العنوان البوسنة والهرسك: الانتخابات القادمة ومستقبل السلام في البوسنة
الكاتب د. محمد البقري
تاريخ النشر الثلاثاء 10-سبتمبر-1996
مشاهدات 16
نشر في العدد 1216
نشر في الصفحة 38
الثلاثاء 10-سبتمبر-1996
في الرابع عشر من سبتمبر القادم تشهد جمهورية البوسنة والهرسك أول انتخابات برلمانية ورئاسية منذ إعلان استقلالها عام (۱۹۹۱م) وبعد فترة من الحرب دامت أربع سنوات.. ومن المفترض أن تكون هذه الانتخابات ديمقراطية وحرة وفق ما نصت عليه اتفاقية دايتون للسلام التي اشترطت تحقيق وتوفير عدة أهداف وشروط النجاح العملية الانتخابية وتثبيت الاستقرار السلمي في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة.. ولكننا ومع اقتراب الموعد المحدد للانتخابات نجد أنفسنا نقف أمام عدة حقائق لا نستطيع تجاوزها، لأنها بشكل أو بآخر تعد انتهاكًا لاتفاقية دايتون إضافة إلى أنها تضع مستقبل السلام البوسني موضع شك وتساؤل.. ومن هذه الحقائق على سبيل المثال:
أولًا: زعيم صرب البوسنة رادوفان كاراذيتش على الرغم من تخليه الشكلي» عن رئاسة الجمهورية الصربية في البوسنة، إلا أنه مازال . الصربي - رسميًا - رئيسًا للحزب الديمقراطي الحاكم الذي يدير دفة الحكم الصربي في البوسنة.. وبالتالي فهو مازال حرًا طليقًا ولم يقدم للمحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في منطقة يوغوسلافيا السابقة بلاهاي لاتهامه بارتكاب أعمال إجرامية وتصفية عرقية للشعب البوسني المسلم.. ووجوده خارج المحاكمة - على حد قول الوسيط الأوروبي والمسئول عن تنفيذ الشق المدني لاتفاقية دايتون كارل بيلد - خطر يهدد مستقبل السلام في البوسنة ..!!..
ثانيًا: الجنرال رادكو ميلاديتش قائد القوات الصربية والمسئول المباشر عن تنفيذ أعمال العنف والقتل الجماعي وجرائم الحرب ضد المسلمين أثناء فترة المعارك والاشتباكات مازال هو الآخر طليقًا حرًا رغم ما نصت عليه اتفاقية السلام من وجوب تقديمه للمحاكمة.. بل إن الطرف الصربي أراد أن يجبر المجتمع الدولي على الاعتراف بالجنرال كقائد للقوات الصربية حينما اشترطت القيادات الصربية على قوات حفظ السلام الدولية التابعة لحلف الناتو في البوسنة ضرورة حضور الجنرال «ميلاديتش» كقائد لقوات عملية التفتيش التي طالبت بها قيادات الناتو لإحدى المخازن الصربية العسكرية التي تم اكتشافها في الثامن من شهر أغسطس الماضي، ووقتها وافقت قيادة القوات الدولية على الشرط الصربي.. وحقق الصرب مكسبًا جديدًا بهذا الاعتراف إضافة إلى مكسب آخر وهو إظهار الضعف الدولي في عدم تنفيذ قرار اعتقال الجنرال الذي كان وسط رجال قوات الناتو، ولم يستطع أحد منهم الاقتراب منه بحجة أنهم ذهبوا إلى المخزن الصربي بالأسلحة الشخصية فقط والتي لا تمكنهم من القبض على الجنرال «ميلاديتش» على الرغم من علمهم المسبق بوجوده في موقع التفتيش!!.
ثالثًا: عدم تمكن المجتمع الدولي والقائمين على تنفيذ اتفاقية دايتون من تحقيق أهم البنود المدنية والمتمثلة في تمكين اللاجئين المسلمين من العودة إلى ديارهم ومنازلهم الواقعة داخل الأراضي التي يسيطر عليها الطرفان الصربي والكرواتي، مما يعد خللًا واضحًا في التوزيع السكاني.. الأمر الذي يعكس دلالات اجتماعية عرقية تعمل على تثبيت التطهير العرقي للمسلمين في المدن والقرى التي كانوا يقيمون بها قبل اندلاع الحرب والمعارك.
