتقي الدين السبكي ( توفي ٧٥٦ هـ) والحافظ المزي وعلم الدين البرزالي، وأكابر الصحابة وعظماء التابعين الذين سكنوا تلك البلاد المباركة بإشارة رسول الله ﷺ: «طوبى للشام» -ثلاث مرات- قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال ﷺ: «فإني رأيت ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام، و إن الله تكفل لي بالشام وأهله واستجندون أجنادًا جند بالشام وجند بالعراق وجند باليمن»، فقال عبد الله بن حوالة الأزدي -رضي الله عنه-: خر لي يا رسول الله ﷺ فقال: «عليكم بالشام» في جملة من الأحاديث الكثيرة التي أنبأت بفضل الشام ومكانته وهي الأرض التي بارك الله فيها: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: ٧١)، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ (سبأ : ۱۸) والقرى التي بورك فيها هي قرى الشام. 

جنات وعيون 

والشام فيه مقابر الأنبياء العظام والرسل الكرام. وفيه جنات وعيون وزروع ومقام كريم، وما أحسن ما وصف به الوزير ابن شكر دمشق فقال: دمشق نزهة الأبصار، وعروس الأمصار ومجرى الأنهار ومغرس الأشجار ومعبد الأبرار المستغفرين بالأسحار وظلها الممدود ومقامها المحمود وماؤها المسكوب وعيبها المسلوب ومحاسنها المجموعة، وفضائلها المروية المسموعة، ودرجتها المرفوعة وفاكهتها الكثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ونسيمها العليل وهجيرها الأصيل، وماؤها السلسبيل... ولم تزل مقر البركات ومعدن النبوات ومنزل الرسالات ومسكن أرباب الكرامات... 

ولما أنعم الله تعالى علي بإسكاني في فنائها وتخيري لبنائها، ونزهتي في أفنانها وانسي بإنسانها مضيت إلى جامعها الجامع، وشفعت بإدراك البصر منه إدراك المسامع فلما وصلت إليه رأيت مرأي صغر الرواية ورونقًا حصل من الحسن على النهاية، ونورًا يجلو الأبصار، وجمعًا يفضل على جموع الأمصار وعبادة موصولة على الاستمرار، وقرآنًا يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ومنقطعين إليه قد أنفقوا في الاعتكاف به نفائس الأعمار والبركات تحف بجوانبه والعلوم تنشر في زواياه ومحاربه، والأحاديث عن رسول الله ﷺ تسند وتروى والمصاحف بين أيدي التالين تنشر فلا تطوى، وأعلام البر فيه ظاهرة فلا تخفى ولا تزوى، والإسلام فيه فاش والجهل فيه متلاش... وهو بيت المتقين، وسوق المتصدقين، ليله للمتهجدين، ونهاره للعلماء المجتهدين.... إلى آخر ما قاله -يرحمه الله-. 

زيارة قديمة 

وكنت قد أتيت دمشق قديمًا وأنا طفل سنة ١٣٨٩ هـ/ ١٩٦٩ م فراعني منها حسن مبانيها، وجمال مصايفها، وحلاوة فاكهتها وبرودة مائها على أننا كنا في وسط القيظ وفي شهر الحر: آب اللهاب- أغسطس ولا أنسى يومًا جاءنا الوالد فيه ببطيخة فوضعناها في بركة في وسط البيت فانشقت البطيخة -والله- وأنا أنظر من شدة برد الماء. هذا ونحن في أغسطس!! ولما جئت دمشق آنذاك كانت البركة ما زالت فيها حالة والليرة لكثير من المشكلات حالة!! ومن ثم جئتها سنة ١٤٠٠ هـ/ ١٩٧٩ م فوجدت الفارق شاسعًا، وهذا لأن البلاد يوم زرتها أول مرة كانت آمنة مطمئنة. وفي المرة الثانية كانت على شفا جرف هار. والأوضاع فيها صعبة بسبب الخلاف بين الحكومة والإخوان. 

