العنوان الانهيار الروسي.. وثورة القوقاز
الكاتب أحمد الأديب
تاريخ النشر الثلاثاء 14-سبتمبر-1999
مشاهدات 17
نشر في العدد 1367
نشر في الصفحة 34

الثلاثاء 14-سبتمبر-1999
- الفساد يستشري في كل القطاعات حتى أصبح هو صانع القرار.. الجميع غارقون في أوحاله بدءًا من عائلة يلتسين حتى صغار الضباط والموظفين
- النفوذ اليهودي المتشابك مع ابنة يلتسين وصهره يدير دفة الفساد ويحرك خيوط الحكم.. يسقط وزارات ويهوى بوزراء
- ثروات القوقاز الضخمة وأثرياء الغرب يؤجلون الانهيار الروسي المنتظر
- أطماع غربية واضحة في المناطق الإسلامية.. وصراع روسي - أمريكي مستمر لكن الجميع يتكالبون على كبح النهضة الإسلامية الممتدة من أواسط الصين إلى جنوب شرق أوروبا مرورًا بالقوقاز
- من ثوابت التعامل الروسي والغربي مع المسألة الإسلامية: دعم الحكومات الاستبدادية داخل الجمهوريات الإسلامية وربط شريان الحياة الاقتصادي بموسكو
- فيتو دولي على القوقاز: لا استقلال اقتصاديًا.. ولا تحرر سياسيًا
- السياسة الغربية والروسية تجد نفسها مضطرة للتعامل مع معطيات قائمة.. وهي أن المنطقة ذات حضارة إسلامية تاريخًا وسكانًا
- ثورة القوقاز التحررية لم تنقطع منذ عهد الشيخ شامل حتى جوهر دوداييف.. ومعطيات الصورة في داغستان تؤكد أن هناك صحوة إسلامية لن تتوقف حتى يتم التحرير
«أن يصبح فلاديمير بوتين هو الرئيس الروسي القادم، فهذا مجرد وهم كبير في رأس بوريس يلتسين، صحيح أن بوتين يحظى بتأييد الرئيس الروسي الحالي وثقته، ولكن أصبح هذا التأييد بمثابة اللعنة، فكل من يؤيده يلتسين على المسرح السياسي في موسكو يفقد مكانته، ولا تجد سياسة يلتسين في الوقت الحاضر تأييد أكثر من 3% من السكان، وفق استطلاعات الرأي الأخيرة».
جاءت هذه العبارات على لسان فيتشيسلاف نيكونوف، أحد مشاهير علماء السياسة الروس ورئيس معهد «السياسة» للبحوث العلمية في موسكو، في أعقاب الإعلان عن تعيين بوتين مكان تشيباشين رئيسًا للوزراء في الاتحاد الروسي، الدولة التي يود رئيسها أن تكون دولة كبرى فباتت كما بات هو نفسه موضع السخرية «والاستهزاء، داخل حدود بلاده وخارجها.
الفساد المالي.. واليهود
يكاد يغيب عن الأذهان في غمرة تركيز الحديث على يلتسين وتصرفاته، أن القضية ليست قضية رجل يحكم على هواه منذ اعتلى ظهر دبابة أمام مبنى مجلس الدوما «البرلمان» معترضًا على الانقلاب العسكري الفاشل ضد جورباتشوف، بل هي قضية دولة لا تزال تملك من الأسلحة الفتاكة ومن التأثير السياسي، ما يجعل انهيارها المحتمل خطيرًا، نتيجة ما يفتحه من أبواب أمام مضاعفات إقليمية ودولية خطيرة، فأقل ما يمكن استنتاجه من سرعة التعيين والإقالة لرؤساء الحكومات والوزراء وسواهم من أصحاب المناصب القيادية، هو عجز يلتسين نفسه عن تقدير الكفاءات السياسية كما ينبغي، وعليه الرحيل إذن.. ففي مقدمة ما يفترض أن يكون في رئيس دولة يملك ما يملكه يلتسين من صلاحيات شبه قيصرية أن يكون قادرًا على حسن الاختيار.. ولكن يمكن القول إنه حتى ولو تمتع أحد رؤساء الوزراء المتعاقبين بالكفاءة اللازمة للخروج بالاتحاد الروسي من أزماته الاقتصادية والمالية فقد كان من المستحيل أن يثبت كفاءته تلك، خلال ثلاثة أشهر كما كان الآن مع شتيباشين، أو ثمانية أشهر كما كان مع بريماكوف، أو خمسة أشهر كما كان مع كيريينكو.. بينما حمل تشيرنومردين عبر خمس سنوات وثلاثة أشهر في المنصب قسطًا رئيسًا من المسؤولية عن الانهيار المالي والاقتصادي، وبقي رغم ذلك يحظى بثقة يلتسين الأكبر!
أرجح الأقوال عند الخبراء بالسياسة والأوضاع الروسية ما يؤكد أن المشكلة الأكبر في الاتحاد الروسي منذ ظهور يلتسين في السلطة حتى الآن هي مشكلة الفساد.