شهادة المجتمع الدولي:
وقد كان المجتمع الدولي شاهدا على آخر المحاولات التي قام بها العديد من اللاجئين المسلمين في قرية «مخالاه» والتي شهدت أعمال عنف مسلح عندما تصدت الجموع الصربية بما فيها جهاز الشرطة الصربي الجموع اللاجئين المسلمين وأطلقوا عليهم النيران وأصابوا ثلاثة منهم.. وعندما أقدمت قوات الناتو على اعتقال ستة وخمسين فردًا صربيًا .. راحت الجموع الصربية تحاصر إحدى وحدات قوات حفظ السلام الدولية بالقرب من مدينة «زفورنك» وحطمت ثلاث عربات مدرعة لجهاز الشرطة الدولي التابع للأمم المتحدة... وبدلًا من أن تتدخل قوات الناتو لردع المعتدين أعلنت الإفراج عمن تم القبض عليهم من الصربيين إضافة إلى إعادة الأسلحة المصادرة، والتي استخدمت في منع اللاجئين المسلمين من العودة إلى ديارهم.. ليحقق الطرف الصربي مكسبًا جديدًا في إظهار ضعف الموقف الدولي في الالتزام بتنفيذ اتفاقية دايتون.. وقد بدا ذلك واضحًا حينما أعلن المتحدث الرسمي لقوات حلف الناتو في سراييفو أن القيادة الدولية قد قررت مطالبة الطرف الصربي بإغلاق ثلاثة مخازن عسكرية من إجمالي ستة عشر مخزنًا سريًا تم الكشف عنها بواسطة رجال حفظ السلام.. وأن الأسلحة التي عثر عليها داخل تلك المخازن لن يتم تدميرها، رغم مخالفتها للبنود العسكرية لاتفاقية السلام، وسيتم الاكتفاء بمطالبة الصرب نقلها إلى خارج المنطقة المفترض أنها منزوعة السلاح.. وهذا التصريح يعكس بوضوح رغبة قوات الناتو في المهادنة وتحسين العلاقات مع الطرف الصربي الذي أظهر لهم العين الحمراء في واقعة قرية «مخالا».
رابعًا: معارضة القيادات الصربية - وعلى رأسها «بليانا بلاشيش» التي تتولى - صرب البوسنة - لأهم بنود اتفاقية دايتون بوجود التي تتولى حاليًا رئاسة البوسنة والهرسك كدولة موحدة .. فقد أكدوا على عدم موافقتهم علي أي محاولة للعمل الموحد مع الفيدرالية الكرواتية المسلمة مصرين على تشكيل جمهوريتهم الصربية المستقلة.. وهذا الموقف يطرح بذاته سؤالًا يجب على الأوساط الدولية الإجابة عليه.. فإذا كان هذا هو الموقف الصربي فكيف سيتم التعامل مع الانتخابات البرلمانية القادمة والتي من المفترض أن ينتج عنها - إضافة إلى تشكيل البرلمانين الصربي والفيدرالي - تشكيل البرلمان البوسني الموحد، وفي حالة الإصرار الصربي على عدم المشاركة في البرلمان الموحد هل سيترك الوضع على ما هو عليه، الأمر الذي يعني تقسيم البوسنة بشكل مباشر ؟!
خامسًا: التلاعب الصربي في كشوف الناخبين وخاصة ما كشف عنه مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي من إجبار اللاجئين الصرب المقيمين في جمهورية صربيا على تسجيل أسمائهم في كشوف انتخابية لمناطق أخرى مخالفة للمناطق التي كانوا يقيمون فيها قبل الحرب.. وذلك سعيًا لفرض تأثير صربي بالمناطق المسلمة من خلال السيطرة السياسية على تلك المناطق، الأمر الذي بعد خطوة أساسية على طريق التقسيم البوسني وعلى الرغم من إعلان مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي عن تأجيل الانتخابات المحلية للعام القادم بسبب تلك المخالفات، إلا أن قرار التأجيل لم يتضمن الإجراءات الواجب اتخاذها لتلاشي عملية التلاعب، وإلزام الطرف الصربي بتصحيح الكشوف الانتخابية.. الأمر الذي سيكون له أثره الطبيعي على التصويت في الانتخابات البرلمانية والتي ستجرى في موعدها الرابع عشر من سبتمبر الحالي... حيث سينجح الطرف الصربي في خلق تشكيل برلماني صربي عرقي يحقق له نفس الهدف على المستوى البرلماني.. أي أن التقسيم العرقي سيكون واضحًا في التشكيل البرلماني الموحد - في حال موافقة الصرب على الانضمام إليه - ومع هذا فإن الطرف الصربي قد أعلن عدم إلزامه بقرار المؤتمر الأوروبي بتأجيل الانتخابات المحلية، وأنه تجرى الاستعدادات الخاصة بإجرائها داخل الأراضي الواقعة تحت السيطرة الصربية بغض النظر عن موقف المجتمع الدولي!!..
موقف كروات البوسنة:
والملفت للنظر بشكل يصل إلى حالة الدهشة هو موقف كروات البوسنة والمفترض أنهم الحلفاء مع المسلمين في إطار الفيدرالية الكرواتية المسلمة.. فقد أعلنوا عن انتقادهم لقرار التأجيل متهمين مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي بالانحياز والعمل الصالح الطرف المسلم.. وهذا أوضح حقيقة الموقف الكرواتي من السعي - مثله مثل الطرف الصربي - إلى تحقيق الانقسام البوسني والانضمام إلى جمهورية كرواتيا ولذا فهو يمنع ويرفض حتى الآن عودة اللاجئين المسلمين إلى المناطق التي كانوا يعيشون فيها تحت السيطرة الكرواتية قبل الحرب بهدف تحقيق تطهير عرقي على الجانب الآخر ضد المسلمين...
سادسا: على الرغم من أنه لم يتبق إلا أيامًا معدودة على إجراء الانتخابات، إلا أن الشكل الفيدرالي الكرواتي المسلم والذي من المفترض أن يخوض المعركة الانتخابية بقوائم موحدة.. لم يعلن بعد عن تشكيل هيئاته ومؤسساته.. بل لم يعلن بعد عن إعلان حل جمهورية البوسنة والهرسك الكرواتية ونقل وظائفها إلى الفيدرالية وفق ما نصت عليه العديد من الاتفاقيات.. كان آخرها في الرابع عشر من اغسطس الماضي، والتي وقعت بين الرئيسين: البوسني علي عزت بيجوفيتش والكرواتي فراينو تودجمان بحضور وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر بجنيف، والتي نصت على حل البوسنة والهرسك حتى الحادي والثلاثين من أغسطس الماضي.. ومر التاريخ، ولم يلتزم الكروات كالعادة.. وحتى لو ضغط الأمريكان والمجتمع الدولي على حكومة زغرب لحث كروات البوسنة على حل جمهوريتهم، فإن الحل سيكون حلًا شكليًا .. لأن النوايا الكرواتية الحقيقية تكمن في تقسيم البوسنة بين حكومتي بلجراد وزغرب ويبقى الطرف المسلم أقصى ما يمكن أن يحصل عليه هو حكم ذاتي داخل إقليم سراييفو.. وقد بدت النوايا الكرواتية واضحة في التظاهرة التي تم بها افتتاح الحزب الديمقراطي الكرواتي لحملته الانتخابية.. فعلى الرغم من أنها عقدت داخل الإستاد الرياضي بالعاصمة سراييفو لم يرفع بها علم بوسني واحد بل انتشرت الأعلام الكرواتية في أرجاء الإستاد بما فيها المنصة التي القى كلمته من فوقها رئيس الفيدرالية كراسمير زربك.. وتم افتتاح المهرجان بالنشيد الوطني لجمهورية كرواتيا!! .
كيفية العملية الانتخابية:
إذن كيف ستكون العملية الانتخابية في الإطار الفيدرالي في الوقت الذي يفتقد فيه الجانبان المسلم والكرواتي أبسط قواعد الترابط والعمل الموحد ؟!.. وكيف يمكن الجمع المستقبلي بين تيار مسلم يطالب ببقاء البوسنة موحدة فيما يطالب تيار كرواتي بالنقيض وتقسيم البوسنة؟! والنتائج قد تكون محسوسة من الآن في ظل رفض أوروبي واضح وشامل لأي نهضة إسلامية أو دور إسلامي في القارة الأوروبية.
وهكذا وفي إطار هذه الحقائق وفي ظلها يصر المجتمع الدولي ولجنة الاتصال الدولية للبوسنة «الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا» ، ومؤتمر الأمن والتعارف الأوروبي على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية البوسنية في موعدها المحدد في الرابع عشر من سبتمبر الحالي.. حيث إنهم جميعًا في حاجة إلى نتائج شعبية يستترون وراءها لتحقيق الهدف العام بتقسيم البوسنة والقضاء على الدولة المسلمة .. ومع هذا وفي إطار هذا السيناريو نلقي نظرة سريعة على الجانب الآخر فوق طبيعة القوى السياسية على الأرض البوسنية والتي ستخوض بقوائمها المعركة الانتخابية.
فعلى الطرف الصربي.. يكاد يكون الحزب الديمقراطي الصربي بزعامة رادوفان كاراذيتش ممثلًا للقوى السياسية الصربية.. حتى القوى المعارضة الكاراذيتش، والتي تتخذ من مدينة بنيالوكا مركزًا لها تتحرك أيضًا في ظل الحزب الذي رفع شعارات قومية صربية لا تستطيع قوى سياسية معارضتها وإلا أصبحت خائنة للشعب والمبادئ الصربية.. وقد أشارت كل استطلاعات الرأي التي أجريت بأن التيار المتطرف بزعامة كاراذيتش وخليفته بليانا بلاشيش سيكون له نصيب الأسد في المقاعد البرلمانية الصربية بينما سيكون للقوى الأخرى المؤيدة لاتفاقية دايتون نسبة لا تتجاوز ثلث المقاعد.. وهنا لا يجب الحديث عن أن هناك قوى تعمل في إطار الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسونيتش وأخرى معادية لها .. لأن طبيعة الأمور وحقيقة المواقف اثبتت أن التيارين يعملان بتوصيات وتوجهات من حكومة بلجراد صاحبة الفكرة الأساسية بتشكيل صربيا العظمى التي تضم جميع الشعوب الصربية في المنطقة بداية من جمهورية صربيا وصولا إلى شرق سلوفانيا على الأراضي الكرواتية مرورًا بالبوسنة والهرسك.. أما فيما يتعلق بالموقع الرئاسي فإنه لم يظهر منافس حاد البليانا بلاشيش التي خلفت رادوقان کاراذيتش وهي المعروفة بمواقفها الأكثر تطرفًا ومعاداة للشعب المسلم ورفضًا قاطعًا للوحدة مع الفيدرالية الكرواتية المسلمة وعدم تسليم كاراذيتش وميلاديتش للمحاكمة أمام المحكمة الدولية والرفض لعدد من بنود اتفاقية دايتون.. الأمر الذي يمكن ببساطة استنتاج العلاقات بين القوى مستقبلًا على الأرض البوسنية واستبعاد أي احتمالات لوجود سلام مستقر بين المسلمين بشكل خاص والقوى الصربية.. خاصة لو اتحدت مستقبلًا الرؤى الصربية مع الرؤى الكرواتية على العمل بتقسيم البوسنة واقتسامها بين الطرفين.. وهذا الأمر سيطرح ذاته حينما يجلس الطرفان في شهر نوفمبر القادم للتفاوض حول مستقبل ممر بيريشكو بالبوسنة ومنطقة شرق سلوفانيا الكرواتية والواقعة حاليًا تحت السيطرة الصربية.
النسب المتوقعة للأحزاب:
أما الطرف الفيدرالي الكرواتي المسلم فيتمثل على الجانب الكرواتي، فالحزب الديمقراطي أكبر الأحزاب المسيطرة على جمهورية البوسنة والهرسك بزعامة كراسيمر زريك صاحب نظرية الانضمام والوحدة مع جمهورية كرواتيا والمرشح الرئاسة الفيدرالية. وأشارت التوقعات بفوز الحزب الكرواتي في إطار الفيدرالية بنسبة (28 إلى 30 %) من المقاعد البرلمانية.. بينما على الجانب المسلم فإن حزب العمل بزعامة الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش قد أشارت التوقعات بفوزه بنسبة (٥٢%) من المقاعد البرلمانية الفيدرالية.. وأعطت استطلاعات للحزب الجديد الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق حارس سيلاجيتش والذي يدخل المعركة الانتخابية تحت شعار البوسنة الموحدة والحفاظ على المبادئ الإسلامية بنسبة (15%)، بينما حصل فكرت عبديتش - المنشق عن الحكومة البوسنية والذي أعلن عن خوضه المعركة الانتخابية تحت اسم الحركة البوسنية الكرواتية المدعومة من جمهورية كرواتيا - على نسبة 2%.
وعلى أي حال فإن النتائج الانتخابية البرلمانية.. لن يكون لها آثارها المباشرة على استقرار الجمهورية اليوغسلافية السابقة أو دعم السلام المستقر فيها، لأن الانتخابات نفسها تعد بندًا من بنود المخطط الدولي الذي أرادوا به القضاء على الحكومة المسلمة وشعبها البوسني ..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل