العنوان الاقتصاد الوضعي في الميزان
الكاتب د. عيسى عبده
تاريخ النشر الثلاثاء 07-أبريل-1970
مشاهدات 30
نشر في العدد 4
نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 07-أبريل-1970
في هذا المقال، يتابع الكاتب عرض المادة المعروفة بالاقتصاد السياسيّ، وهي دراسة مفروضة على المجتمع الإسلاميّ، وكأنها تنزيل من التنزيل، والحق أنها فكرٌ دخيل، وغرضٌ خفي أو ظاهر، وحظها من العلم قليل. وينبه القارئ إلى ضرورة التوقُّف عن هذا التسليم الذليل للشرق والغَرْب جميعًا، بأن أيًّا منهما يصلح لهداية المجتمع الإنسانيّ في شئون المال، قال سيادته:
«إن الغرب وقد غرق في الأنانية وأزله حُبّ المتاع قد ظلم، وإنه ليوشك أن يرتد وحشًا كاسرًا، يعيد إلى مسرح الأحداث صورًا مفجعة من الهمجيَّة الأولى». هذا ما قاله الاقتصاديّ الفرنسيّ «لوبرت» في كتابه «مأساة القرن العشرين»، ونحن نقر ما ذهب إليه الكاتب، إلا في قوله: وإنه ليوشك أن يرتد وحشًا كاسرًا. فقد حدث هذا وما هو مجرد احتمال.
«لقد آن لنا أن ننظر جميعًا في هذا الاقتصاد المستورد من الغرب ومن الشرق جميعًا، نظرة محايدة متحرِّرة، تضعه حيث ينبغي أن يكون من الدراسة المقارنة، ومن العلم بما عند الناس من صوابٍ ومن أخطاء».
«وإنه لمن نكد الدنيا على الجنس البشريّ أن تراجعت الأمة الإسلاميَّة عن مكانتها من الصدارة، وأن غفلت عن تراثها، فخلا الميدان للفكر وللرأي وحدهما في ميادين، ما كان العقل فيها إلا مستهديًا بالأصول التي أوحى بها خالق الإنسان».
«ولذلك تعيَّن الحذر عند تقدير الدراسات الاقتصاديَّة المستحدثة، فما هي بثروةٍ تضاف إلى المختزن من المعرفة، وإنما هي تزاحم فيما بين النزعات الفرديَّة والنزعات الجماعيَّة، وأغلبها فلسفة بائرة أو ظالمة».
«فإذا بهؤلاء المؤسِّسين لعلم الاقتصاد: رجال أعمال يريدون تسخير النظرية العمليَّة لتبرير أساليبهم ووسائلهم إلى الثراء السريع، ورجال سياسة يريدون من وراء البحث الذي يقومون به أو يكلِّفون به غيرهم أن يخلعوا على مخازي السياسة العالميَّة مسحة ولو رقيقة من ظاهر العمل لخـير الإنسانيَّة، ورجال حكم تمرَّسوا بفنون القيادة والتوجيه، من أجل الوصول إلى نوعٍ من الاستقرار والأمن، ولو إلى حين».
في مائتي عام
- جهود متصلة، في مائتي عام مضت من يومنا هذا، وفي أكثر العصور تقدُّمًا، ثُمَّ تبوء بالفشل التام! قول عجيب، ولكنه الحق الذي تجري به أقلام الثقات من أنصار الرأسماليَّة ومن دعاة الاشتراكيَّة. هذان فريقان متنافسان «في الظاهر» وقلَّما يجتمعان على أمرٍ كليٍّ أو جزئيٍّ، إلا هذا. ونريد بالقدر المتَّفق عليه «التسليم بالعجز عن حل مشكلات الأموال». ففيم إذن هذا الصِّرَاع المتصل، إن كان رجال الاختصاص قد سلَّموا بقصور القواعد والأساليب التي صنعها الإنسان؟ والجواب في غرور الجنس البشريّ وإسرافه في الأمل، فكل جيلٍ من الكتَّاب ينقد سابقيه ويزعم أنه اهتدى إلى الصواب.
كل حزبٍ بما لديهم فرحون:
وكل من حمل أمانة البحث في توزيع الأرزاق، ينقد سابقیه ويزعم بأنه الهادي إلى تحقيق صنوفٍ من العدالة. فهذه اجتماعيَّة، وتلك اقتصاديَّة، وثالثة يُقَال لها عدالة تبادليَّة، ثُمَّ تتكشَّف الأحداث عن اتصال فصول المأساة، مأساة القرن العشرين كما أسماها بعض الكتَّاب المعاصرين وهو «لوبرت»، عند الموازنة بين التقدُّم المذهل في الكشف عن خصائص الجوامد والطاقات، ووفرة الإنتاج، وتصاعد الخبرات، كل هذا في ناحية، وأخرى يندى لها الجبين في الجوع، قال هذا الكاتب الفرنسيّ: «إن الغرب وقد غرق في الأنانية وأذله حب المتاع، قد ظلم، وأنه ليوشك أن يرتد وحشًا كاسرًا، يعيد إلى مسرح الأحداث صورًا مفجعة من الهمجيَّة الأولى». وفيما نحن بصدده من التقدير والتقويم، فإننا لن نكتفي برأي كاتبٍ أو بما ذهبت إليه مدرسة معاصرة، بل سنحرص على قدرٍ كبير من الموضوعيَّة، ونؤيد الدلالة التي تنطق بها الوقائع ببعض الآراء للمشهورين من علماء الاقتصاد، حتى يطمئن الدارس لهذه المادة والمتابع ليقظة العرب، إلى أنه قد آن لنا أن ننظر في هذا الاقتصاد المستورد من الغرب ومن الشرق جميعًا، نظرة محايدة متحرِّرة، تضعه حيث ينبغي له أن يكون، من الدراسة المقارنة ومن العلم بما عند الناس من صوابٍ ومن أخطاء، و ليست الحال كذلك الآن، فنحن بما تلبَّسنا به من الولاء السلبيّ للأغراب عنا، قد جعلنا من المذاهب الاقتصاديَّة خبزنا اليوميّ، و شعاراتنا، وما يقال له طريق أو منهاج، وما هو إلا استخذاء و تبعية لبعض أقوامٍ من الغرب أو لبعض أقوامٍ من الشرق، وكلهم طامع في أقوات شعوب غفلت عن منهاجها القويم، واستنامت لسيطرة الفكر الدخيل.
هذا الاقتصاد الوضعي!
- هذا الاقتصاد الوضعيّ، يقال له «علم» وليس فيه من العلم إلا إثارة يسيرة لا يختلف عليها الناس، فما كان العلم حديثًا يفترى، ولا كان فروضًا يصنعها الوهم ويجسمها الخيال، ولا كان العلم انفصالًا وتثويرًا للأحداث، وإنما كان العلم، وسيظل ما بقيت السماوات والأرضين، الحق الذي يصح في الفهم ويطمئن إليه القلب، سواء في ذلك ما أدركته الحواس الظاهرة وما صدقته القوى المميزة الباطنة، وإنه لمن نكد الدنيا على الجنس البشري أن تراجعت الأمة الإسلاميَّة عن مكانتها من الصدارة وأن غفلت عن تراثها، فخلا الميدان للفكر وللرَّأي وحدهما في ميادين ما كان العقل فيها إلا مستهديًا بالأصول التي أوحى بها خالق الإنسان.
قدر يسير من العلم:
هذه لفتة هامة نحو الاقتصاد الوضعيّ المشهور في بلادنا بقولهم «الاقتصاد السياسيّ»، وقد قرَّرنا بأن اليسير منه علم، وأما الوفرة من الأفكار والآراء والمذاهب فقد أحاطت الفكر البشريّ بضبابٍ من الشَكّ والخلاف والخروج من تجربةٍ إلى أخرى، واختراع أنماط من العلاقات التي تربط بعض الناس ببعض، ولذلك تعيَّن الحذر عند تقدير هذه الدراسات المستحدثة، فما هي ثروة تُضَاف إلى المختزن من المعرفة، وإنما هي تزاحم فيما بين النزعات الفرديَّة والنزعات الجماعيَّة، وأغلبها فلسفة بائرة أو ظالمة، وليس هذا التقدير من عندنا «وإن كنا نقره»، وإنما هو تلخيص وتركيز لِمَا يقول به الغرب عن الشرق، ورد الآخرين. أما البحث الموضوعيّ الذي يقرِّب المادة الاقتصاديَّة من الوزن الحق، فنوجزه في هذه الكلمات: تتألَّف هذه المادة من ستة عشر قسمًا، واحد منها فقط تكتمل له خصائص العلم، وأما الباقي فهو اجتهاد من عند الناس، دافعه وحاديه المصلحة الشخصيَّة والسلطان، ومن ثَمَّ إيقاع الظلم بالآخرين «أو استغلالهم» ما توافرت فرص لتحقيق ذلك، والترويج له والدفاع عنه. أما هذه الأقسام التي نوردها حالًا، فهي مستمدة من المفاهيم المتفق عليها والتعاريف التي وضعها المحترفون لهذا النوع من الدراسات، نقول بأنهم محترفون، وقد أحصاهم کُتَّاب مشهورون من أمثال «شارل جيد وشارل ربست» و «مارشال» و «أريك رول» و «شامبيتر» وصنوفهم.
المؤسسون الأوائل !
فإذا بهم رجال أعمال يريدون تسخير النظرية العلميَّة لتبرير أساليبهم ووسائلهم إلى الثراء السريع، ورجال سياسة يريدون من وراء البحث الذي يقومون به أو يكلفون به غيرهم، أن يخلعوا على مخازي السياسة العالميَّة مسحة ولو رقيقة من ظاهر العمل لخير الإنسانيَّة، ورجال حكم تمرَّسوا بفنون القيادة والتوجيه، من أجل الوصول إلى نوعٍ من الاستقرار والأمن، ولو إلى حين. وإن حصادًا كهذا الذي نتحدَّث عنه، لا يقدم للإنسانيَّة إلا مزيدًا من أسباب الخلاف، ولكن المجال في هذا المقال لا يسمح إلا بالإشارة السريعة، حتى نفرغ للموضوع المقصود أهلا، ولذلك نحيل إلى مكتبة الفكر والمذاهب، بل إلى مكتبة تاريخ العلم ذاته، ونضرب مثلًا واحدًا من أكنز المراجع وقارًا.
مثال من وقار العلماء.
فلنرجع مثلًا إلى سلسلة الاجتماعات الدوريَّة التي تعقدها الجمعيَّة الدوليَّة للاقتصاد السياسيّ في دور انعقادها عام ١٩٥٢ للبحث في «الدورات» التجاريَّة، ولننظر فيما أثبته المقرِّر لهذه الدورة من حقائق تنال من أساليب العلماء المعاصرين فضلًا عن المحترفين الذين تقدمت الإشارة إليهم. قال المقرِّر بأنه يأسف إذ يقرِّر بأن بعض المشتركين في الدورة بتقديم البحوث أو المناقشة العامة، قد كانوا يعلقون الرأي الذي يبدونه على تعليمات تجيء من السُّلطات في بلادهم! وتعقيبًا على هذه الإشارة المهذَّبة من كاتب يصطنع الوقار..
نقول بأن الدورات التجاريَّة ظاهرة جديرة بمتابعة البحث حقًا، وهي تتلخَّص في تعاقب الرخاء والكساد، وفي مواجهة الأزمات على مراحلٍ زمنيَّة، بعضها يتراخى إلى ثلاثين عامًا، وبعض آخر يتكرر في إطار هذه الفترات، وتكاد هذه الظاهرة أن تكون رتيبة.
وأما جهود الباحثين فيها فتهدف إلى محاولة الكشف عن أسبابها الحقيقيَّة، والتنبؤ باقترابها، والإعداد لمواجهتها، والتخفيف من حدتها إذا وقعت دون إنذار، وإلى هنا والجهد لا يفارق وقار العلم والعلماء.
أغراض وأهواء:
ولكن التحليل الذي يُوصَف بأنه علميٌّ، قد اصطبغ بالرأي حتى في أمر كهذا. وذهب الاشتراكيون إلى القول بأن العوامل الرئيسة في وقوع البلاء كانت في النظام الرأسماليّ وخصائصه، من عبودية لدافع الربح، ومن سعي إلى التحكُّم في القدر المعروض من المنتجات وفي مستويات الأسعار، وما يخالط الرأسماليَّة من احتكار، ويزيد الاشتراكيون قولهم بإن التضحية الكبرى عندئذ تفرض على الكادحين في سبيل القوت، وهم العُمَّال، وأنه من أجل ذلك يكون علاج الأزمات رهينًا بالقضاء على النظام الرأسماليّ! وفي معرض الجدل الذي يدور بين الأطراف المعنيَّة، تفصيلات لا تخلو من طرافة، ولكن المجال لا يتسع لها، وإنما هي العبرة التي نسوقها بين يدي الكلام عن أصول هذه الدراسات من كتاب الله، العبرة التي توقظنا من سباتٍ عميق، لنرى أن علماء هذا الزمان في أرفع مستويات العلم «فرضًا»، لا يزالون في خدمة السياسيّ والحاكم والزعيم والداعية إلى مذهب دون مذهب، لا عن اقتناع، ولكن لأن قوته وقوت عياله قد ارتبطا بهذا السلوك، ومن ثَمَّ لا خيار له، ولكن بقي لنا نحن أن نختار بين أن نظل سائرين في متابعة هذا الضلال، وبين أن نفيق وأن نتلفت من حولنا لعلنا نجد مصدرًا لدراسة الثروة والخدمة بخلاف هذا الزحام وذاك الدخان المبين.
لقد رأينا مثلًا واحدًا من اهتزاز علم الاقتصاد في الميزان، على أيدي العلماء الأعلام، فكيف بالمفاهيم الأخرى، وقد قلنا بأنها ستة عشر، وبأنه ليس بينها وبين «العلم» إلا شبهات؟
هذا ما نعرض له في المقال التالي إن شاء الله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الزيـادة في البيـع والزيـادة فـي الربا.. رؤيــة اقتصاديــة تحليليــة
نشر في العدد 2181
31
السبت 01-يوليو-2023