فكل إجراء من الإجراءات المستغربة يمكن تفسيره عند أخذ علاقته بظاهرة الفساد المستشرية في أجهزة الدولة، لا سيما الكرملين نفسه، بعين الاعتبار، فأثناء انهيار الدولة اقتصاديًا وماليًا في عهد تشيرنومردين بالذات، بدأت تتكون إلى جانب انتشار الفقر تلك الطبقة الثرية ثراءً فاحشًا في موسكو، وبدأ يظهر أصحاب المليارات وبدأت تمتلئ الحسابات المصرفية السويسرية بالأموال التابعة للأثرياء الجدد، وبدأت المصلحة الذاتية أو المطامع المالية الذاتية تسيطر على القرار الاقتصادي والسياسي بما في ذلك تعيين «الشخص المناسب في المكان المناسب».
ولكن لتحقيق أغراض المنتفعين عن طريقه وليس لتحقيق مصالح الدولة، حتى بلغ الأمر مستوى فضائح مالية على أوسع نطاق، وبما تجاوز الحدود الروسية، وهو ما يلعب اليهود الروس وعبر شبكات علاقاتهم اليهودية الدولية دورًا رئيسًا فيه، ويكفي ذكر بعض الأسماء المعروفة في هذا الميدان بقدراتها المالية ونفوذها السياسي وهي أكبر شأنا من أسماء أخرى أصبحت معروفة في موسكو باعتبارها من أركان الفساد عمومًا، مثل بافل بورودین، مدير أعمال مكتب الكرملين، وتاتيانا ديتشينكو ابنة بوريس يلتسين، وفاليري أوكولوف صهر يلتسين، فمن وراء هؤلاء وأمثالهم، وكذلك من وراء الغادين والرائحين على مناصب وزارية وقيادية عليا في الكرملين، يوجد صانعو القرار في نهاية المطاف كأصحاب المليارات من اليهود المسيطرين على الإعلام وعدد من القطاعات الصناعية كالألومنيوم والنفط.. بيريزوفيسكي وجوسينسكي وتشيرنيه وأبراهاموفيتش.. وسواهم.
كلما اقترب مسؤول كبير، أو اقتربت حكومة من الحكومات المتعاقبة، على فتح ملف الفساد، وهددت بنتائج التحقيقات أحد رموزه المتنفذين، كان مصير المسؤول ومصير الحكومة الإقالة، وأبرز الأمثلة حكومة بريماكوف دون أن يشفع لها أنها كانت أول حكومة روسية تحقق نجاحًا مبدئيًا في وقف التدهور الاقتصادي والمالي في أشد فترات الأزمة المالية الروسية الراهنة.. وكذلك وزير العدل كراشينكوف في حكومة تشيباشين، وكان الوحيد الذي فقد منصبه الوزاري إلى جانب تشيباشين، وقيل إن ذلك لعدم مشاركته في «تلفيق التهم» ضد خصوم الكرملين.
أمر آخر يزيد تشابك الفساد بالقرارات السياسية، كما يزيد الصورة تعقيدًا على مراقب مجرى الأحداث - أو بتعبير أصح مجرى عمليات الإقالة والتعيين - وهو أن الفساد لم يعد يقتصر على مجموعة واحدة استشرى فيها، وبالتالي يمكن أن تصل أجهزة الدولة يومًا ما إلى مستوى من القوة والنزاهة يكفي للكشف عنها والتخلص منها.. إنما استشرى الفساد في كل مكان، وأصبح يتحرك ويتفاعل، ويصنع القرارات على مستويات متعددة وفي حلقات متشابكة متجانسة في ميادين ومتناقضة في أخرى، وإن بقي العنصر «اليهودي» بارزًا للعيان في مختلف المجموعات الرئيسة، رغم صراعها فيما بينها إما عن تخطيط يستهدف البقاء في الساحة إذا ما أسفر الصراع عن هزيمة طرف وفوز آخر نهائيًا، أو نتيجة الجشع المادي والصراع الشخصي، وكانت المواجهات الأشد في موسكو في السنوات الماضية هي تلك الجارية بين تشویایس وبيريزوفسكي وجوزينسكي، وثلاثتهم من زعماء اليهود سياسيًا وماليًا. فإقالة السياسي اليهودي أناتولي تشوبايس في أول عام 1996م مثلًا، وهو في أوج تألقه السياسي داخل الكرملين، كانت بسبب محاولته كشف الفساد الذي يمارسه خصمه أو منافسه اليهودي بيريزوفسكي، ولكن أعيد تشوبايس إلى موقع رئيس في وزارة تشيرنومـردين بعد عام واحد وبدعم من جوزينسكي.
كذلك كان تعيين ستيباشين رئيسًا للحكومة مکان بريماكوف - كمثال آخر - أشبه بالمكافأة له على دوره كوزير للداخلية من قبل عندما أسقط أمر اعتقال بيريزوفسكي رغم الكشف عن فساده في تحقيقات النيابة العامة السويسرية، وبالمقابل تعرض سكوراتوف، النائب العام الروسي الذي وافق على إصدار أمر الاعتقال، إلى الضغوط للاستقالة، ونقل نائبه يوري تشايكا من منصبه إلى منصب أبعد عن التحقيق في الفساد. ولا يستثنى من هذه الصفقات وجولات الصراع رئيس الوزراء الجديد فلاديمير بوتين، الذي كان جاسوسًا بألمانيا في عهد المخابرات الشيوعية السوفييتية، وأصبح مساعدًا لرئيس بلدية سان بيترسبورج السابق سوتشاك، فلما خسر موقعه هناك، أتى به تشوبايس إلى الكرملين، ورفعه بورودين إلى رئاسة مكتب أعمال الكرملين، قبل أن يصل إلى رئاسة الحكومة.
