; الاقتصاد الوضعي | مجلة المجتمع

العنوان الاقتصاد الوضعي

الكاتب د. عيسى عبده

تاريخ النشر الثلاثاء 28-أبريل-1970

مشاهدات 26

نشر في العدد 7

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 28-أبريل-1970

 

أقله علم وأكثره فكر والفكر يَضل ويهتدي

إن الأمر الذي ندعيه، ونتحمل المسؤولية عنه.. هو تحذير الرأي العام الإسلامي من قبول هذه المتاهات على زعم أنها من علم الاقتصاد!

 فإذا رأى من كان في مركز يسمح له بأن يرى.. أنه لا يجوز للفرد أن يتملك، ولا أن يختار الحرفة، ولا أن يناقش.. فهذه كلها أوضاع ذات اتجاه واحد، يهدف إلى التدخل في حرية الفرد وتقييدها.

ومن جملة هذا الركام يراد لنا –نحن أمة الإسلام– أن نأخذ قواعد التملك والمعاملات والسعي في طلب القوت والأمن.. على زعم فإن هذا هو «علم الاقتصاد» وإنه علم غريب عنا ومستورد مع الاستعمار.. وإن ليس في تراثنا منه شيء؟؟

في مقال سابق.. قلنا بأن الاقتصاد الوضعي (قياسا على القانون الوضعي) ينقسم إلى ستة عشر قسما... ولكل منها عنوان يدل عليه.. وهذه المفاهيم هي الأولى بالتحديد قبل غيرها. وأول شيء في المادة الاقتصادية التي وضعها المفكرون ورجال المال والحكم والسياسة.. هي الفكر، ومن ثم يكون الفكر الاقتصادي هو النواة لهذا النبت الخبيث الذي صرف الناس عن حكم الله سبحانه.. في شؤون المال.. ومن بعد هذا الفكر تتوالى المفاهيم.. ولكن قبل أن نستطرد بذكر جملة الأقسام.. نرى لزاما أن نقرر أمرين: أحدهما أن ليست لنا فيما نقول به في هذا المقال إلا الجمـع والتلخيص والتصنيف.. ثم العرض في وضوح قدر المستطاع.. فنحن مثلا إذ نقرر بأن الاقتصاد السياسي وضعي أو زمني.. بمعنى أنه منقطع عن الدين.. لا نجيء بشيء من عندنا.. بل نقرر ما قاله الأعلام من رجال الاقتصاد المعتمدين، ومن ذلك أن « إريك رول » يقول في كتابه « الفكر الاقتصادي » بأن الدين غير مسؤول عن هذه المفاهيم التي كشف عنها علماء الاقتصاد ثم طوروها وصقلوها.. فالدين ( مثلا ) لا يتكلم عن القيمة وفائض القيمة.. ولا يعرف شيئا عن المستويات العامة للأسعار والتغيرات المصاحبة حتما للظاهرات الاقتصادية.. إلى آخر ما قال.. أما غيره من الكتاب فينفي أن تكون بين الاقتصاد وبين المثل العليا وما ينبغي أن يكون، أية رابطة..

ومن المدارس القديمة نسبيا من قال بأن عوامل الطبيعة وحدها غالبة، وقوانين الاجتماع هي الحاكمة، والتوازن التلقائي مكفول بطبائع الأشياء.. فإذا انخفضت أجور العمال انحطت مستويات المعيشة في صفوفهم وقلت المقاومة فعاجلهم الموت في سن مبكرة وانخفض متوسط الأعمار وهبطت نسبة الزيادة الصافية في السكان فقل عرض اليد العاملة.. وهنا يضطر أصحاب الأعمال إلى الارتفاع بمستويات الأجور من جديــد فيعتدل الميزان.. حتى يسرف العمال في المتاع وفي الإنجاب فتعود الدورة أدراجها.. وهكذا دواليك.. ويقولون بأن هذه شؤون دنيوية لا شأن للدين بها.. وفي مواجهة هذه الأقوال ردود.. وبين الأخذ والرد في هذا الجو الفاسد السقيم قضت أمة الإسلام المعاصرة عشرات السنين تقلب النظر في هذا الفراغ.. وكأنما ملكية الثروة قهر وبطش.. لا يرتفعان إلا إذا أجبرت يد المالك على أن ترتفع عن ضحاياه.. وفي خلال هذه الحقبة الطويلة التي انقضت من القرن العشرين.. والمسلمون لا يسمعون من شؤون الاقتصاد إلا هذا البوار.. لم يرتفع صوت يقول بأن الأمر هو أمر استخلاف ومن بعده محاسبة وسؤال.. لم يرتفع صوت بهذا الحق.. لأنه من الدين.. والدين معزول عن الاقتصاد هكذا علمنا الغزاة.. فقبلنا إفكهم والضلال.. فإن كانت هذه الوقائع تسوء.. بوصفها من عناصر تاريخنا القريب ومن أسباب الوهدة التي تردت فيها الحال.. فإن ذكرها واجب لتشخيص بعض الداء.

القول إذن بإن اقتصادنا ما بقي تابعا للغرب وللشرق، هو اقتصاد منقطع الصلة بالدين.. هو أمر مستقر عند أولئك الذين ننقل عنهم في ولاء عجيب.. وما جاءت هذه المقالات برأي ولا اتهام ولا تزكية.. إن هي إلا تذكرة بحقيقة أليمة واقعة.

والأمر الثاني الذي أقدمه بين يدي أقسام الاقتصاد وجملة المفاهيم.. هو أن التسميات والعناوين التي نوردها الآن.. مستفادة من مكتبة الاقتصاد السياسي.. وكل منها مألوف ومشهور.. رمزا لكتاب معتمد أو عشرات أو مئات.. وقد يرمز المفهوم الذي نتحدث عنه لفصل أو جملة فصول.. فكل المفاهيم التي تتضمنها أقسام المادة الاقتصادية، إذن، متفق عليها عند المشتغلين بالعلم وبالدعاية وبكثرة اللجاج على السواء.. فحين نتكلم عن الفكر والرأي والمذهب والعقيدة إجمالا أو تفصيلا.. فإننا لا نخرج عن الإطار الذي يزعمون.. وحين نتكلم عن الرأسمالية والاشتراكية كذلك لا ننسب إلى الاقتصاد الوضعي ما هو منه بريء.. ولكن الأمر الواحد الذي ندعيه ونتحمل مسؤوليته كاملة.. هو تحذير الرأي العام الإسلامي من قبول هذه المتاهات على زعم إنها من علم الاقتصاد.. وليس هذا الذي نركز عليه بالشيء الهين..

 فقد طغت موجات التغريب والتشريق على عقول الشباب بوجه خاص.. حتى نشأ جيل ينظر إلى المهاترات من حول نزعة الفرد ونزعة الجماع وصرخة الألم.. على إنهـا « العلم » الذي فات الأولين، واخترعه الآخرون.. وكانت هذه أول المزالق القاتلة..

الرابطة بين الدين والاقتصاد

إذا ذكرنا هذا كله.. وعرفنا أن إنكار الرابطة الجامعة بين الدين والاقتصاد المعروف عندنا.. هو أمر مستقر عند من نأخذ عنهم ذلك الاقتصاد... وعرفنا إن المفاهيم التي تنقسم إليها مادة الاقتصاد الوضعي.. مألوفة عند الغربيين والشرقيين من الكتاب.. فقد تحـدد: الإطار الصحيح الذي يجمع بين الأقسام الستة عشر.. التي يقال لها ببساطة بلهاء « علم الاقتصاد » وهذه هي:

الفكر الاقتصادي وهو الإجهاد الذهني الهادف إلى تقليب النظر في شؤون المال والخدمة - ثم الرأي الاقتصادي ويبنى على الفكر حتما.. والرأي هنا هو التقدير الشخصي للموقف الأمثل في قضية مختلف عليها.. فمن الرأي أنه يجوز تملك أداة الإنتاج ومن الرأي أيضا أنه لا يجوز! وأما المفهوم الثالث فهو النظام الاقتصادي، ويقال لجملة الأوضاع ذات الاتجاه الواحد! نظام فإذا رأى من كان في مركز يسمح له بأن يرى.. إنه لا يجوز للفرد أن يتملك ولا أن يختار الحرفة ولا أن يناقش.. فهذه كلها أوضاع ذات اتجاه واحد.. يهدف إلى التدخل في حرية الفرد وتقييدها.. وقد يقال لكل من التدخل والتقييد بأنه «توجيه» ونحن الآن لا نناقش أساليب الدعاية والشعارات وإنما نضرب الأمثال ونكتفي بالإشارات..

