العنوان التحقيق الإجرامي عند العرب والمسلمين.. الإمام علي يحكم في قضية معقدة
الكاتب الأستاذ عبد الله الهاشمي
تاريخ النشر الثلاثاء 26-يناير-1971
مشاهدات 13
نشر في العدد 45
نشر في الصفحة 20
الثلاثاء 26-يناير-1971
التحقيق الإجرامي عند العرب والمسلمين
الإمام علي يحكم في قضية معقدة
· هذه الشواهد التي تحير من يتأملها في يومنا هذا، ويعمل الفكر فيها وتقسره على الوقوف إجلالًا وتعظيمًا لأولئك العباقرة الأفذاذ من المحققين الذين أنجبتهم أمة يعرب المجيدة في تلكم الأحقاب.
بقلم: الأستاذ عبد الله الهاشمي
المدعي العام
وهذه قضية جنائية قام بتحقيقها أول الخريجين في مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الشباب وكشف فيها الحقيقة نلخصها بالتالي: -
ربى رجل محسن طفلة يتيمة ورعاها رعاية حسنة واعتبرها كواحدة من بناته، وكان هذا الرجل كثيرًا ما يغيب عن بيته في سفر بعيد تارةً تطول مدته وتارةً تقصر وفقًا لمتطلبات أموره التجارية.
نشأت الطفلة اليتيمة نشأة حسنة صالحة وبدت مفاتنها تبدو شيئًا فشيئًا حتى إذا ما اجتازت سنة البلوغ واكتملت أنوثتها تكاملت لها صفات الجمال طاغية تلفت الأنظار وتستهوي القلوب.
أصبحت هذه الفتاة اليتيمة بعد أن تجلّت فيها روعة الجمال طاغية أخاذة الشغل الشاغل والبعبع المخيف الذي يقض مضجع زوجة الرجل المحسن، وصارت تحسب لهذه الفتاة ألف حساب وحساب وأضحت تخشى أن يراها زوجها عند عودته فيفتتن بها كغيره من الرجال ويتزوجها.
لهذا بيتت لها أمرًا وصممت على فض بكارتها بالقوة مستعينة بجارات السوء من جاراتها اللائي شاركنها هذا الشعور الإجرامي ووافقنها عليه، وفي الوقت المعين أمسكن بها ومكن تلك الزوجة الغادرة من الفتاة التي أصبحت من جراء هذا الارتكاب الشنيع ثيبًا.
عاد الرجل من سفره وأنهت إليه زوجته واقعة ملفّقة عن فاحشة ارتكبتها تلك الفتاة اليتيمة وأوغرت صدره عليها فرفع الأمر إلى سيدنا الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فما كان من الفاروق إلا أن حال المتقاضيين على الإمام علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- وبعد أن سردوا القصة عليه، وسأل الإمام زوجة الرجل عما لديها من البينات فأجابت بالإيجاب وقدمت جاراتها للشهادة.
اتخذ الإمام الإجراءات الآتية:
أ - أمر باستدعاء الجارات الشاهدات فأحضرن.
ب - أمر بوضع كل شاهدة في بيت على انفراد وأمر بعدم اتصال كل واحدة منهن بالأخرى.
جـ - استدعى الفتاة ثم استدعى الزوجة إليه، وبعد أن سمع أقوالها صار يناقشها ويداورها إلا أنها بقيت مصرة على أقوالها، فأمر بردها إلى البيت الذي كانت فيه وعدم الاتصال بها.
د - استدعيت الشاهدة الأولى «إحدى الجارات» وبادرها قائلًا: إن زوجة الرجل قالت ورجعت إلى الحق فأعطيت الأمان، فإن لم تصدقيني، لأمكنن السيف هذا منك.
أشاحت المرأة الشاهدة بوجهها نحو سيدنا الفاروق وقالت: لا والله، إنها رأت جمالًا وهيئة وكمالًا، فخافت فساد زوجها فسقتها المسكر، ثم دعتنا فأمسكناها فافتضتها بإصبعها.
وهكذا كان الأمر مع الشاهدة الثانية ثم أعاد استجواب زوجة الرجل بعد أن أسمعها اعترافات الجارات، وتبيّن الحق وظهرت براءة الفتاة اليتيمة المظلومة وأوخذت زوجة الرجل بجريرتها «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
5- العرب أول من فطن لأثر العنصر النفسي في التحقيق وأول من أخذ بالكشف العلمي والفني:
الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أول وأشهر محقق إجرامي عبقري في الإسلام.
العرب أول من فطن إلى العنصر النفسي وأثره في التحقيق واهتموا به:
لم يتنبه العرب إلى الجانب النفسي وأثره فحسب بل اهتموا به وحذقوا فيه، وظهر فيهم جهابذة وأساطين عديدون استطاعوا كشف: رونة الأمور الخفية وإظهار حقائقها ناصعة واضحة فكانوا رواد هذا العلم الأوائل وأربابًا لفنه الجميل الذي تجلت روعته بفضل ما أضفي عليه الدين الإسلامي بتعاليمه وأوامره ونواهيه من تجديد وتطوير يتمشيان ويتواءمان مع الحق والعدالة التي هي أهم الأسس فيه «في الإسلام» ولكن الذي يحز في النفس هو انصراف المشتغلين في هذا الحقل، عن جمع شتاته من بطون الكتب والمخطوطات التي نجت من عبث الغزاة وغدر الفاتحين، في مصنف منسق يضفي عليها الطابع العلمي. ولم يكترثوا به إلى أن امتدت إليه أيدي البلى فعفت على البعض ولم تبق إلا النزر اليسير منه. وبالرغم من كل ذلك فما زالت هذه البقية الباقية عينًا ثرة وفيضًا فيما تحتويه. وهذه يضع أمثلة نثبتها هنا قبسًا نيرًا من ذلك التراث العظيم وهي غيض من فيض.
وبالرغم من تعاقب الزمن الذي استطال عليها فقد بقيت تحمل بين طياتها جدة وصورة لروح العدالة ناصعة الجبين مزدانة الوجه بنور العقل موسومة بفذ الابتكار.
هذه الميزات الطافية أرغمت ركب فطاحل العلماء والباحثين والمستشرقين على التوقف عن السير عندها حينما مر بها وأجبرته على التأمل فترة لاستطلاع معالم آثارها، ثم مال على دراستها فاستهوته فاضطرت على تمحيصها بدقة وإمعان. وحينما تكشّفت له صفحات رائعة تشير إلى أمجاد خالدة تملكته الرهبة فخَرّ ساجدًا يمجد خالق العرب ويشيد بعظمة عبقرية رجال الإسلام الفذة التي عطَّرت آفاق الزمن، ويشهد.
ومن ناقلة القول وعلى سبيل المثال نستشهد بقول رجل من أعاظم رجال الفكر الغربي وأشهر من عُرِف بعدائه للعرب في فرنسا وهو غوستاف لبون حيث يقول: «ما عرف التاريخ مجدًا أعظم من مجد العرب ولا عدلًا من عدل الإسلام». والفضل ما شهدت به الأعداء!
هذه الأمثلة القليلة التي نثبتها مستشهدين على ما ذكرناه عن أساليب التحقيق الإجرامي الفنية عند العرب في عهد الإسلام وما قبله من عهود وما سلكوه حيال المتخاصمين من البشر «العاقل المدرك لطبيعة عمله» في تلك الأحقاب من الزمن البعيد، التي تنسحب إلى أكثر من ثلاث آلاف سنة قبل الميلاد ندرج بعضها هنا بصورة مختصرة جدًا «وقد دوّنا الكثير منها في كتابنا -التحقيق الإجرامي- وذكرنا فيه السند التاريخي لها والمصادر التي استقينا المعلومات منها».
هذه الشواهد التي تُحيّر من يتأملها في يومنا هذا ويعمل الفكر فيها وتقسره على الوقوف إجلالًا وتعظيمًا لأولئك العباقرة الأفذاذ من المحققين الذين أنجبتهم أمة يعرب المجيدة في تلكم الأحقاب، خاصةً حينما يتلمس مادة تلكم العقول النيرة الخالدة ويتحسّس عناصر ذلك النتاج الفكري العظيم الذي بلغ من العمر ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا.
قصة الطفلين وسليمان
تنازعت سيدتان على طفل، وكل واحدة منهما تدعي كونه وليدها، دون أن تُعزّز ادعاءها بدليل، وآل أمرها إلى الملك سليمان «النبي عليه السلام» الذي حاول انتزاع كلمة الصدق من فم مختصمه منهما بدون جدوى. ولمَّا كان الأمر كذلك ولم يجد نصحه معهما فتيلًا، لجأ إلى سلوك هذا السبيل مستغلًا العنصر النفسي وإثارته في الأم الحقيقية «الأم الوالدة» وقام بالإجراء التالي:
أمر سليمان «عليه السلام» بإحضار منشار إليه للفصل في هذا النزاع ثم قال بهذا المنشار سوف تتراضيان، وقد سُئِل سليمان «عليه السلام» عن علاقة المنشار في هذا النزاع، أجاب عليه السلام قائلًا: «سأقسم هذا الطفل إلى قسمين لأعطي كل واحدة منكما قسمًا» فسكتت إحدى السيدتين بينما انتفضت الثانية وصرخت صرخة تنم عن شدة هلعها وقالت: «أما لديك من حل آخر لهذا الخلاف غير هذا الحل يا سيدي؟ فإذا لم يكن لديك سواه فإني أُعلن موافقتي على تسليم طفلي إلى هذه السيدة التي تنازعني فيه».
وعلى إثر سماع سليمان «عليه السلام» هذا القرار الذي صدر من تلك السيدة قال لها: دونك هذا الطفل فهو طفلك وأنتِ والدته وإن هذه السيدة التي نازعتك عليه ليست أمه، إذ لو كان وليدها لرقت لحاله وأشفقت عليه. ثم التفت إلى السيدة الثانية «المفترية» يسألها عما تريد قوله، فأجابته معترفة بعدم كون الطفل هذا وليدها.
وقصة أخرى لعلي
وهذه واقعة جنائية قام بتحقيقها سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «كرّم الله وجهه» نوجزها فيما يلي:
ضرب سيد غلامًا ضربًا موجعًا إثر اقترافه ذنبًا، تأديبًا له فتمرد الغلام وتطاول على سيده وقال له: «ما أنت مولاي، بل أنا مولاك، وراح كل من الغلام والسيد يتوعد صاحبه ويقول له: كما أنت، حتى نصل الكوفة، يا عدو الله، فأذهب بك إلى أمير المؤمنين». وما إن حلا بالكوفة، توجها إلى المسجد ومثلا بين يدي سيدنا الإمام علي «كرَّم الله وجهه» فقال السيد: يا أمير المؤمنين، أصلحك الله، هذا غلام لي أذنب فضربته، فوثب عليّ «ثم قال الغلام، هو والله يا أمير المؤمنين غلام لي وأبي أرسلني معه ليعلمني، وأنه وثب عليّ يدعيني ليذهب بمالي».
وهكذا صار كل منهما يحلف اليمين تلو اليمين ويرد خصمه ويكذبه، فقال لهما الإمام: «انطلقا فتصادقا ليلتكما هذه ولا تجيئاني إلا بحق».
فغادرا المجلس وفي اليوم الثاني حضرا ولم يطرأ أي تغيير على موقف كل واحد منهما. فما كان من الإمام «كرم الله وجهه» إلا اللجوء إلى الإجراء التالي.
نادى الإمام خادمًا له اسمه قنبر ولما حضر أمره أن يثقب في الحائط ثقبين يسع كل ثقب منهما دخول رأس لإنسان، فلبى قنبر ونفذ. فبادرهما الإمام قائلًا لهما، قوما فإني لست أراكما تصدقان، وطلب من كل واحد منهما أن يُدخل رأسه في أحد ذلك الثقبين اللذين في الحائط وبعد أن لبّيا الطلب، أمر الإمام قنبرًا بأن يحضر سيف رسول الله وحينما أحضر قنبر السيف، قال له الإمام: يا قنبر، عجّل واضرب رقبة العبد منهما، فما كان من الغلام إلا أن أخرج رأسه من الثقب فورًا، بينما بقي السيد بمكانه ثابتًا حينئذٍ سأل الإمام الغلام: لمَ فعلت هذا؟ أما كنت تدعي أنك لست بعبد؟ فأجابه الغلام على الفور: بلى والله يا أمير المؤمنين، ولكنه ضربني وتعدى عليّ، وبهذا الأسلوب التحقيقي الرائع تحسّس هذان المحققان العبقريان «سليمان وعلي» نفسية كل متخاصم بطريقة هادئة، سليمة وتصرفا بحذق وروية من أجل إحقاق الحق وإعادة السهم إلى النزعة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
قراءة في كتاب "مقدمة ابن خلدون" (11) "الإسرائيليات" أساس التحريف والكذب والغرائب
نشر في العدد 2175
11
الأحد 01-يناير-2023