العنوان الأسباب الجوهرية وراء أزمة الدولار الأمريكي
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 31-أغسطس-1971
مشاهدات 20
نشر في العدد 75
نشر في الصفحة 20
الثلاثاء 31-أغسطس-1971
الأسباب الجوهرية وراء أزمة الدولار الأمريكي
كثيرون يحاولون التعمق في دراسة الأوضاع الاقتصادية العالمية بعد إعلان الرئيس الأمريكي عن إجراءاته الاقتصادية الأخيرة.. والمسألة لا تحتاج إلى تعمق أو دراسة لاكتشاف أسباب الأزمة الأخيرة، فالمشكلة كلها تتلخص في عبارة واحدة وهي «أن قيمة الدولار أصبحت أكبر من حقيقتها بالنسبة للعملات الأخرى»، وظلت الولايات المتحدة تتجاهل هذه الحقيقة سنوات طويلة، حتى يوم الأحد الماضي عندما أعلن الرئيس الأمريكي توقف أمريكا عن تحويل الدولار إلى ذهب.. وهذا التجاهل من جانب الولايات المتحدة يعني أن على الدول الأخرى أن تحدد سعر الصرف الذي تراه بالنسبة للدولار، لأنها مصممة على عدم تغيير سعر الدولار إزاء الاختلال الذي أصاب قيمته.. فلماذا ارتفعت قيمة الدولار عن قيمته الحقيقية؟ وما هو العلاج لهذه الحالة؟ هل هو التجاهل أم تغيير سعر العملة بما يعادل قيمتها بالنسبة للعملات الأخرى مع واقع السوق؟
أولًا: ارتفعت قيمة الدولار عن قيمته الحقيقية، بسبب العجز المزمن في ميزان المدفوعات الأمريكي، وهذا معناه أن الولايات المتحدة تدفع أكثر مما تأخذ، أي أن وارداتها أكثر من صادراتها، ونتج عن ذلك أن اليابان لديها فائض ضخم في ميزان مدفوعاتها مع أمريكا أي أن الين أصبح أقوى من الدولار، أو بالعكس أصبحت قيمة الدولار بالنسبة للين أعلى من قيمتها الحقيقية.
السؤال الطبيعي هنا هو.. لماذا حدث العجز في میزان مدفوعات أقوى اقتصاد في العالم يصل ناتجه القومي الإجمالي إلى حوالي ۱۰۰۰ بليون دولار سنويًا؟
أهم أسباب هذا العجز هو الحرب الفيتنامية التي تورطت فيها أمريكا لسنوات طويلة الآن، والنفقات الباهظة التي تحملتها أمريكا وحدها بالإضافة إلى مساعداتها لمساندة الحكم في سايغون، وثانيًا: التزامات أمريكا العسكرية حول العالم وقيامها بمساندة أنظمة معينة في القارات الأربع، جعل برامج المساعدات الاقتصادية والعسكرية لهذه الدول يصل إلى بلايين الدولارات سنويًا، ومن المفارقات العجيبة أن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال، يُخصَّص للإنفاق على القوات الأمريكية المرابطة في أوروبا للدفاع عنها، في نفس الوقت الذي تشن فيه الدول الأوروبية الحملات الاقتصادية لزعزعة موقف الدولار، والسبب الثالث هو اتباع أمريكا مبدأ حرية التجارة، الأمر الذي جعل البضائع اليابانية والألمانية تتدفق على الأسواق الأمريكية، وتنافس البضائع الأمريكية في عقر دارها، وذلك لعدم فرض أمريكا أي نوع من الجمارك على السلع الواردة من هذه الدول.
هذه الأسباب الثلاثة كان من شأنها نقص رصيد الذهب لدى الولايات المتحدة، مما جعلها غير قادرة في السنوات الأخيرة على تحويل الدولار إلى ذهب عند الطلب، وهذا التزام تعهدت به أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية عند إنشاء صندوق النقد الدولي عام ١٩٤٥.
فقد تعهدت أمريكا بتحويل الدولارات إلى ذهب بنسبة ٣٥ دولارًا للأوقية.
فما هي أهمية هذا التعهد؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نرجع إلى عام ١٩٤٤، عندما اجتمع وزراء مالية الدول الغربية في بريتون وودز لإنشاء صندوق النقد الدولي، وقد سميت الاتفاقية التي تمخض هذا الاجتماع باسمه «اتفاقية بريتون وودز» وحجر الزاوية في هذه الاتفاقية هو ضمان استقرار النظام النقدي العالمي والتجارة الدولية، وذلك بأن يكون الدولار هو العملة الوحيدة التي تتخذ مقياسًا لتحديد أسعار تبادل عملات الدول، ويكون الدولار بدوره هو العملة الوحيدة التي ترتبط بالذهب مباشرة، أي أن الدولار هو الوحيد الذي يقبل التحويل إلى ذهب، وطالما أن العملات الأخرى غير قابلة للتحويل إلى الذهب، وبما أن الدولار هو العملة الرئيسية في التجارة الدولية، فقد تعهدت أمريكا بأن تقبل عند تراكم الدولارات لدى أية دولة -وبناءً على طلب الدولة المذكورة- أن تحول أوتوماتيكيًا كل ٣٥ دولارًا مقابل أوقية من الذهب، وهذا بالطبع وضع الدولار في مكانة تتناسب مع مكانة أمريكا السياسية، والتي برزت بعد الحرب كأقوى دولة في العالم اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وكانت أوروبا وقتها بلادًا أرهقتها الحرب وخربت النازية اقتصادياتها، فلم يكن هناك مجال للمنافسة بل كان القبول والإذعان.. خاصة أن أمريكا قد رصدت ملايين الدولارات لإنعاش أوروبا اقتصاديًا بما يعرف بمشروع مارشال.. ولكن بدأت الأمور تتغير في بداية الخمسينات وحققت كل من اليابان وألمانيا بالذات، أو هما الدولتان المهزومتان في الحرب قفزة اقتصادية خارقة، جعلتهما بين أكبر خمس دول اقتصادية في العالم، ونافست منتجاتهما البضائع الأمريكية في أرجاء المعمورة، حتى بدأ الكونغرس الأمريكي يضج من هذه المنافسة، ويطالب بفرض الحماية الجمركية ضد البضائع الألمانية واليابانية.
وإعلان الرئيس نيكسون في الأسبوع الماضي بتوقف تحويل الدولار إلى ذهب، إنما يؤكد عجز الدولار عن القيام بدور العملة الرئيسية في التجارة الدولية.. وليس من قبيل المصادفة أن يعلن الرئيس في نفس اليوم فرض ضريبة جمركية على الواردات.
وللإجابة على السؤال الذي طرحناه من قبل: ما هو العلاج إذا ارتفع سعر عملة عن قيمتها الحقيقية؟
من الناحية الاقتصادية البحتة يجب على هذه الدولة أن تخفض من سعر عملتها، حتى تقل الواردات، لأن أسعارها سترتفع بالنسبة للمستهلك المحلي وتزيد كمية الصادرات، لأن أسعارها ستصبح بعد تخفيض العملة أقل بالنسبة للمستهلك الخارجي، فتزداد قدرتها التنافسية، وهذا من شأنه أن يعيد التوازن إلى میزان المدفوعات الذي اختل نتيجة زيادة الواردات وقلة الصادرات.. ومن شأنه أيضًا أن يوقف تدفق عملة هذا البلد إلى الخارج واستنزاف رصيدها من الذهب.
ولكن السلطات المالية لا تستطيع أن تتخذ هذا القرار وحدها.. إذ نصت اتفاقية بريتون وودز على أمر تخفيض قيمة العملة من اختصاص صندوق النقد الدولي، بعد اقتناعه بأن العجز في ميزان المدفوعات عجز أساسي لا يعالج سوى بتخفيض قيمة العملة المذكورة، ولا يجوز للسلطات النقدية في الدول الأعضاء تغير قيمة عملتها أكثر من 1% زيادةً أو نقصًا، أما زيادة عن ذلك فلا بد من موافقة سلطات الصندوق.
ونظرًا للعجز المزمن في ميزان المدفوعات الأمريكي والذي تعاني منه الولايات المتحدة منذ سنوات، كان لابد أن تخفض قيمة الدولار منذ زمن طويل مثلما حدث مع الإسترليني في عام ١٩٦٧، حينما خفضت بنسبة 14,3%.. ولكن أمريكا -لاعتبارات سياسية- لم تقـم بهذه الخطوة، حتى كان تقرير السناتور روس الذي حث فيه الحكومة على تخفيض قيمة الدولار في أوائل هذا الشهر، وكان هو السبب في تفجير الأزمة الحالية فازدادت المضاربات على الدولار في أسواق العملة، وبدأ الناس يتخلصون مما في حوزتهم منه، حتى انخفضت قيمته في الأسواق عن قيمته الرسمية.
وأمام إصرار أمريكا وعنادها في عدم تخفيض قيمة الدولار، وأمام إصرار اليابان وباقي الدول الأوروبية في عدم رفع قيمة عملاتها، اقترحت فرنسا إيجاد نظامين لتحديد أسعار العملات.. السعر الرسمي وهو الذي يحدده صندوق النقد الدولي، وسعر آخر تحدده قوى السوق في العرض والطلب، وهو ما يطلق عليه اصطلاح «التعويم» وسيبقى الاقتراح الفرنسـي ساريًا حتى يجتمع محافظو صندوق النقد الدولي لوضـع نظام جديد بدلًا من النظـام الذي نصت عليه اتفاقية بريتون وودز.
ما زالت الإجراءات التي اتخذها الرئيس نيكسون لحماية الدولار مدار تعليقات الصحف العالمية واهتمامها، وقد نشرت صحيفة «الديلي إكسبرس» البريطانية هذا الرسم الكاريكاتوري المعبر تحت عنوان «هيروشيما تنتقم»، والمقصود أن اليابان أو المدينة التي ضربها الأمريكيون بالقنبلة الذرية، قد انتقمت ومزقت الدولار والاقتصاد الأمريكي.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل