العنوان أين نحن من هؤلاء؟! الإمام سفيان الثوري «رضي الله عنه»
الكاتب محمد عبدالله الخطيب
تاريخ النشر الثلاثاء 30-يوليو-1996
مشاهدات 14
نشر في العدد 1210
نشر في الصفحة 58

الثلاثاء 30-يوليو-1996
ما أشد حاجتنا إلى نماذج صادقة في كل بلد إسلامي تتحلى بسماحة الإسلام كاملًا وشاملًا وتحمل رسالته في القرن العشرين وإلى قيام الساعة.
وهذا نموذج صادق لمن سبقونا على الطريق، وهو من الطائفة التي هيأها الله على الطريق لهذه الأمة الإسلامية، والتي تتمثل الإسلام عقيدة وسلوكًا، ومنهجًا لتكون حجة ناطقة لله على خلقه، يهتدي بها الطالبون للحق، ويسير على نورها السالكون للطريق على بصيرة، لا يضرها من خالفها حتى تقوم الساعة، ولذلك كان أثر العاملين لدين الله، الملتزمين به عظيمًا، لأنهم أعادوا الثقة إلى القلوب بهذا الدين، وردوا الذين اتخذوا من واقع المسلمين البعيدين عن الدين حجة لهم ومغمزًا للطعن على صلاحيته في كل زمان ومكان..﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ (الكهف: 5) نعم إن الملحدين في كل مكان يتخذون من بعض التطبيقات والتصرفات التي تصدر من البعض عن جهل بالإسلام، يتخذون منها مطية لرمي المسلمين والإسلام بالتخلف والجمود وعدم الصلاحية.
فما أشد حاجتنا إلى نماذج صادقة في كل بلد إسلامي تتحلى بالإسلام كاملًا شاملًا، وتتحلى بسماحة الإسلام، وتتحلى بالمعاني العليا للإنسانية، هذه النماذج هي جنود الإسلام، وحملته في القرن العشرين وإلى قيام الساعة، وصدق سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».
ولد سفيان الثوري سنة 96 هجرية وتوفي سنة 161هـ فهو من التابعين، وهو من القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالأفضلية، جاء في الحديث المتفق عليه «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
وموطن سفيان هو الكوفة، ثم سكن بعدها المدينة المنورة، ومكة المكرمة، ثم انتقل إلى البصرة، وقضى فيها بقية حياته، وهو ينحدر من أسرة متدينة صالحة.
ونسبه: هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب ابن رافع بن عبد الله، ونسبة الثوري: إلى كلمة- ثور- وهو: أبو قبيلة من مصر، ويقال إن والد سفيان أحد شيوخ الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه.
وهذه أم سفيان فتقوم على رعايته فتقول له: «يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، فكانت تعمل وتقدم له المال ليتفرغ للعلم».
وكانت توجهه وتعلمه، وتربيه على يقظة الحس والمراقبة لله تقول له: «يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك،
فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك»، وكأن الأم المسلمة تريد أن تصل بابنها إلى معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28).
وكان طلب العلم عند للعمل به، لا للتباهي والشهرة، بل لخشية الله وكان يقول: «إنما يطلب العلم ليُتقَى الله به، فمن ثم فضل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء» (الحلية لأبي نعيم).
يقول عبد الله بن المبارك فيه وفي شخصيته المتعددة الجوانب:
«تعجبني مجالس سفيان الثوري، كنت إذا شئت رأيته في الورع، وإذا شئت رأيته مصليًا، وإذا شئت رأيته غائصًا في الفقه» المرجع السابق.
انتشرت في عصر سفيان البدع والخرافات والفرق المختلفة، فكان صريحًا واضحًا في توقفه من الجميع، فأعلن أن الإيمان «إقرار وعمل».
وكان يرى أن الإسلام يدل على مسماه ولا حاجة للتوغل في تعريفه- فعندما جاءه أخوه مالك يسأله قال له: «إذا غدوت إلى السوق فانظر إلى أدنى حمال فاسأله عنه فإذا أخبرك فهو ذاك» يريد بذلك أن المعنى قريب متبادر إلى الأذهان، يعرفه أقل الناس تعليمًا.
