العنوان الأفكار المقبورة
الكاتب محمد فتحي النادي
تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
مشاهدات 15
نشر في العدد 2147
نشر في الصفحة 56
الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
- التاريخ
مليء بالكثير من الأمثلة لأفكار سادت فترة من الزمن ثم طويت وصارت أثرًا بعد عين.
- خلفاء
كبار من بني العباس تبنوا منهج المعتزلة وأجبروا الناس على اتباعه ثم دار الزمان
وذهبت فكرتهم.
- ابن
تيمية حورب لمخالفته ما كان مستقرًا عند الساسة والعلماء من أفكار الأشاعرة ثم
بعثت أفكاره بعد مئات السنين.
- «ميكافيللي»
نصح الأمير بالقضاء على معارضيه واقتلاعهم من الجذور فلا تقوم لهم قائمة أبدًا
وبذلك يأمن انتقامهم.
في
دورة الحياة يأتي على الناس عصور تسود فيها فكرة من الأفكار ورأي من الآراء، ويكون
هناك من العلماء والساسة وعلية القوم وعامتهم من يؤمن بها ويعتنقها.
لا
يرون فيها عيبًا ولا بأسًا، ويرون فيها الكمال، ويحاولون فرضها على الناس فرضًا
ويجعلونها منهج حياة.
والتاريخ
مليء بالكثير من الأمثلة على أفكار وآراء سادت وحكمت فترة من الزمن طالت أم قصرت،
ثم ما لبثت أن تجاوزها الناس إلى غيرها من الأفكار والآراء، ثم طواها التاريخ،
وصارت أثرًا بعد عين.
ومثال
على ذلك منهج المعتزلة الذي اقتنع به خلفاء كبار من بني العباس كالمأمون، والمعتصم،
والواثق، الذين امتحنوا الأمة كلها سنوات عديدة ليجبروها على اتباع ما آمنوا به في
مسألة خلق القرآن؛ فقد كتب المأمون إلى نائبه على العراق إسحاق بن إبراهيم الخزاعي
كتابًا يمتحن العلماء، يقول فيه: «وقد عرفنا أن الجمهور الأعظم والسواد من حشو
الرعية وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، أهل جهالة وعمى عن أن يعرفوا الله
كنه معرفته ويقدروه حق قدره، ويفرقوا بينه وبين خلقه فساووا بين الله وبين خلقه،
وأطبقوا على أن القرآن قديم، لم يخترعه الله».
فمال
قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فرأى أمير المؤمنين أنهم
شر الأمة ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه ولم يعرف الله
حق معرفته.
فاجمع
القضاة، وامتحنهم، فيما يقولون، وأعلمهم أني غير مستعين في عمل، ولا واثق بمن لا
يوثق بدينه، فإن وافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في
القرآن، ورد شهادة من لم يقر أنه مخلوق.
وكتب
المأمون أيضًا في أشخاص سبعة: محمد بن سعد، وابن معين، وأبي خيثمة وأبي مسلم
المستملي، وإسماعيل بن داود وأحمد الدورقي، فامتحنوا فأجابوا.
قال
ابن معين: «جبنا خوفًا من السيف» (1).[1]
ثم
دار الزمان دورته، وذهبت الفكرة والفتنة، وما عاد يعرفها أحد إلا من يدرسها بقاعات
الدرس في تاريخ الفرق والمذاهب.
ونسي
التاريخ رؤوس الفتنة أو حط من شأنهم، وأعلى من قيمة من ثبت في الفتنة؛ فأصبح
القاضي ابن أبي دؤاد في مزبلة التاريخ، والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة.
وأصبح
كثير من أفكارهم كنفي الشفاعة وإنكار عذاب القبر، والحكم بخلود مرتكب الكبيرة في
النار من الأفكار المقبورة.
واستقرت
العقائد في غالب الأمة على إثبات الشفاعة، وعذاب القبر في الحياة البرزخية، وعدم
خلود العاصي في النار.
وتظل
هذه الأفكار المقبورة حبيسة ومدفونة في كتب أصحابها الذين عرضوا تلك الأفكار
وشرحوها وجادلوا عنها، أو في كتب مخالفيهم الذين ردوا عليهم وفندوا آراءهم
وأفكارهم.
لكن
يأتي البعض وينبش في تلك الأفكار، ويحاول بعثها من جديد، وقد ينجح ويثير بلبلة،
وقد يفشل فتظل كما هي مقبورة.
فمذهب
اللذة والمتعة كان ينادي به «أبيقور» اليوناني قبل الميلاد، ثم ظهر من جديد في
الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي على يد الفيلسوفين الإنجليزيين «جيرمي بنتام»،
و«جون ستيوارت ميل».