كنز عظيم 

ثم جئتها سنة ١٤١٦ هـ/ ١٩٩٦ م لأشتري جزءًا من مكتبة أديب وعالم مشهور كان قد انتقل إلى رحمة الله فرغبت أسرته في أن أصطفي جزءًا من مكتبته شراء، فرحبت وسارعت، واصطفيت منها ما استطعت حمله، وكنت راغبًا فيها كلها طامعًا في الاستحواذ عليها لكن حال دون ذلك أحوال وقد أفدت من تلك الكتب أيما إفادة وسعدت بها كل السعادة وحملتها إلى بلدي وزينت بها مكتبتي ولله الحمد والمنة لكن لأنها كانت مغلقة دهرًا طويلًا فقد نالني شيء من غبارها ليس بالقليل، وظللت أسابيع بعدها وأنا عليل والحمد لله على كل حال.

 ومكتبات العلماء والمشايخ القدامى ثروة وكنز، ذلك لأن كتبًا كثيرة طبعت قديمًا لم تطيع من بعد وهناك كتب طبعت طبعات خاصة ولم تتح للجمهور، فينبغي الحرص على هذه المكتبات الخاصة إن بيعت أو أهديت. 

إنكار المنكر 

ثم إني لما زرت دمشق هذه المرة، وجدت نقصًا واضحًا في الالتزام بشروط الحجاب ومن المعلوم عند القاصي والداني أن الحجاب الشامي هو من أجود أنواع الحجاب وأسبقه وأحسنه، ومن أكثره التزامًا بالضوابط الشرعية لكن لما جئتهم تلك السنة وجدت أن الحجاب قد ضعف الالتزام بشروطه وازداد عدد المحجبات!! وأصبح سائغًا أن تلبس المرأة هذه السراويل الضيقة وتضع على رأسها الإيشارب، لتصبح محجبة هذا عدا عن الألوان التي تزيد المرأة جمالًا، وربما وضعت الفتاة الأصباغ المكياج ومعاذ الله أن يكون هذا حجابًا مقبولًا: فإن الأصل في الحجاب هو دره الفتنة وإسكات صوت الغريزة المحرمة، أما هذا الملبوس فإنه يعظم الافتتان بالمرأة. ويشعل الشهوة المحرمة، وقد زاد انتشار هذا اللبس المخالف للأسف الشديد حتى صار هو الأصل في شوارع كثير من البلاد العربية والإسلامية، وهكذا المنكر إذا لم يُنكر في بدايته استفحل أمره حتى يصير هو المعروف والمعروف يصير منكرًا. 

وقد حدثني أحد إخواني من سورية أن بعض الفتيات السافرات المتبرجات يشجعن على الحجاب بهذا اللباس الضيق والملون والمخالف لشروط الحجاب الشرعي، ثم إذا لبسنه أقيمت لهن الحفلات وكوفتن بالجوائز وأرى والله أعلم أن سبب انتشار مثل هذا اللباس إنما مرده إلى بعض القنوات الفضائية الإسلامية التي تشجع هذا اللباس وتطرحه على أنه حجاب مقبول، وهذا تهاون وتقلت لا يليق أن يعرض في القنوات الفضائية، ويطل على الناس من خلال المذيعات والمديرات للبرامج والندوات.

سوق الحميدية 

وفي دمشق السوق العثماني المشهور «الحميدية» المسقوف تمامًا، وقد دخلته مرارًا، وفيه محلات عتيقة، وهو جمال للناظرين ومتعة للمتسوقين والداخل إليه كوالج التاريخ من بوابته ومودع العصر عند عتبته، وفي نهايته الجامع الأموي، وهو جزء من دمشق القديمة، وعليه تدور رحى المدينة ودمشق مشهورة بلذيذ طعامها واعتدال هوائها وأهلها معروفون بالتدبير والاقتصاد وعدم التبذير وهم في جملتهم لهم إقبال على الإسلام وحب لشرائعه العظام واعتزاز بأهله والدعاة إليه، والله المسؤول أن يمن عليهم بجمع الشمل، وأن يرفع عنهم الفتن وأن يقيهم شر الغوائل، وهو الموفق والمستعان.

الرابط المختصر :