لقد أصبحت موسكو حلبة صراع يدور بين عدة مجموعات استشرى الفساد فيها عن طريقها، وهي التي تمسك بزمام صناعة القرار في الكرملين وخارج نطاقه، والصورة الإجمالية للأوضاع الراهنة صورة «كاريكاتورية» رهيبة.. فقد تحول ذلك الفساد وما أفرزه من صراع على مواقع السلطة إلى مستنقع كبير بمعنى الكلمة، وأصبحت مشاركة الجميع في أوحاله سببًا في عدم القدرة على توجيه ضربة قاضية، فسائر الضريات المتبادلة مدروسة - إذا صح التعبير - فمن جهة تستهدف إضعاف الخصم أو المنافس ومن جهة أخرى يعتمد الجميع على بعضهم بعضًا، فلا ينبغي أن تصل قوة الضربة إلى إضعاف الجميع بالقضاء على أحد أركان فسادهم، أو أن تصل إلى مستوى جر صاحب الضربة نفسه وبعض أعوانه إلى السقوط مع من تصيبهم ضربته.
إن الصراع المتشابك الدائر في الساحة الروسية.. والذي امتدت الأصابع اليهودية إلى مختلف أركانه، هو ما يعرف الآن بعنوان الصراع العائلي، وباتت التشكيلات الحكومية تفسر بالرغبة في حماية ممتلكات «العائلة» والتستر على فسادها، وليس المقصود «أقرباء» يلتسين بل العائلة التي يشكل أفرادها أركان الفساد عبر تسع سنوات مضت على بداية عهده، ولا يبدو أن هذه الأركان ستسقط قبل انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2000م، وهذا بعض ما يفسر اللجوء إلى تعيين بوتين رئيسًا للحكومة جنبًا إلى جنب مع الإعلان عن تأييد يلتسين له في الترشيح لمنصب الرئاسة أيضًا، فرغم أن من سبق في رئاسة الحكومة، باستثناء بريماكوف، كانوا من «عائلة» يلتسين تلك، إلا أن درجات ولائهم متفاوتة، ويمكن أن يتجاوز أحدهم الخطوط الحمراء، بسبب طموح الشباب كما قيل عن ستيباتشين، أو ما اجتمع في يديه من أسباب القوة المالية الذاتية، كما قيل عن تشيرنومردين، بينما يوصف بوتين بأنه نموذج الخادم التابع المطيع لا يتذمر ولا يعترض، فضلًا عن أن موقعه في المخابرات السوفييتية ثم في رئاسة المخابرات الروسية يعني أن لديه من المعلومات حول مختلف المسؤولين ما يمكن استخدامه أسلحة في المعركة الدائرة.
ومن المفروغ منه عند سائر المحللين والمراقبين داخل روسيا وخارجها، أن بوتين لن يصل إلى منصب رئاسة الدولة إلا بمعجزة سياسية أكبر شأنًا من أن تصنعها حتى آلية التحكم الفاسد بالمليارات وبأجهزة الإعلام المختلفة.. ولا يعود ذلك إلى مجرد ضعفه السياسي وعدم تمتعه بأي تأييد شعبي من جانب الناخبين إنما يعود أيضًا إلى أن كل من له صلة بعائلة الفساد الحاكمة لم يعد يجد تأييدًا شعبيًا، بينما تؤكد عمليات استطلاع الرأي ارتفاع أسهم بريماكوف بشكل ملحوظ، رغم ماضيه الشيوعي، وتأييد الشيوعيين له، وهذا باعتباره خارج نطاق «عائلة يلتسين».. فضلًا عن تحالفه الأخير مع أحزاب ليبرالية، ومع لوشكوف، عمدة موسكو، اليساري المعتدل كما يقال، والأكثر تمتعًا بالتأييد الشعبي في انتخابات الرئاسة، وهذا في فترة تشهد ضعف مواقع الشيوعيين داخل المجلس النيابي بسبب اختلافاتهم وانفصال بعض الأحزاب المؤيدة لهم مثل حزب المزارعين عنهم.
ولكن مستقبل الاتحاد الروسي المعرض للانهيار الداخلي بصورة أشد مما كان مع الاتحاد السوفييتي، لن يرتبط بعملية الانتخابات النيابية آخر العام والرئاسية في العام المقبل فحسب، كذلك لا يبدو أن الأزمة المالية والاقتصادية ستمثل السبب المباشر في انهيار الدولة المحتمل، فالاتحاد الروسي لا تنقصه الطاقات الذاتية، وهو مسيطر على ثروات ضخمة من النفط الخام والغاز الطبيعي، معظم النوعيات الأفضل منها، هي تلك المتوافرة في منطقة القوقاز، كما أن الاتحاد الروسي ما زال مسيطرًا على استغلال الثروات في البلدان المجاورة التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي، وعلى وجه التحديد في وسط آسيا بعد أن خرجت عن دائرة نفوذه دول البلطيق وإلى حد لا بأس به أوكرانيا أيضًا نتيجة الدعم الغربي المكثف لها، هذا فضلًا عن دول حلف وارسو سابقًا والتي أصبح ارتباطها الاقتصادي والسياسي والأمني بالغرب ارتباطًا مباشرًا.
إن اعتماد موسكو على الخامات والثروات الذاتية من جهة وارتباط أثريائها بشبكة أثرياء الغرب من جهة أخرى، يمكن أن يساهم في إطالة فترة الأزمة المالية والاقتصادية، دون أن تجد حلًا حاسمًا يقضي على الفساد، ومن جهة أخرى دون أن تؤدي إلى انهيار كامل يقضي على الأرضية التي يتحرك الفساد عليها فينهار أيضًا.. هذا علاوة على أن استمرار الأزمة يعني واقعيًا استمرار انسياح السيطرة المالية الغربية شرقًا، اعتمادًا على القروض المباشرة وعلى صندوق النقد الدولي في وقت واحد، ومادام يحكم في الكرملين سياسيون لا يختلفون عن العهد الشيوعي إلا في حجم ثرواتهم الأكبر، وفي رداء دستوري ديمقراطي مزيف، يرتدونه ولا يمنعهم من ممارسة حكم قيصري فاسد، فلا يوجد ما يمنع تأثير القوى الخارجية على صناعة القرار في الكرملين، ليس عبر الضغوط السياسية العلنية أو التهديد بالمقاطعة أو ممارسة عدوان عسكري، كما يجري مع الدول النامية عمومًا في الوقت الحاضر، بل عن طريق تشابك علاقات مراكز القوى المادية الحاكمة من وراء ستار في الغرب نفسه، وفي الاتحاد الروسي على حد سواء.
ويستبعد احتمال أن يلعب الجيش دورًا في تغيير محتمل يمنع من الانهيار الروسي الداخلي، رغم ما يتردد عن ازدياد تذمر المتضررين فيه بسبب تأجيل تسديد الرواتب، ونقص مخصصات الصيانة والتطوير ومفعول الهزائم العسكرية في القوقاز.. لا سيما وأنه أصبح للقيادات العليا في الجيش أيضًا موقع مباشر في الشبكة المالية بكل ما تعنيه من فساد.
إن منع الانهيار الروسي الداخلي مرتبط تلقائيًا بعدة عوامل، في مقدمتها:
- الخروج من نفق الفساد.. وهذا مستبعد في المستقبل المنظور.
- الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية.. وهذا ممكن من حيث المبدأ وتوجد بوادر إيجابية بصدده ولكن ستخفق المحاولات الجارية على الأرجح نتيجة مفعول الفساد المسيطر على الدولة الحفاظ على تماسك الدولة الاتحادية التي تضم بضعًا وثمانين جمهورية ومقاطعة.. ولم يعد هذا مضمونًا أيضًا، لأسباب عديدة منها:
- ما يمكن أن يصنعه الجنرال الحاكم لأكبر الجمهوريات الروسية ألكسندر ليبيد، إذا ما سيطرت الفوضى السياسية مع الفساد على مركز صناعة القرار في موسكو.
- ارتفاع نسبة التذمر في مختلف المقاطعات النائية عن موسكو بعد أن ازداد انتشار الفقر ليشمل أكثر من خمسين مليون نسمة، أي أكثر من ثلث السكان.
- أوضاع الثورة المعروفة في منطقة قفقاسيا - القوقاز والتي تجتمع على احتمالات ازدياد انفجارها أسباب عديدة وربما يحتاج ذلك إلى مزيد من التفاصيل.
من إيفان إلى ستالين: ففي كتابهما الصادر عام 1998م في زيوريخ تحت عنوان «روسيا.. انهيار أم دولة عظمى؟» يعتبر بروفيسور سبیلمان، رئيس المعهد السويسري للبحوث العلمية في شؤون الأمن والأزمات، ونائبه بروفيسور فينجر، المرحلة الزمنية الحاضرة شبيهة بالمرحلة التاريخية التي سميت «حقبة الفوضى» بعد موت القيصر الروسي الأسبق إيفان الملقب بالرهيب عام 1984 م واستمرت حتى عام 1613م.
ويعود المؤلفان بأسباب التفكك والانهيار الحالي إلى تاريخ الإمبراطورية الروسية على مدى خمسة قرون، إذ نشأت من البداية على أساس الاحتلال والاستعمار والتوسع وممارسة حكم مركزي استبدادي، ووصلت بذلك إلى أقصى مدى في عهد ستالين الشيوعي، عبر ما وصلت إليه ممارسات «التطهير العرقي» والتشريد وإبادة الشعوب.
ورغم اعتماد «الفيدرالية» أو النظام الاتحادي الإقليمي، إنشاء جمهوريات ومقاطعات وأقاليم بحكم ذاتي بدرجات متفاوتة، إلا أن التطبيقات الشيوعية تناقضت تناقضًا صارخًا مع ما قررته النصوص الدستورية والقانونية بهذا الصدد، وكان هذا النظام الاتحادي في الفكر الشيوعي كما عبر عنه لينين وستالين، عبارة عن «وضع مرحلي نحو بلوغ الوحدة الأممية الاشتراكية».. وأضيفت إلى ذلك هيمنة النزعة القومية الروسية في عهد ستالين!
أمام هذه الخلفية التاريخية لا تعتبر مرحلة تفكك الاتحاد السوفييتي وقيام 15 دولة مكانه، حدثًا تاريخيًا له بداية ونهاية محددتان بعهد جورباتشوف، أو ما سمي حقبة التجديد والمكاشفة «بريسترويكا وجلاسنوت» بين 1985 و1990م، بل كان التفكك السوفييتي جزءًا من عملية التفكك الروسية التي بدأت قبل ظهور جورباتشوف، وما زالت مستمرة إلى ما بعد عهد يلتسين. ذلك أن الأرضية التي تقوم عليها الأحداث لم تتبدل من حيث الجوهر، رغم تبدل هياكل الحكم ومناهجه، وقد حلت التوجهات الديمقراطية والرأسمالية رسميًا، ولكن بقيت الممارسات التطبيقية كما كانت من عهد إيفان الرهيب، إلى عهد ستالين الشيوعي، وحتى حكم يلتسين القيصري.
المسألة الإسلامية
ثمة محوران ثابتان على امتداد السنوات العشر الماضية في التعامل الروسي والغربي معًا مع «المسألة الإسلامية» في المنطقة، سواء في ذلك ما سمي الجمهوريات الإسلامية المستقلة وسط آسيا وجنوب قفقاسيا، مثل طاجيكستان وأوزبكستان وأذربيجان وغيرها، أو الجمهوريات الباقية تحت سيطرة موسكو المركزية مثل الشيشان وداغستان وتتارستان وغيرها.. ولا علاقة لأي من المحورين بسائر ما تردد ويتردد من شعارات عن دعم التحرر من الشيوعية، وإرساء نظام ديمقراطي، وترسيخ حقوق الإنسان والأقليات، وما شابه ذلك، إنما كان ولا يزال تثبيت أسس جديدة للهيمنة الروسية المشار إليها هو القاسم المشترك بين المحورين وهما:
1- المحور السياسي الذي يعتمد على دعم الحكومات المحلية الاستبدادية بهياكلها الشيوعية ورجالاتها الحزبيين من العهد الشيوعي.
2 - والمحور الاقتصادي القائم على تجنب تطوير الطاقات الذاتية لقيام هياكل اقتصادية ومالية مستقلة بمعنى الكلمة، بل ربط مختلف المشاريع - على قلتها - بموسكو وبالشركات الغربية.
وكان المقياس في هذا وذاك هو ولاء الحكومات المحلية والإقليمية في تلك الجمهوريات للغرب نفسه والسياسة الغربية في موسكو، كما انتهجها يلتسين وتشيرنومردين على وجه التخصيص.
لقد بلغ الأمر بالسياسة الأمريكية للحيلولة دون استقلالية اقتصادية وسياسية ناجزة في المناطق الإسلامية، أن الشركات النفطية الأمريكية الساعية لامتلاك أكبر قدر من الحقوق المستقبلية لاستغلال الثروة النفطية في أذربيجان وأوزبكستان وقازاقستان وغيرها.. كانت طوال عامي 95 و96م حريصة على التفاهم مع موسكو في مشاريع أنابيب النفط الجديدة إلى الموانئ البحرية، أكثر من الحرص على التفاهم مع الدولة الحليفة الأطلسية تركيا، عندما ظهرت احتمالات دعم أنقرة لاستقلالية الدول الناطقة بالتركية في وسط آسيا.
ثم ظهر أن البديل المتوافر هو تمديد أنابيب النفط الخام عبر أراضي الشيشان وداغستان، وهو ما يعطي دفعة اقتصادية قوية لتطلعات الاستقلال والتحرر عن موسكو، فإذا بالسياسة الأمريكية تختار «أهون الضررين» وتمضي إلى درجة خرق مقاطعتها الاقتصادية هي لإيران، فتوافق واشنطن عام 1997م، وقبل بدء الانفراج السياسي بطيء الخطى مع طهران على مد خط أنابيب بديل عبر الأراضي الإيرانية.
وفي هذا المثال ما يشير إلى أن السياسات الروسية والغربية تجد نفسها واقعيًا في طرق مسدودة، فهي مضطرة إلى الاعتماد على المعطيات المنطقة شاءت أم أبت، ومن تلك المعطيات أن المنطقة إسلامية، حضارة وتاريخًا وسكانًا، وأنها تشهد صحوة إسلامية جديدة، وأن ثرواتها الأرضية ثروات كبيرة يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مستقبلها.
أما أن يتهم الرئيس الروسي يلتسين الولايات المتحدة الأمريكية بممارسة سياسة تتناقض مع المصالح الروسية وتدعم النزعات الانفصالية في منطقة شمال قفقاسيا - القوقاز، كما ورد على لسانه يوم 20/8/1999م أمام المجلس القومي لشؤون الأمن في موسكو، فلا يعدو ذلك محاولة فاشلة للبحث عن تعليل وهمي يواري العجز الروسي عن مواجهة تطلعات التحرر والاستقلال في المناطق الإسلامية.. فرغم المصلحة الأمريكية في ألا يعود الاتحاد الروسي إلى موقع من القوة يشابه ما كان عليه الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات والستينيات الميلادية، إلا أن واشنطن تقدر بما فيه الكفاية أن سيطرة موسكو على قفقاسيا ليست العنصر الحاسم على هذا الصعيد، بل على النقيض من ذلك فقد لبت الدول الغربية جميعًا رغبة موسكو في مضاعفة حجم وجودها العسكري من حيث عدد الجنود وحجم الأسلحة ونوعياتها في شمال القوقاز، وكانت على استعداد لهذا الغرض لتعديل تم عام 1998م على الاتفاقات الغربية -السوفييتية المعقودة سابقًا، بشأن توزيع القوات التقليدية غير النووية في الساحة الأوروبية ما بين جبال الأورال وسواحل الأطلسي.
إن الغرب وهذا ما ظهر أثناء حرب الشيشان أيضًا يقف من وراء موسكو في تعاملها العسكري مع المسلمين في شمال قفقاسيا، ولئن استاء من موسكو فغالب استيائه ينصب على عجزها عن «حسم» المعارك العسكرية بسرعة كافية، تمنع من بلوغ حجم القمع الوحشي درجة تؤثر على الرأي العام الغربي والعالمي تأثيرًا يتناقض مع السياسة الغربية.
لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لترسيخ أسباب النفوذ الأمريكي المباشر في وسط آسيا، فضلًا عن تعاونها الوثيق مع الجهود "الإسرائيلية" المباشرة للتغلغل في المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا، ولكن هذه المساعي الأمريكية كالأوروبية لا تتجاوز حدود ما تسعى القوى الغربية لممارسته في موسكو نفسها وفي الجمهوريات والمقاطعات الشمالية من الاتحاد الروسي، بل ولم تتخل السياسات الغربية عن اعتماد القوة المركزية لموسكو وهيمنتها في وسط آسيا حتى خارج الحدود الروسية الرسمية، وفي أي مرحلة من مراحل العلاقات مع الدولة الروسية بعد سقوط الشيوعية، وهذا رغم وقوع أحداث وتطورات كان يمكن الاعتماد عليها بمنطق القانون الدولي لممارسة ضغوط مضادة على موسكو، كما هو الحال مع مسلسل أحداث جرت في طاجيكستان وفي جيورجيا وفي النزاع على قره باخ بین أذربیجان
وأرمينيا.
مخاوف روسية - أمريكية مشتركة
لا غرابة في ذلك التوافق الروسي – الغربي، فبغض النظر عن أسباب الوفاق والخلاف بين الطرفين، يبقى بينهما عنصر مشترك هو المخاوف القائمة من مفعول التوجه الإسلامي على اختلاف صوره ودرجاته في المنطقة الممتدة من أواسط الصين إلى جنوب شرق أوروبا، أو ما يعرف في كتب التاريخ الإسلامية بمناطق تركستان وقفقاسيا والبلقان. وكان من سنن التاريخ الثابتة أن يظهر التيار الإسلامي مجددًا في المناطق المستقلة والمتطلعة إلى الاستقلال عن روسيا وهيمنتها، ويسري هذا على الأراضي الإسلامية المتحررة بمساحة تناهز أربعة ملايين من أصل سبعة ملايين كيلو متر مربع استقلت مع انهيار الاتحاد السوفييتي، كما يسري على الأراضي الباقية تحت السيطرة الروسية بمساحة تناهز ثلاثة ملايين كيلومتر مربع. وفي هذه الأراضي طاقة بشرية من المسلمين لا يستهان بها، فتقديرات المصادر الغربية تصل إلى واحد وعشرين مليونًا، والتقديرات الإسلامية تصل إلى 35 مليون مسلم من أصل 150 مليون نسمة في الاتحاد الروسي بحدوده الراهنة.
الصحوة في داغستان
وتعتبر داغستان بالذات مركزًا رئيسًا لتجدد الصحوة الإسلامية في المنطقة، ويرمز إلى ذلك بناء المساجد، وكانت توجد ألوف المساجد على امتداد الأراضي التي وصل إليها المسلمون ومنها موسكو وكييف وبودابست في العهد التتاري، ولم يبق منها عام 1986م قبيل انتهاء العهد الشيوعي، كما تذكر مصادر موسكو الرسمية، سوى 189 مسجدًا في كامل الأراضي التي أخضعت للسلطة السوفييتية، ومن ذلك 27 مسجدًا في داغستان، وارتفع العدد بين عامي 1988 و1992م إلى أكثر من 800 مسجد، ثم إلى عدة ألوف في الوقت الحاضر.. كذلك فقد كان مما يلفت النظر أن أول اضطرابات شهدتها داغستان في عهد يلتسين، والتي وقعت عام 1991 م تكن احتجاجًا على أوضاع عديدة تستدعي الاحتجاج في الميادين المعيشية والاقتصادية والسياسية والأمنية.. إنما كان خروج المسلمين في ستان للاحتجاج في ذلك العام لسبب آخر هو رفع نفقات السفر لأداء فريضة الحج.
هذه معطيات مبدئية تتناقض مباشرة مع تلك الصورة التي سعت موسكو لتعميمها، فتابعتها وكالات الأنباء الغربية على ذلك، ولم تشذ وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية إلا نادرًا عن تبنيها كما لو كانت حقيقة ثابتة، وهي أن الأحداث الجارية حاليًا في داغستان، لا علاقة لها بسكانها، بل هي من صنع مجموعات مسلحة قادمة من الشيشان المجاورة.
بذورة الثورة
إن ما يجري في داغستان هو بذور ثورة يمكن أن تشمل كامل منطقة قفقاسيا، كما يمكن أن تمتد إلى بقية الأراضي الإسلامية فيما يسمى الجمهوريات المستقلة، وإلى الأراضي الإسلامية التي سبق انتزاعها إداريًا من قازاقستان في الدرجة الأولى، وضمت إلى جمهوريات أخرى منذ العهد السوفييتي.
ولئن جرت تهدئة الأوضاع في تتارستان بحكم ذاتي واسع النطاق عندما خشيت موسكو من وصول الثورة الشيشانية إليها، أو جرت تهدئة الأوضاع في الشيشان بعد الحرب الروسية الخاسرة عن طريق اتفاقية تؤجل قضية الاستقلال خمسة أعوام، فإن أوضاع داغستان وبشكيريا وأنجوشيا وأوستينيا الشمالية، وغيرها من الأراضي الإسلامية في المنطقة، لم تشهد الاستقرار من قبل أن يصل يلتسين إلى السلطة وحتى الآن.
وتتناقض الصورة الأخرى المزيفة المنشورة عن الأحداث الآن مع سلسلة من المعلومات التي يمكن استخلاصها مما يرد بين سطور الأنباء الواردة فضلًا عن المعلومات الثابتة من قبل، ومن ذلك بإيجاز:
١ - ليست الأحداث مفاجئة في داغستان، ومن أغرب أساليب حملة التشويه المضادة ربطها بالصراع على السلطة في موسكو، وزعم أن يلتسين من ورائها ليتخذها ذريعة فيعلن حالة الطوارئ ويؤجل الانتخابات النيابية.. هذه تعليلات تتناقض بالذات مع الوضع في داغستان، حيث لم تنقطع أحداث «التمرد» طوال السنوات الماضية إنما بلغت الآن مستوى عمليات عسكرية كبيرة، وكانت تقتصر على عمليات مسلحة مركزة محدودة الميدان والوقت، وعلى اغتيالات ومحاولات اغتيال متفرقة، واستهدفت العمليات في الدرجة الأولى أجهزة الأمن والمخابرات ومسؤولين حكوميين محليين والمبعوثين العسكريين الروس، وأودى ذلك بحياة العشرات من عناصر الشرطة المحلية وإصابة المئات بجروح، في عام 1998 و1999م فقط، وكان من أواخر المسؤولين الذين قتلوا على سبيل المثال، وكيل النائب العام الداغستاني قربان بولاتوف في أول أبريل الماضي.
2 - قيل إن «عصابات» مسلحة بزعامة شامل باساييف، قدمت من الشيشان إلى داغستان، وإن عدد أفرادها في حدود 500 وقالت مصادر أخرى إن عددها بين 2000 و3000، والمفروض في هذه الحالة أنه لم يعد لأحد من هؤلاء وجود، فالبيانات الرسمية الروسية في الـ14 يومًا الأولى فقط من الاقتتال تتحدث عن مئات القتلى من تلك «العصابات» وأضعاف ذلك من الجرحى!
3 - في يومين متواليين قبيل عزل رئيس الوزراء الروسي السابق تشيباشين، وعقب آخر مهامه الرسمية التي تمثلت في زيارة منطقة القتال في داغستان، كان وزير الداخلية روشايلو يقول باتخاذ إجراءات كافية للقضاء المبرم على «العصابات المسلحة»، وكان قائد القوات الروسية في شمال القوقاز كازاتسيف، يقول إن الوضع تحت السيطرة بصورة كاملة، وكان وزير الدفاع الروسي سوبوف يقول أمام مجلس تمثيل الجمهوريات والأقاليم، إن الأمر لن يتطلب سوى أيام معدودة.. أما رئيس الوزراء تشيباشين الذي رأى الأوضاع على الطبيعة كما يقال، فقد صرح أمام آخر جلسة حكومية عقدها، وبموضوعية ظاهرة للعيان، بأنه يخشى «من خسارة روسيا لداغستان قريبًا»!
ويبدو أن موسكو تقدر ما يعنيه الوضع تقديرًا حقيقيًا يتناقض مع مواقفها الرسمية والإعلامية، ومما يشهد على ذلك تعاملها مع الجنود الروس في ساحة القتال الداغستانية كتعاملها مع الجنود الروس في ساحة كوسوفا البلقانية، إذ تمنح كل جندي راتبًا شهريًا إضافيًا بحجم 1000 دولار، مع ملاحظة أن الراتب الشهري الأصلي لا يتجاوز حدود 4 دولارات فقط!
نظرة مستقبلية
من المؤسف أن بعض الأقلام التي تتابع أحداث داغستان والمناطق الإسلامية عمومًا في تركستان وقفقاسيا، تتبنى في كثير من الأحيان مقولات تتردد على ألسنة الغربيين وبأقلامهم لأغراض أخرى، ومن ذلك ما يدور على ثلاثة محاور رئيسة، يمكن اعتبارها أمثلة على سواها، وهي:
1 - مزاعم تقول إن الجمهوريات والأقاليم الواقعة داخل الحدود الرسمية الراهنة للاتحاد الروسي، مثلها مثل كوسوفا في نطاق الحدود اليوغوسلافية الرسمية الراهنة، لا تستطيع الاستقلال، فهي لا تملك مقومات اقتصادية فضلًا عن المقومات السياسية لدول قائمة بذاتها، فمن مصلحتها إذن عدم السعي لذلك الاستقلال أصلًا، ولتبحث عن صور أخرى للتفاهم مع القوى الإقليمية!
2 - المحور الثاني يقول إن الخارطة السياسية الدولية الجاري رسمها على أنقاض الحرب الباردة، خارطة لا تسمح بقيام دول مستقلة للمسلمين عمومًا، فلابد من القبول بالتبعية أو «الارتباط كما يقال تخفيفًا لوطأة الكلمة لا المضمون» لقوة من القوى الدولية، ناهيك عن سماح تلك القوى المهيمنة بقيام دول إسلامية جديدة في وسط آسيا أو في البلقان، فمن مصلحة المسلمين هناك عدم السعي للاستقلال أصلًا، وعليهم البحث عن صور أخرى للتفاهم مع القوى الدولية المهيمنة!
3- المحور الثالث هو التحذير من أن الخلافات كبيرة بين المسلمين في تلك المناطق الواقعة تحت السيطرة الروسية، مباشرة أو على شكل هيمنة خارجية، وهي خلافات تماثل ما قام بين الفصائل الإسلامية في أفغانستان، فلو استقلت فعلًا لوقع الاقتتال، ورغم صدور التحذير عن جهات لا تأبه بدماء المسلمين عادة، وتتجاهلها دوليًا، فهي تدعو إلى عدم دعم تلك العصابات المسلحة، حرصًا على دماء المسلمين!
هذه مقولات مخادعة مضللة، في ثناياها القليل من وصف الواقع وصفًا صحيحًا، يقابله تجاهل للواقع تعدل السلبيات المذكورة فيه، ولكن في ثناياها قسطًا أكبر بكثير من الاستنتاجات الباطلة المبنية على ذلك الوصف الناقص المخادع.. ويمكن في حدود الإيجاز ذكر بعض جوانب التضليل والمخادعة في تلك المقولات «وهي تنطبق على قضية داغستان وأخواتها»:
1 - إن وجود ضعف اقتصادي ووجود خلافات بين الفئات المتعددة، لم يكونا في أي وقت من الأوقات مانعًا من قيام دولة، ولو كانا كذلك فمن المفروض أن تتلاشى الآن دول عديدة من الخارطة السياسية، فهي لا تملك - بهذه المقاييس المزعومة- مقومات الدولة، لا سيما في عصر العولمة الراهن!
2 - قد لا يستطيع شعب مسلم كشعب داغستان، أن يحقق هدف التحرر المشروع دون دعم خارجي، ولكن المنطق القويم لا يبني على ذلك مطالبة شعب داغستان بالرضوخ لتلك الأساليب الوحشية، أو محاولة «تخفيف وطأتها» بل يبني على هذا الوضع مطالبة المقصرين والرافضين تقديم الدعم بتغيير مواقفهم.
3 - لم تنقطع رغم ضعف الإمكانات الذاتية ثورات الداغستانيين والشيشانيين والمسلمين في قفقاسيا عمومًا، ضد الاحتلال الروسي، من عهد الشيخ شامل الداغستاني، إلى عهد القائد الشيشاني الشهيد جوهر دوداییف، وحتى شامل باساييف الذي يرفض التمييز العرقي بين قواته في الوقت الحاضر، ولم تستطع موسكو القضاء على بذور الثورة في أي مرحلة من المراحل. فليس المقياس مقياس الإمكانات المادية وحدها، ولم يعد هذا مجهولًا في المدارس العسكرية الحديثة، بدءًا بفييتنام مرورًا بأفغانستان وانتهاءً بالشيشان.. بل وصلت الشيشان إلى استقلال واقعي قائم لا يمنع من الاعتراف به سوی مواقف «التثبيط» كتلك التي يجدها الشعب المسلم في داغستان الآن، فضلًا عن الامتناع عن الدعم بحجة عدم الإساءة إلى العلاقات بين الدول الإسلامية والاتحاد الروسي.
4 - أما الإساءة المستمرة إلى الفصائل الإسلامية في قفقاسيا.. بالتركيز على خلافات فيما بينها، فلا يستغرب صدورها في إطار الحملات الإعلامية الغربية للإساءة إلى الإسلام والمسلمين عمومًا، ولكن ألا ينبغي استغراب صدورها في وسائل الإعلام وأحيانًا على ألسنة بعض المسؤولين في البلدان الإسلامية، مع أن بين أيدينا أشكالًا عديدة أخرى من الاختلافات التي تؤدي إلى نزاعات حدود، ونزاعات وجود، وعداء تدفع ثمنه الشعوب، وعلاقات تنافر تترك آثارها القاتلة المعروفة في الميادين المالية والتجارية والاقتصادية بين البلدان الإسلامية، مقابل تعزيز تلك العلاقات مع الدول الغربية وحتى مع العدو "الإسرائيلي".
إن من أسوا الصور المعاصرة في حياة المسلمين، ذلك المنطق العجيب الذي يوجه اللوم إلى من يتحرك من المنطلق الإسلامي، وبما يملك من إمكانات محدودة، ومطالبته بالامتناع عن التحرك، بحجة ضعفه أو تقصيره أو أخطائه التي تمنع من تحقيق الأهداف المرجوة.. بينما لا يوجه اللوم إلى القاعدين عن التحرك أصلًا، وعن امتناعهم هم عن تقديم العون الذي قد يساعد للوصول إلى الأهداف المرجوة، بل قد يكون قعودهم وامتناعهم عن تقديم العون السبب الأول والأكبر في عدم تحقيق الأهداف المرجوة.. التي يظهرون بمظهر الحرص والتباكي عليها، وقد يكون فيهم من يوجه الطعنات في الظهور والنحور!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالذكــاء الاصطناعــي ســلاح ذو حديـــن بين الحكومـــات والشعــــوب
نشر في العدد 2178
744
السبت 01-أبريل-2023

رسالة زلزال آسيا لكل متجبر.. عجزك تحت رجليك.. وقهرك تحت قدميك..
نشر في العدد 1634
16
السبت 08-يناير-2005