 

الاقتصاد المسير

إذن الاقتصاد المسير والموجه والحر.. كلها نظم اقتصادية

 - ثم يجيء المفهوم الرابع وشهرته أنه سياسة اقتصادية.. والفارق بين المفهومين الثالث والرابع.. أن أحدهما وهو النظام يعالج الظاهرات الاقتصادية في حالة السكون، والآخر وهو السياسة يعالج الظاهرات ذاتها في حالة الحركة.. نظير ذلك ما عرفناه عن « الطبيعة » و« الكيمياء » في دراسة الأشياء.. فمن السياسات الاقتصادية إذن في النشاط الداخلي.. التقشف.. ومن السياسات الخارجية حماية الصناعة أو ما يقابلها من تيسير الواردات.. وحين تكتمل لفريق من « الحكماء » مجموعة وفيرة من الآراء والنظم والسياسات في مادة الاقتصاد..

فإنهم ينسبونها إلى ذواتهم ويدعون لها ويروجون.. وعلى أساسها يتسلطون ويحكمون، ومن حولهم منتفعون يجسمون لهم هذا النتاج الفكري العبقري في معبود خاص بهم يقال له « العقيدة » وهكذا نشأ بعض العقائد الاقتصادية في القرن التاسع عشر.. وكان له شأن غير مسبوق في تاريخ البشرية كلها.. بما في ذلك تلك الأدوار التي عبد الناس فيها الطواغيت والأصنام.. أما السبب في تفوق العقائد المستحدثة في القرن الماضي فيرجع إلى أن مولدها قد صادف فراغا نفسيا بالغ العمق، في وقت تقدمت فيه الكشوف عن خصائص الجوامد والطاقات

.. وإذ ظهرت العقائد الاقتصادية وكان لها حواريون ومفسرون ومعارضون فقد ذهب كل فريق منهم بطريق.. وهكذا نشأت المذاهب الاقتصادية.. وهي في جملتها مفهوم سادس يشتد من حوله الصراع.. أما الدوافع فمن جنس واحد... فهي المادية الخالصة والتنابز بالألقاب من أجل الوصول إلى المتاع والسلطان.. وإلى هنا لم يظهر للعلم أثر في هذه الجهود الشيطانية.. وإذ يصل كل فريق إلى مراكز القوة.. فإنه يفرض مذهبه على ميادين التطبيق.. وهذا هو المفهوم الثامن ونرید به مجالات النشاط الاقتصادي للإنسان وهو بصدد السعي إلى تدبير معاشه.. فالبحث في أساليب التنمية وفي مشكلات السكان وفي تقلبات العملة وفي الائتمان الداخلي والخارجي والصيرفة... هذه كلها ميادين عملية تجري فيها الأحداث.. ومن ثم هي الوعاء لمادة الاقتصاد..

 ولقد مررنا بالعلم مرورا سريعا واعتبرناه القسم السابع من جملة الأقسام.. ويقع في نطاق علم الاقتصاد.. كل حقيقة اقتصادية لا يختلف عليها العقلاء.. كارتباط الأثمان بكميات النقود وفعل العرض والطلب.. وأخيرا نجد لهذه المادة تاريخا.. وبه يتم العد تسعة أقسام.. أو نجد لكل واحد من هذه المفاهيم الثمانية تاريخا قائما بذاته.. فللفكر تاريخ وللرأي تاريخ.. وهكذا... حتى يكتمل لنا من العد ثمانية تواريخ تضاف إلى الأقسام الثمانية.. وإذا بنا نواجه ستة عشر من المفاهيم.. أكثرها فكر ورأي ونزعة وصراخ وآلام، وتقلصات بشرية تحت أسواط من العذاب..

ومن جملة هذا الركام يراد لنا نحن -أمـة الإسلام- أن نأخذ قواعد التملك والمعاملات والسعي في طلب القوت والأمن... على زعم أن هذا هو علم الاقتصاد.. وأنه علم غريب عنا مستورد مع الاستعمار، وأن ليس فـي تراثنا منه شيء! ونحن ننكر هذا الضلال.. ونتابع الاقتراب من العلم الحق والقواعد الثابتة الهادية.. وما كانت، ولـــن تكون، إلا من عند الله رب العالمين.

الرابط المختصر :