وكان يقول: «الصلاة والزكاة من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص والناس عندنا مسلمون مؤمنون، ولكن الإيمان متفاضل، وجبريل أفضل إيمانًا منك».
وكان لا يتحكم في أمور العباد ومآلهم، بل يكِلُ أمرهم إلى الله، ويأخذ بالظاهر، ويسأل الله لهم السلامة والنجاة.
ويقول: «نسمع التشديد فنخشى، ونسمع اللين فنرجو لأهل القبلة، ولا نقضي على الموتى، ولا نحاسب الأحياء، ونكِلُ ما لا نعلمه إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم».
وكان يكره أهل البدع وينفر منهم، ويحذر من الاستماع إليها ويقول: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها»، وهو هنا مقصد البدعة في الدين بالزيادة فيه أو النقص منه.
وكان يقول: «لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول ولا عمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة» وكان- رضي الله عنه- يقسم الليل ثلاثة أقسام.
يقول ابن أبي حاتم: «إن سفيان جعل على نفسه لكل ليلة جزءًا من القرآن، وجزءًا من الحديث، قال: فيقرأ جزأه من القرآن، ثم يجلس على الفراش فيقرأ من الحديث، ثم ينام وهكذا في كل ليلة وكان يرى أن على كل والد إجبار ولده على طلب الحديث وتعلمه وكانت مكانته الفقهية لا حدود لها، وهو صاحب مذهب متَّبَع عمل به عدة قرون.
يقول فيه ابن عينية: «ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام- وهو الفقه- من سفيان الثوري» وكان لسعة أفُقه يقر الرأي.. ويحترم اختلاف العلماء، ولا يضيق من الآراء الفقهية وقد روي عنه قوله: «لا تقولوا اختلف العلماء في كذا، ولكن قولوا: وسع العلماء على الأمة في كذا».
ويقول: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه».
وكان يقال عنه «سفيان أمير المؤمنين في الحديث»، و«سفيان محدث العرب»، و«سفيان فقيه العرب».
يقول الإمام الأوزاعي: «لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان»، وكان هو يقول: «يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل» الإحياء للغزالي، وكان- رضي الله عنه- يتخوف من فتنة العلم، أن يبتعد به عن غايته الأساسية، فيبكي على نفسه، ويشعر بثقل العلم ومسئوليته إذ يكون حجة عليه بين يدي الله.
وكان كثير الدعاء والتضرع إلى الله، خاصة في وقت السَّحَر، والدعاء مخ العبادة، ودعاء السَّحَر سهام القدر.
يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: «ما عاشرت في الناس رجلا هو أرق من سفيان» قال: وكنت أرافقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا في أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي: النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ ثم يقول بعد وضوئه: «اللهم إنك عالم بحاجتي، غير معلم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني، وكل هذا نعمتك السابغة علي، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي: قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلِّي ما أقمت مع الناس طرفة عين.. ثم يقبل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثر بكائه.
قال ابن مهدي: «وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه» (الحلية).
وكان- رضي الله عنه- من الزاهدين في الدنيا بحق، يقول فيه أحمد بن يونس «ما رأيت أحدًا أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان» (الحلية).
وما كان زهده يمنعه من العمل والتجارة، فقد كان يدعو للكسب الحلال وللضرب في الأرض، وكان يحذر من القعود والكسل والتخلف عن العمل.. وكان يقول.. «لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب من أن أحتاج إلى الناس»، وكان يقول: «عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال والإنفاق على العيال» (الحلية)، ونادى «يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، واعملوا ولا تكونوا عالة على الناس».
وكان يفرح حين يرى المعروف والخير، ويتألم من المنكر ويحزن وينهى عنه وينفر من أهله، وكان لا يداري، ولا يجامل في ذلك أحدًا.
الحديث عن هؤلاء الأعلام لا ينتهي ولكنه التذكير بحقهم علينا، وهو دعوة إلى العودة إلى الموسوعات الكبرى، الحافلة بالذخائر التي تفخر بها أمتنا، وتحيا عليها الأجيال المترددة الحائرة الواقفة على مفترق الطرق، رحم الله إمامنا سفيان الثوري وسلام عليه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
(*) من علماء الأزهر
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

