العنوان الاستمرار والابتكار من مقومات النجاح في إعداد الداعية
الكاتب علي بن عمر بادحدح
تاريخ النشر الثلاثاء 28-يناير-1997
مشاهدات 21
نشر في العدد 1236
نشر في الصفحة 58

الثلاثاء 28-يناير-1997
المجتمع التربوي
إن العمل المنقطع يتبدد أثره، والعمل المتكرر يورث الملل ويفقد الحماس، ثم إن توقف الداعية وعدم استمراريته في دعوته دليل خلل في فهمه، أو ضعف في عزمه، وتكراره وعدم ابتكاره يشير إلى قلة حيلته وضعف بصيرته، وما هكذا يكون الداعية، بل الداعية نشاط متدفق، وتجديد متألق وعمل لا يكل وتفكير لا يمل.
والدعاة لهم في هذا الباب مثل عظيم جدًا في قصة نوح عليه السلام، حيث لبث في قومه داعيًا «ألف سنة إلا خمسين عامًا»، وكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ (سورة نوح: 5: 9) رغم امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة ولا ضعفت همته في تبليغها، ولا ضعفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها، فانظر إلى استمراريته في الدعوة رغم شدة الإعراض والعناد، لم يدفعه ذلك الإعراض إلى التوقف، ولا لممارسة الدعوة بصورة عادية لا روح فيها، بل على العكس دفعه الإعراض ليواصل المحاولة مع تنويع الأساليب وابتكار طرق جديدة لتبليغ الدعوة، وتزيده حماسة على «جعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنه فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار ومن أوقات الهدوء وراحة البال وهي أوقات الليل وتوخي ما يظنه أوغل إلى قلوبهم من صفات الدعوة، فجهر حيث يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة، وأسر للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته».
«التحرير والتنوير 29/ 194»، ولنا في قصة يوسف عليه السلام لما دخل السجن مظلومًا؛ حيث انتهز الفرصة ومارس الدعوة.
دوام العمل:
والاستمرارية خير كما قال عليه الصلاة والسلام: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» قال المناوي: أدومها: أي أكثرها ثوابًا، وأكثرها تتابعًا ومواظبة، وذكر منافع العمل الدائم فقال: لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق، ولأن تارك العمل بعد الشروع كالمعروض بعد الوصل ثم قال: وفيه فضيلة الدوام على العمل، ولقد خوطب عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (سورة الحجر: 99)، فظل يدعو إلى الله ويبلغ رسالة الله حتى وهو على فراش الموت يوصي أمته كما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
التنويع والابتكار في الدعوة:
وبالنسبة إلى التنويع والابتكار، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض، وغيره، كما رغب وبشر، ورهب وأنذر ودعا في كل آن، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعال والصحابة الكرام من الخلفاء الراشدين طبقوا قاعدة الاستمرار والابتكار ونكتفي بالإشارة إلى بعض ذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلن في كلمته العظيمة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنها استمرارية الدعوة وعدم ارتباطها بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي دعوة لله مستمرة مدى الحياة، ثم طبق هذا عمليًا فأنفذ جيش أسامة وقاتل المرتدين بأحد عشر جيشًا، ثم بعث الجيوش إلى الفرس والروم، كما أنه أمر بجمع القرآن وخالفه الصحابة أول الأمر، ثم أجمعوا على رأيه لما فيه من مصلحة الأمة.
وعمر رضي الله عنه أتم فتوح الشام والعراق، ثم فتح مصر وبيت المقدس، وفي شأن الابتكار والاجتهاد ورعاية مصالح الأمة ومنافع الدعوة كانت له آثار عظيمة فقد دون الدواوين مثل ديوان الجند، وديوان العطاء، وديوان الأعمال، وديوان الإنشاء، وفي مجال الاجتهاد في المحافظة على تماسك الأسرة والمجتمع أمضى طلاق الثلاث ردعًا للمتساهلين، وفي مجال التشجيع على التعليم قرر الجوائز للمشتغلين بحفظ القرآن الكريم، كما قام بجعل أرض السواد وقفًا لجميع المسلمين، فكان لذلك أثره في إنهاء نظام الطبقية والإقطاع، كما أدى إلى دخول أهل تلك البلاد في الإسلام، وقطع الطريق على عودة جيوش الروم والفرس وإضافة إلى إيجاد موارد مالية لتأمين الثغور وتجهيز الجيوش.
حاجتنا للاستمرارية والابتكار:
وفي واقعنا المعاصر تزداد الحاجة إلى الاستمرارية والابتكار ولا سيما مع كثرة العصاة والجناة من المسلمين إضافة إلى تطور أساليب التبليغ ووسائل الإعلام، بما فيها من ترغيب وتشويق وتجديد وتنويع استغله أعداء الإسلام لبث الأفكار الشاذة، وغرس السلوكيات المنحرفة، ولا ينبغي أن تبقى هذه الوسائل حكرًا على المحاربين للإسلام، يعرضون فيها بضاعتهم، في قوالب براقة ويبقى الدعاة جامدين لا ينشطون ولا يجددون بل على الدعاة أن يبلغوا الناس ما يجب عليهم في أمور دينهم ودنياهم من كل الطرق كطريق الإذاعة والتليفزيون والصحافة وطريق الخطابة في المجتمعات وفي الحفلات المناسبة، ومن طريق التأليف، ومن كل طريق يمكن منه تبليغ شرع الله» «فتاوي ابن باز 5/18».
وهناك الكثير من الوسائل الإيضاحية التي يمكن الإفادة منها، إضافة إلى وجود قنوات تأثير واسعة جاءت ضمن أنماط الحياة المعاصرة كالنقابات المهنية والمؤسسات الاجتماعية وغيرها مما لا بد للدعاة أن يحسنوا التعامل معها والاستفادة منها، وكل وسيلة مؤثرة ليس فيها ما يخالف الشرع أو ما يعارض مصلحة الدعوة فالأخذ بها استمرارية وتوسيع لنشاط الدعوة مع ما فيه من التنويع الذي يزيد به الإقبال على الدعوة والتأثر بها.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالأسس النفسية للتأثير الدعوي (2) الارتبـاط بيـن العاطفـة والسلوك
نشر في العدد 2182
21
الثلاثاء 01-أغسطس-2023


