; البوسنة.. روح جديدة تسري في الجهاد | مجلة المجتمع

العنوان البوسنة.. روح جديدة تسري في الجهاد

الكاتب أسعد طه

تاريخ النشر الثلاثاء 21-ديسمبر-1993

مشاهدات 29

نشر في العدد 1080

نشر في الصفحة 18

الثلاثاء 21-ديسمبر-1993

بشائر النصر تهب على مسلمي البوسنة

يمكن القول: إن مفاوضات جنيف الأخيرة التي دارت في نهاية شهر نوفمبر الماضي لم تحمل جديدًا سوی أمرین:

 أولهما: التفاوض المكثف بشأن الخرائط المقترحة للجمهوريات العرقية الثلاث المسلمة والكراوتية والصربية وبما يعنى إقرار الجميع بمبدأ التقسيم واختلافهم على شكله.

والأمر الثاني : هو الإصرار الذي أبداه المسلمون على تحقيق مطالبهم بشكل يعكس ثقتهم في أنفسهم وهو ما أمكن ملاحظته بوضوح للمرة الأولى منذ تفجر القتال في البوسنة والهرسك وتداول المحادثات بين المسلمين والصرب والكروات فى لندن ولاهای وجنيف. 

ويفسر المراقبون هذه الثقة فى النفس التي بدأ المسلمون يتمتعون بها مؤخرًا بأنها الثمار الأولى لما حملته الأيام الأخيرة من تغيرات على صعيد الساحة الداخلية للمسلمين عكست انتهاءهم من رسم الخطوط العريضة لسياسة محددة بشأن مستقبلهم السياسي لطالما دفعوا ثمن غيابها واتكائها على المواقف الدولية، وكذلك رد فعل مباشر لهذه الإنجازات العسكرية التي تحققت في الفترة الأخيرة على أرض الواقع وتشير المواقف السياسية الأخيرة للمسلمين وتصريحات قادتهم على أنهم قد وافقوا أخيرًا على التقسيم العرقي للبلاد على أن يكون ذلك حسب تصوراتهم الخاصة وباستخدام قوتهم لرسم "خرائط هذا التقسيم"، خصوصًا بعد أن حصل عزت بيجوفيتش علي حق إرث البوسنة والهرسك الدولة حسب الاتفاق المبرم بين المسلمين والصرب.

 ويعتقد أن المسلمين خلصوا إلى ذلك بعد عشرين شهرًا من الحرب استنتجوا بعدها استحالة الدفاع عن البوسنة والهرسك "الموحدة"، حيث لا تسمح بذلك العوامل الذاتية لهم ولا المعطيات القائمة على الساحة الدولية.

 ووفق ذلك جرى تشكيل حكومة جديدة "مسلمة" لم ينل الصرب والكروات إلا أربعة مقاعد للوزراء فيها، ومنهم اثنان بلا حقيبة كما قسمت المناطق المسلمة الحرة إلى أربعة تم تعيين وزير لكل منها، ولتكون مهمة هذه الحكومة تهيئة الشروط اللازمة لقيام وضمان استمرار الدولة المسلمة المزمع إنشاؤها.

وفي هذا النطاق أيضًا تتردد فى العاصمة البوسنية شائعات عن الاستعداد لتغيير رئيس البرلمان البوسني "صربي الجنسية ونائبي القائد العام للجيش "واحد صربي والآخر كرواتي"، وهؤلاء الثلاثة من الذين رفضوا الانضمام للميليشيات الصربية والكرواتية في بداية الحرب وأعلنوا ولاءهم للحكومة الشرعية للبلاد، وذلك حملة تطهير واسعة يقال إنها على وشك التنفيذ وخاصة في جهازي الإعلام والداخلية للتخلص من العناصر الصربية والكرواتية التي تحتل مواقع حساسة، ولتكن ثمار ذلك كله أن يبقى الشكل السـياسى الجديد للبوسنة والهرسك دون شيء يدل على تعدديتها القومية سوى مجلس الرئاسة الذي يعتقد الكثيرون أنه يمثل مرحلة انتقالية.

وحسب الرؤية السياسية المسـلمة الجديدة فإن الكروات باتوا هم العـقبة الرئيسية أمام تصورات المسـلمين المستقبلية لبناء دولة خاصة بهم تمتلك أراضي متصلة ببعضها وتطل على البحر الأدرياتيك، حيث سعى الكروات منذ الثامن من مايو الماضي إلى بسط سيطرتهم على منطقة وسط البوسنة والتي كانت خطة فانس- أوين قد منحتها لهم رغم غالبيتها المسلمة، وهذا فى الوقت الذي انحصر فيه الخلاف بين المسلمين والصرب– بشكل آنى على إمكانية تقسيم العاصمة سـراييفو أو تنازل المسلمين عن مناطقهم فى البلاد وهي "سربيرينتا" و"جيبا" و"جوراجدى". 

ومن هنا فإن المسلمين ارتأوا تهدئة الأوضاع من الجانب الصربى- الطرف الأقوى في اللعبة البوسنية- قد يجلب عليهم بعض الإيجابيات ويمكنهم التفرغ لتصفية حساباتهم مع الحليف الكرواتي الذى آثر الانتقال إلى خانة الأعداء.

وحسب مصادر صحفية بوسنية فإن هناك دلالات تشير إلى إمكانية حدوث "تقارب" في مواقف الطرفين "رغم سخونة بعض الجبهات بينهما والذى يعتبره البعض لا يتعدى كونه أعمالًا قتالية معتادة". ويستشهد على ما أشيع عن تقارب بين المفاوض المسلم ونظيره الصربي ما قيل عن خط ساخن سوف يربط قريبًا بين القيادتين الصربية والمسلمة وعملية تقسيم وتوزيع الفحم والأخشاب التي جرب بينهما حول سراييفو استعدادًا لفصل الشتاء. وما تردد كذلك عن اتفاقات لعمليات تبادل سكاني محدودة في بعض المناطق. 

وقد سبب ذلك كله انزعاجًا شديدًا لحكومة زغرب التي أثارها ما نسب الى الرئيس البوسني خلال جولة قام بها على جبهات القتال من أنه يجب إعادة المناطق التي كان المسلمون يمثلون فيها أغلبية بالقوة- يقصد المناطق التي كان الكروات يسيطرون عليها حسب التفسير الكرواتي-، وباستثناء بعضها مثل بانيا لوكا الواقعة تحت الاحتلال الصربي فيمكن أن يتم ذلك بالحلول السلمية على حد ما نسب للرئيس البوسني.

التفاوض والقتال

والمراقب للتغيرات الأخيرة يرى أن السياسة المسلمة بدأت تعمل في خطين متوازيين:

أولهما: المفاوضات والمماطلة فيها وكسب المزيد من الوقت عبر طرح وقبول كل المبادرات غير الحاسمة مثل المبادرة الألمانية الفرنسية التي قال عنها رئيس الحكوم البوسنية حارث سيلاجيتش أن حكومته تدعمها غير أنها لا ترى فيها اتفاقًا شاملًا.

وثانيهما: القتال فى المناطق التي يمكن أن يتحقق فيه تقدم سريع وحاسم وخصوصًا على جبهات القتال مع الميليشيات الكرواتية.

وفي هذا الإطار يضع الجيش البوسني الأولوية للمناطق المحاصرة من قبله مثل "فيتيز" و"جبتشي" و"بوسافاتشا" وكسلياك" أملًا أن يلى ذلك "ستولاتس" و"موستار" وتعتبر الإنجازات التي حققها الجيش البوسني مؤخرًا مصدرًا آخر للتفاؤل البوسني عبر التقدم الذي يحققه فى وسط البلاد وتمكنه من صد وإجهاض الهجمات المشتركة والعنيفة للقوات الصربية والكرواتية، وكذلك نجاحه فى القضاء على عناصر الفساد والإجرام فى صفوفه وتصفية لكل الميليشيات الخاصة وضمها إليه بما فيها الميليشيات الكرواتية في العاصمة سراييفو.

وتشير تقارير متعددة إلى تنامي قدرات الجيش البوسني فى الفترة الأخيرة وفسر ذلك على أنه نتيجة تحرر القيادة العسكرية البوسنية بالكامل من ارتباطها بالعمل السياسي وانتظارها لنتائجه فى التوصل إلى حلول سلمية وما نتج عن ذلك من منحها حرية كبيرة في الحركة واعتمادًا متصاعدًا على القدرات الذاتية خصوصًا بعد نجاحها فى التخلص من بعض عناصر مخابرات الجيش اليوغسلافي من صفوفها، ويقول مراقبون عسكريون أنه قد لوحظ فى الفترة الأخيرة تغيرًا كبيرًا فى مستوى الأداء القتالي للجندى المسلم تمثل في نجاحه فى شن عمليات هجومية "على الميليشيات الكرواتية" فى شروط وظروف جوية سيئة للغاية وفى الوقت الذي لا يتوقع فيه الطرف الآخر أي هجوم وسجلت كفاءة متزايدة للجندي المسلم فى الاختراق والتسلل وقدرة عالية على المبادرة في الحركة.

وعلم أنه قد بدأ مؤخرًا فى تنفيذ عمليات انتحارية ناجحة خلف صفوف العدو، وأن الوحدات الاستطلاعية للجيش البوسني باتت تقوم بعملها بدرجة مرضية للغاية وكان أكثر ما سجلته التقارير الواردة من جبهات القتال من غرابة هو كثافة النيران التي يستخدمها الجيش البوسني فى عملياته العسكرية والتي أصبحت العامل الرئيسي فيها رغم ما يعانيه الجيش من قلة السلاح والذخيرة، وحيث أشير إلى أن المسلمين يمارسون نوعية جديدة من القتال ضد المدرعات وفى تركيبة وانسجام مع نيران المشاة، كما أن دقة وكثافة وضبط نيران المدفعية والتصويت غيرت بشكل واضح أعمال القوات المسلمة القتالية.

ويعتقد أن مصادر السلاح التي يتزود منها البوسنيون هي مصانع ومعامل إنتاج السلاح فى وسط البوسنة والتي تمدهم بحوالي ثلاثين بالمائة من احتياجاتهم، وتمثل الغنائم الحربية مصدرًا ثانيًا للتسلح فيما يتردد فى إمكانية وجود قنوات سرية الوصول السلاح من الخارج..

 وتمكن المسلمون في توزلا وحيث توجد مصانع الكلور والمواد الكيمائية من إنجاز بعض العبوات الكيميائية التي يمكن استخدامها فى محيط محدود وكورقة أخيرة إذا ما استهدفت الميليشيات الصربية احتلال توزلا والتي يعتبرها المسلمون معقلًا هامًّا لهم.

وتقدر القيادات العسكرية البوسنية مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الجيش البوسني بحوالي خمسة وعشرين بالمائة من مساحة البوسنة والهرسك فيما تسيطر الميلشيات الكرواتية على اثنى عشر بالمائة والصربية على ثلاثة وستين بالمائة.

ويعتقد البوسنيون أنهم يمتلكون القدرات والكفاءات البشرية القادرة على تحقيق النصر وأن أوروبا التي تمنع عنهم السلاح تدرك ذلك مثلما كانت تدركه القيادات الشيوعية فى زمن يوغسلافيا السابقة والتي كانت تحول دون وصول المسلمين الى مناصب قيادات رفيعة في الجيش اليوغسلافي.

وهذه المعطيات الجديدة هي التي منحت المسلمين شعورًا عميقًا بأنهم الآن بدأوا معركتهم ضد الصرب والكروات الذين سجلت قياداتهم انزعاجها الشديد من تنامي الروح الدينية بين صفوف الجيش البوسني بعد أن بدأ البسطاء منهم يدركون أن تحرير الأرض المغتصبة لا تنجزه إلا الأيدي المتوضئة .

الرابط المختصر :