; رياض المؤمنين - اجلس بنا نؤمن ساعة | مجلة المجتمع

العنوان رياض المؤمنين - اجلس بنا نؤمن ساعة

الكاتب محمد أحمد

تاريخ النشر الثلاثاء 23-مايو-1972

مشاهدات 20

نشر في 101

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 23-مايو-1972

رياض المؤمنين

اجلس بنا نؤمن ساعة

يكتبها: محمد أحمد

منذ ديسمبر ۱۹۷۱ -أي منذ ٦ شهور تقريبًا- اقترح بعض الأخوة الفضلاء إضافة باب جديد في «المجتمع» يقدم -في الأساس- زادًا للدعاة.. والعاملين للإسلام.

ووافق هذا الاقتراح البناء قناعة عميقة لدى «المجتمع» بضرورة إيجاد هذه الزاوية.. ذلك أن ضجيج الحياة ومشاغل الأهل والولد.. والانهماك في العمل -حتى لو كان إسلاميًا.. والاهتمام بالمعارك التي يحاول فيها خصوم الإسلام النيل من هذا الدين.. كل هذه العوامل تؤثر في صفاء العاملين للإسلام.. وتجعل إشراقهم الروحي يحتاج إلى مزيد من النضارة والجلاء والتوهج.. ومن هنا كان من الضروري أن يطالع العاملون للإسلام -باستمرار- ما يعين على بلوغ هذه الغاية.

بيد أن هذا النوع من الكتابات يحتاج كذلك إلى روية.. وإلى وقت يستطيع الكاتب فيه تقديم هذا اللون من المعرفة فلما وجدت «المجتمع» الرجل المناسب، الأستاذ الكريم: محمد أحمد، عهدت إليه بهذه المهمة.. وأفردت ابتداء من هذا العدد ۱۰۱ - هذا الباب؛ لكي يكون زادًا للدعاة.. وريًّا روحيًّا لهم في طريقهم إلى الله.. وسط زحام الحياة.. ومشكلاتها.. وضجيجها.

﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا (الأنعام: 122).

بين يدي هذه المواعظ في بيان غايتها ومنهجها

بسم الله الرحمن الرحيم

لن ينفك الداعية المؤمن بين جذبين: جذب إيمانه، ونيته، وهمته، ووعيه، وشعوره بمسؤوليته، فهو منه في عمل صالح، أو عزمه خير.

 لكن ما يفتأ الشيطان يجذب من الجهة الأخرى، ويزين الفتور، وحب الدنيا، فهو من ذلك أحيانًا في غفلة، وكسل وطول أمل، وتراخ عن تعلم ما يجهل.

وبسبب هذا التردد بين الجذبين، أوجب المؤمنون على أنفسهم جلسات تفكر وتأمل وتناصح، يتفقدون النفس فيها أن يطرأ عليها كبر أو بطر، والقلب أن يعتوره ميل، والعلم والإيمان أن يتلبسا بإفراط يزيد بدعة، أو تفريط يهمل إرشادًا، وترجم معاذ بن جبل -رضي الله عنه- هذا الإحساس بكلمة غدت من دستور أجيال المؤمنين المتلاحقة؛ فقال لصاحبه وهو يذكره: (اجلس بنا نؤمن ساعة) (۱) فأخذناها عنه، فكانت هذه المواعظ، التي سيكون لكل عدد بعد الآن منها نصيب، وندعو معها الداعية أن يجلس مع كل موعظة ساعة، يؤمن، ويراجع نفسه، وعلمه، وهمته.

إننا لا نخاطب في هـذه المواعظ إلا المصلي المعتـز بدينه، دون الغافل، فضلًا عن المنحرف، إذ إن العالم الإسلامي اليوم لا يحتاج لحل مشكلته إلى انتقال جمهـور جديد من المنحرفين أو الغافلين إلى التمسك بالإسلام، وإنما يحتاج توعية المتمسكين بـه فحسب، وبعث هممهم، وتعريفهم طريق العمل، وما أمر أهل الغفلة والشهـوة والانحراف إلا من الأمـور البسيطة من بعد ما يستلـم قياد الأمة رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.

ولهذا، فان هذه المواعظ لا تحتمل كلامًا فكريًّا في الموازنة بين الإسلام والأديان الأخرى والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، وإنما تخاطب مسلمًا صادق الإيمان، يتألم لواقع المسلمين الحاضر، فتدله على طريق العمل، أو تخاطب داعية عرف طريق العمل، وانخلع عن المحاولات الفردية، وآثر العمل الجماعي مع ميامين نفروا لمقارعة الجاهلية، فهو بحاجة إلى تثبيت، ووعي لجزئيات الطريق.

فمن غفل عن هذه المقاصد أخطأ التعرف على أهمية هذه المواعظ، فإنها لم تصنف لفرح مسرور تلهيه مصالحه عن مصالح المسلمين ولا لمتوهم خدع نفسه بالانزواء والتخلي عن مجابهة طغيان الكفر، والبدع، والفساد.