وهذا
المذهب مذهب غير أخلاقي فلسفي «يرى أن اللذة هي الشيء الخير الوحيد في الوجود،
واللذة إما أن تكون جسمية وإما أن تكون عقلية، وإذا كانت آلام العقل أقسى من آلام
البدن، فإن الإنسان يجب أن يحيا حياة فاضلة حتى يستشعر اللذة؛ لأن رجحان كفة اللذة
التي هي مبعث السعادة، يعني صيرورة حياة الإنسان مصدرًا للمزيد من اللذة» (2).[2]
بين
ابن تيمية وميكافيللي
وعلى
الجانب الآخر، هناك أفكار في أول نشأتها وظهورها لا يراد لها الذيوع والانتشار،
ويتم محاربتها بشتى الوسائل، بدءًا من محاربة صاحبها وأتباعه، إلى حرق كتبها
ومنعها من النشر.
فهذه
أفكار وآراء يراد لها أن تكون أفكارًا مقبورة.
لكنها
بعد فترة ورغم الحصار والمحاربة والتنكيل لا تعدم من يقبلها ويؤمن بها ويعمل على
نشرها في الآفاق.
وأشهر
مثالين في وجهة نظري أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي تمت محاربته
لمخالفته ما كان مستقرًا عند الساسة والعلماء من أفكار السادة الأشاعرة رضي الله
عنهم.
حتى إنه
قد «نودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دَمهُ وَمَاله خُصُوصًا الحنابلة،
فنودي بذلك، وقرئ المرسوم، وقرأها ابن الشهاب مَحْمُود في الجامع، ثمَّ جمعوا
الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي» (3).[3]
ومات
ابن تيمية في الحبس، ورغم ذلك خرجت الجموع الغفيرة لتشييعه و«تزايد الجمع إلى أن
ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلي عليه على الرؤوس
والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب
والترحم عليه والثناء والدعاء له، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا
من هو عاجز عن الحضور» (4).
ثم
بعد قرون من موته جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي وسار على نهجه، واعتنى بكتب
ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اعتناءً بالغًا يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل
الشيخ: «أكب على مطالعة مؤلفات شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ومؤلفات
تلميذه محمد بن قيم الجوزية، فازداد بهما علمًا وتحقيقًا وعرفانًا وقد كتب بخط يده
كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لا يزال بعضها موجودًا بالمتحف البريطاني
بلندن» (5).[4]
ثم
بعد أكثر من مائة عام جاء الملك عبد العزيز آل سعود وأبناؤه من بعده فنشروا كتب
ابن تيمية، وأنفقوا الأموال الطائلة على طباعتها ، فصارت أفكار ابن تيمية لها سطوة
على غيرها من الأفكار.
والمثال
الآخر أفكار «ميكافيللي» التي أودعها كتابه «الأمير»، وأشهرها فكرته «الغاية تبرر الوسيلة»
التي أصبحت عماد السياسة الغربية والطغاة منذ عصور النهضة، رغم المحاربة الشديدة
لها في القرن السادس عشر الميلادي.
وقد «دافع
ميكافيللي في كتابه عن نهجه شارحًا بالتفصيل المكثف العميق أساليب سيطرة الحكام
على الشعوب؛ حيث استنتج أن على الأمير ألا يعبأ بأن يوصف بالشدة ما دامت هذه الشدة
من أجل الحفاظ على مواطنيه وولائهم له؛ فالحريات هنا تعتبر مسألة فردية صغيرة لا
مانع من انتهاكها إذا ما أردنا الحفاظ على وحدة وتماسك البلاد، فمن يصبح حاكمًا
لمدينة حرة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي عليه؛ لأنها ستجد دائمًا الدافع للتمرد باسم
الحرية وباسم أحوالها القديمة.
مكيافيللي
لا يتصور الأمير كرجل لديه مسؤوليات كثيرة، بل مسؤوليته الوحيدة هي ضمان استقرار
الدولة التي يحكمها فينبغي ألّا تكون له غاية أو فكرة سوى الحرب وطرق تنظيمها.
نصح
ميكافيللي الأمير بالقضاء على معارضيه واقتلاعهم من الجذور فلا تقوم لهم قائمة أبدًا،
وبذلك يأمن انتقامهم ويجعلهم درسًا عمليًا للعامة.
المكر
بالنسبة لميكافيللي يجب أن يكون أسلوب حياة معجون في كل شيء يفعله الأمير يشعره
بالمتعة عندما يخدع العامة ويُشعره بالمتعة المضاعفة عندما يخدع المخادعين» (٦).[5]
والخلاصة:
أن المعتزلة
مع أفكارهم دخلوا مقبرة الأفكار.
وابن
تيمية، وميكافيللي مع أفكارهما خرجوا من مقبرة الأفكار.
وما
زالت عجلة الأفكار دائرة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل