العنوان الأزمة اللبنانية بعد تدمير طرابلس
الكاتب عبد الرحمن الناصر
تاريخ النشر الثلاثاء 15-أكتوبر-1985
مشاهدات 22
نشر في العدد 737
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 15-أكتوبر-1985
- ضرب طرابلس كان مقدمة النهاية لإغلاق الملف اللبناني
- المقاتل المسلم في طرابلس يسطر أروع الملاحم البطولية
- دوافع الاتفاق بين القوى الإسلامية وسوريا
- الخسائر الكبيرة التي مُنِيَ بها المهاجمون وثيقة انتصار للقوات
الإسلامية
توقف القتال في طرابلس وتمركز القوات السورية في محاور المدينة الرئيسية تنفيذًا للاتفاق الذي تم التوصل إليه في دمشق في الأسبوع الماضي بين أطراف اللقاء الإسلامي وبين السلطات السورية، لا يعني أن هذا التوقف وذلك الاتفاق تمَّ بسبب هزيمة عسكرية مُنِيت بها الأطراف الإسلامية في ساحة القتال كما يظن بعض المتوهمين.. أو بالأحرى كما يبدو هذا الأمر استنادًا إلى تجارب سابقة عاشتها شعوب المنطقة سواء على الساحة اللبنانية أو الساحة العربية بشكل عام.
حقيقة المعركة:
فالحقيقة التي تتحدث عنها طرابلس تقول إن المقاتلين المسلمين سجلوا على ساحة المعارك التي استمرت أكثر من خمسة عشر يومًا أروع الملاحم القتالية والصمود البطولي في وجه الهجمة اليسارية الباطنية الشرسة المدعومة من قِبَل القوات السورية المتمركزة فوق التلال المحيطة بطرابلس... وقد دلَّ على هذا الموقف البطولي حجم الخسائر البشرية التي مُنِي بها المهاجمون حيث تجاوزت المئات، وكانت جثثهم تملأ ساحة المعارك بشكل يدفع كل ادعاءاتهم وكذبهم حول حقيقة سير المعركة، وبالمقابل فإن القوات الإسلامية المدافعة عن المدينة لم يزد حجم خسائرها البشرية عن٤٠ مقاتلًا سقطوا ضحية القصف الصاروخي والمدفعي السوري الذي استمر طوال أيام القتال.. وهذا العدد البسيط من القتلى المسلمين يدل دلالة قطعية على أن القوات المهاجمة- وبالعرف العسكري- هي التي منيت بالهزيمة وأنه لولا القصف المدفعي والصاروخي المستمر لتمكن المقاتلون المسلمون في طرابلس من تغيير ثوابت كثيرة على الساحة اللبنانية بشكل عام، ونعتقد أن هذا القصف المدمر كان يهدف في جوهره إلى قطع الطريق على تحقيق انتصار إسلامي في طرابلس يؤدي حتمًا إلى نسف المخططات التي رسمت على الأرض اللبنانية.
لماذا إذن الاتفاق؟
ومن حق القارئ أن يسأل إذن لماذا كان الاتفاق بين القوات الإسلامية وسوريا؟ ونحن على يقين من أن هذا السؤال ينطلق من منطلق الحرص على المسيرة الجهادية للإسلاميين في طرابلس بشكل خاص وفي لبنان بشكل عام وينطلق من منطلق التخوف من أن يكون لهذا الاتفاق انعكاسات مستقبلية تلحق الضرر بالمسيرة الإسلامية في المدينة المجاهدة.. وهذا وذاك هو حق لا ننكره على القارئ، إنما ما نرغب أن نوضحه يتعلق بالدوافع الكامنة وراء الاتفاق ويمكن تحديد تلك الدوافع بالتالي:
- لقد أثبتت المعارك التي استمرت لأكثر من خمسة عشر يومًا أن القوات الإسلامية حققت انتصارًا واضحًا على القوات المهاجمة وهذا الانتصار يتضح من خلال الفشل الذي مُنيت به القوات المهاجمة المكونة من عدة تنظيمات يسارية وباطنية تملك من العُدَّة والعَدَد ما يفوق بكثير ما تملكه القوات الإسلامية المدافعة عن المدينة.. ورغم ذلك فقد فشلت هذه القوات في اقتحام المدينة وهذا بحد ذاته يعتبر نصرًا مباشرًا للقوات الإسلامية ومن هنا فإن الأطراف الإسلامية أسقطت هذه المجموعات اليسارية من حساباتها المستقبلية على ساحة العمل السياسي في طرابلس.
ترتب على الهجمة القذرة لتحالف القوات اليسارية والباطنية نزوح مئات الآلاف من سكان المدينة بسبب عنف القصف الصاروخي العشوائي، وهذه الأعداد الضخمة تشكل الجزء الأكبر من سكان المدينة شردهم القتال بدون مأوى أو طعام... منهم من بات في العراء ومنهم من أوى الى عربات القطار.. ومن لم يستطع الخروج؛ اضطر إلى البقاء في المدينة معرضًا نفسه وعائلته للقصف الهمجي العشوائي.. وقد ترسبت في نفوس أبناء المدينة كراهية شديدة للقوات المهاجمة التي حولت بقصفها العشوائي المدينة إلى مجرد أطلال خربة مهدمة.. فالمعلومات الواردة من المدينة المجاهدة تؤكد على أن أكثر من نصف مبانيها أصبحت مهدمة، وبالتالي فإن أكثر من نصف سكان المدينة أصبحوا بلا مأوى... وهذه الكراهية من شأنها أن تشكل رفضًا قاطعًا لأي تواجد لهذه الأحزاب اليسارية التي ألحقت الدمار بالمدينة.
- الضربة القوية التي وجهها الإسلاميون إلى قوات التحالف اليساري الباطني أدت إلى سقوط مئات القتلى من هؤلاء بالإضافة إلى أعداد أكبر من الجرحى وهذه الهزيمة العسكرية ستنعكس بالتالي على شكل عودة الأحزاب من حيث إنها ستكون عودة رمزية لا أثر مباشر لها على الساحة الطرابلسية.
كانت سوريا ترغب في جعل القتال يبدو وكأنه ينحصر بين فئات طرابلسية متنافسة، ولكن بعد فشل القوات المهاجمة وضرب معظم عناصرها اضطرت القوات السورية المرابطة حول المدينة إلى قصف المدينة بالمدفعية والصواريخ بحجة أنها تعمل على إنهاء القتال، مع أن القتال كان قد بدأ قبل خمسة عشر يومًا وكان القصف من العنف بحيث أدى إلى مقتل وجرح الآلاف من أبناء المدينة وتهديم أكثر من نصف مبانيها، وهذا الموقف السوري كان بمثابة رسالة موجهة إلى القيادة الإسلامية تعني أحد أمرين، إمَّا عقد الاتفاق أو تدمير المدينة.. ومن الطبيعي أن تفهم القيادة الإسلامية في طرابلس جدِّية هذه الرسالة سيما، وأن هناك تجربة حيَّة في مدينة حماه السورية تؤكد على إمكانية التنفيذ.
طرابلس وإغلاق الملف اللبناني:
إن مسار الأحداث على الساحة اللبنانية تعطينا انطباعًا قويًّا بأن إغلاق الملف اللبناني سيتم عبر طرابلس وما حدث من تدمير في طرابلس يعتبر نموذجًا حيًّا موجهًا للمدن الأخرى التي تتواجد فيها قوى معارضة للاتجاهات السورية في لبنان ونخص هنا مدينة بيروت الغربية وصيدا كونهما معقلين أساسيين للمسلمين السنَّة من حيث إن هذه الطائفة كانت المستهدفة الأولى منذ اندلاع الحرب اللبنانية عام ١٩٧٥.. والملاحظ في هذا الجانب أن كافة الطوائف اللبنانية النصرانية والشيعية والدرزية، حققت لنفسها مكاسب من الحرب باستثناء أهل السنة فقد خسروا كل شيء.. فالواضح أن سياسة القوى الدولية بالنسبة للأزمة اللبنانية تسير باتجاه تأجيل عملية التقسيم «مع كونها موجودة على أرض الواقع الجغرافي» وأن الحل لا بد أن يتم عبر تثبيت الهيمنة المسيحية على الحكم مع إرضاء القوى الطائفية الأخرى كالدروز وحركة أمل وإعطائهم بعض الامتيازات السياسية التي لا تشكل تهديدًا مباشرًا للهيمنة المسيحية.. وهذا ما يتفق مع التغييرات في ساحة العمل المسيحي، وتثبيت رئاسة أمين الجميل ورفض الرئاسات المسيحية لأي تغيير في الرئاسة اللبنانية، واقتصارها على النصارى.. وهذا كله يفسر قول بابا الفاتيكان في رسالته إلى القيادات المسيحية في لبنان «لا تتنازلوا عن أي حق من حقوقكم التاريخية!!» ويقصد هنا بحق الهيمنة على الحكم في لبنان والبابا هنا لا يقول هذا الكلام إلا من خلال الدعم والتأييد من جانب القوى الدولية...
ولما كانت سوريا هي القوة الأقدر على تحقيق هذه المخططات من خلال قواتها الموجودة في لبنان ومن خلال علاقاتها مع الأطراف اللبنانية فإن القوى الدولية أعطت الإشارة الخضراء لسوريا لإنهاء الأوضاع اللبنانية على النحو الذي ذكرناه.. ومن هنا فإن تصريحات المسؤولين السوريين المستمرة حول إغلاق الملف اللبناني تؤكد على هذا الاتجاه.. ولكن إغلاق الملف يحتاج إلى احتواء القوى اللبنانية المتصارعة وقد تمكنت سوريا من تحقيق هذه الخطوة عبر احتوائها لجنبلاط وبرِّي والقيادات المسيحية من أمين الجميل إلى حبيقة إلى سليمان فرنجية... وبقيت القوى الإسلامية الحقيقية خارج الاحتواء السوري، ومن هنا فإن إغلاق الملف كان يحتاج إلى إنهاء هذه القُوَى أو تحجيم دورها.. ولما كانت القوات الصهيونية قد دمرت ما دمرته من بيروت الغربية ثم أكملت المليشيات الباطنية الدرزية وحركة أمل ما بدأته القوات الصهيونية حيث بسطت سيطرتها على بيروت الغربية، وتم سحب سلاحها في لعبة استهدفت سلاح المسلمين فقط كان لا بد أن يأتي الدور على مدينة طرابلس المعقل الثاني لأهل السنة في لبنان وخاصة أن طرابلس خضعت لسيطرة القُوَى الإسلامية بعد أن تم طرد القوى اليسارية منها قبل ثلاثة أعوام، وقد شكلت هذه السيطرة الإسلامية على طرابلس قلقًا بالغًا للقوى المعادية للمسلمين خوفًا من امتداد النموذج الطرابلسي إلى المناطق الإسلامية الأخرى وبحيث يشكل هذا الامتداد خطرًا على الهيمنة المسيحية في لبنان خاصة وعلى خارطة المنطقة بشكل عام.. ومن هنا فإن قرار ضرب طرابلس كان أمرًا لا بد منه لإغلاق الملف اللبناني بعيدًا عن مصالح المسلمين، وبعد ضرب طرابلس فإننا نتوقع أن يتقدم أمين الجميل بطلب رسمي لانتشار القوات السورية في لبنان مُنهيًا بذلك اللعبة المكشوفة...
- ضرب طرابلس كان مقدمة النهاية لإغلاق الملف اللبناني