 وتمثل هذه المواعظ اقتباسات من كتب الحديث، والزهد، والتاريخ، ومؤلفات ابن تيمية وابن القيـم، مع  ما يكملها من كلام قادة الدعوة في العصر الحاضر، مثـل الإمام: البنا، والسيد قطب -رحمهما الله، والأستاذ: المودودي، مع تزيينها بتعقيبات مناسبة، وأبيات من شعر الزهد والرقائق القديم، وشعر الدعوة الحديث المستل من دواوين: وليد، ومحمود دللي، والأميري، وإقبال، وأمثالهم، ولم أستعمل من الحديث إلا ما في الصحيحين، ولا أخذت من كلام القدماء إلا ما يمتاز بالوضوح والبلاغة، وأعرضت عن المشهور الذي كثر تداوله؛ كذلك لم أنقل من كلام قادة الدعوة إلا ما يكشف عن آرائهم في التجمع، ومفاصلة الجاهلية، وتربية القاعدة الصلبة والصفوة المؤمنة المختارة، وبعض جزئيات أخرى تتعلق بذلك، مقدمًا لدعاة الإسلام مادة الوعي الحقيقي الصائب، اللازم لمعركتهم مع الجاهلية، وجمعت بين كل هذه الاستلالات القديمة والحديثة، النثرية والشعرية، في هذه المواعظ، فكانت كما قال يحيى بن معاذ الزاهد: «أحسن شيء: كلام رقيق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق» «۲» وأحسبه، والله أعلم، هــو هذا الكلام الرقيق الذى استخرجته من بطون هـذه الكتب العميقة، وسنعلم كم من الرفق كانت تحمله قلوب هؤلاء الرجال الذين أهـدوا لك ثمرات تجاربهم ونتاج تأملاتهم، فخلدت كلماتهـم وسرت في الناس، معلنة عما لها من الاتصال بسند الحق، «ورب بارقة يرمي بها سلطان مسلط، أو صنـم مشهور، فتدوي حينًا، وتأتلق زمانًا، ثم تصمت وتنطفئ، وتكون كالشهاب يحور رمادًا بعد التهاب، بما كان دويها من صوت الباطل لا الحق، وائتلافها من زخرف الكذب لا الصدق، ولا ينطق بكلمة الحق الخالدة إلا عقل مدرك، وقلب سليم، إلا قائل يعتد بنفسه، ويثق برأيه، فيرسل الكلام أمثالًا سائرة وبينات في الحياة باقية» «٣» .

والاستعانة بالكلام الصحيح المقبول في كتب الزهد أمر سائغ وإن حوت هذه الكتب کلامًا آخر ترده السنة، ويأباه الفقه، فإن ابن تيمية -رحمه الله قد استشهد في مواضع من كتبه بكثير من كلام من أبان تخليطهم في مواضع أخرى، بل صرح بإمكان هذه الاستفادة الحذرة عند التعريف بالشيخ: أبي عبد الرحمن السلمي، صاحب المؤلفات الكثيرة في الزهد وتاريخ الزهاد، فقال إن «فيما جمعه فوائد كثيرة، ومنافع جليلة، وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء  كثير، ويروي أحيانًا أخبارًا ضعيفة، بل موضوعة، يعلم العلماء أنها كذب، وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وما يظن به وبأمثاله -إن شاء الله- تعمد الكذب، لكن لعـدم الحفظ والاتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية.» «٤». وصرح بمثل ذلك عند كلامه عن حلية الأولياء لأبي نعيم «٥»، وقسنا كتب غير هذين على كتبهما، ولم نهجر إلا كتب من صرح بوحدة الوجود، فإنها بدعة غليظة، بل كفر صريح.

وكذلك استعمال الشعر -وإن أهملته كتب الدعوة الحديثة بلا مبرر- فإن الشعر من سلاح المعركة، وربما قرب من الأمل البعيد، ورب شعر يرتاع منه الكلام، وقد أنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تزال الأئمة بعده تستعمله، وأذن الإمام: أحمد؛ باستعمال ما كان في الرقائق منه، وبكى له.

وقد تأتي ببعض الأشعار التي قيلت في مدح أناس من الخلفاء والقواد والكرماء؛ فنصف بها الدعاة، إذ إن ذلك مما لا يأباه العرف، ونقتدي بفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين سمع قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان المري:

 دع ذا وعد القول في هرم

 خير الكهول وسيد الحضر

في أبيات أخرى

فقال عمر: ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم «٦».

وأي اصطلاح مقبول –استعملناه، أو ورد في النقول- أغنى وكفى فالدعوة، والحركة، وحزب الله، والجماعة الإسلامية، والتجمع الحركي، وأمثال ذلك، كلها اصطلاحات لحقيقة واحدة.

والداعية، والمسلم الحركي والمؤمن، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والمحتسب، والجندي من جنود الله، في كلها غنى.

 إلا أنه وجب أن أشير إلى مخالفة السيد؛ لابن تيمية، وابن القيم في اصطلاحي «الربوبية» و «الألوهية»، فالربوبية عندهما ما اتصف به الله -سبحانه وتعالى- من الخلـق والقدرة التي يدين بهـا المشركون أيضًا فضلًا عن المسلمين، والألوهية ما اتصف به –سبحانه- من الحاكمية وإنزال الشرائع والتحليل والتحريم والانفراد بالعبادة، ولا يدين بذلك إلا مسلم كامل الإيمان، والسيد يستعمل أحد الاصطلاحين مكان الآخر، وأما المودودي فيرى في «المصطلحات الأربعة» أن في كلا الاصطلاحين شيئًا من هذين المعنيين جميعًا، والأمر أمر اصطلاح مجرد.

ومن عجب أن يجعل البعض اعتماد المؤلفين على النقول من كتب غيرهم من القدماء والمحدثين عيبًا يعيب به أسلوبهم، ويفرح بمن لا ينقل وإن كان يصوغ أفكارغيره بألفاظه الخاصة، وهذا إنما مرده البطر العلمي المجرد، فإن الكاتب لابد له من الاستفادة من مجهود غيره، فيستعير منه الالتفاتة الجميلة، والمصطلح الناجح، والتعبير البليغ، ويضيف له ما يكمله، وقد اقتبس السيد في الظلال نصف رسالة الجهاد للمودودي في مكان واحد استغرق عشرين صفحة.

وفي هذه المواعظ كان لابد مع هذه الاستعارة العرفية من أن أتواضع أمام فحول الفقهاء وقادة الدعوة، وأن أترك لهم التعبير عن نظريات الدعوة وفقه القلوب، وليس بالقليل أن آتي إلى ما تفرق من أقوالهم، فأحييه بالجمـع والتنسيق، ثم التعقيب عليه، وأدع الداعية أمام كلام من اتفقت الكلمة على توثيقه وحبه بدل وضعه أمام کلام مجهول مثلي.

وبعد.. فعن عيسى عليه السلام أنه قال: «إن قائل الحكمة وسامعها شریکان، أولاهما بها من حققها بعمله»«۷»، وإن هذه المواعظ إنما هي حكم أهديها لك؛ أيها الداعية، فحققها بعملك تكن أولى بها، فإنها إنما وضعت لمن يريد الاتعاظ، ومثلها كمثل باذر خرج، فبذر، فوقع منه شيء على ظهر الطريق، فلم يلبث أن انحط الطير عليه فاختطفه، ووقع منه شيء على حجر أملس عليه تراب يسير وندى قليل، فنبت، حتى إذا وصلت عروقه إلى الحجر لم يجد مساغًا ينفذ فيه، فيبس، ووقع منه شيء في أرض طيبة فيها شوك نابت، فنبت البذر، فلما ارتفع خنقه الشوك، فأفسده.

 ووقع منه شيء على أرض طيبة، ليست طريقًا، ولا فيها حجر أو شوك، فنبت، ونما، وصلح.

 فمثل هؤلاء أئمة الهداية الذين سننقل عنهم كمثل الباذر ومثل كلامهم كمثل البذر، فمن الرجال من يستمع الكلام بلا رغبة فلا يلبث الشيطان أن يختطفه من قلبه، ومن الرجال من يستمع، ولكن ليس في قلبه عزم، فينفسخ من قلبه، كالجذر الذي لاقى حجرًا، ومنهم من يستمع وينوي العمل فتكون له الشهوات كالشوك لذاك البذر، تخنقه فتفسده.

ومنهم من يستمع وينوي ويفهم ويصبر على العمل، فكن الأخير تفز «۸».

 وامض قدمًا، واقتحم، ولا تشترط الرفيق.

أنت نشء وكلامي شعل عل شدوي مضرم فيك حريقًا؛ ليس في قلبي إلا أن أرى قطرة فيك غدت بحرًا عميقًا لاعرى الروح هدوء ولتكن بحياة الكد والكدح خليقًا «۹».

 وإلى الحلقة الأولى في العدد القادم.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

«1» صحيح البخاري: 1/10

«۲» تاریخ بغداد: 14/209

«3» الشوارد؛ لعبد الوهاب عزام: / 3٤٠

«٤» مجموع الفتاوى: 11/42

«٥» مجموع الفتاوى: 18/71

«6» الأغاني: 10/304

«7» عيون الأخبار: 2/268

«8» الراعية؛ للمحاسبي: / 2 بتصرف

«9» ديوان رسالة المشرق؛ لإقبال: / ۱۰۳        

الرابط المختصر :