العنوان التحقيق الإجرامي عند العرب والمسلمين (الحلقة ٣)
الكاتب الأستاذ عبد الله الهاشمي
تاريخ النشر الثلاثاء 02-فبراير-1971
مشاهدات 18
نشر في العدد 46
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 02-فبراير-1971
تحقيق في جريمة نصب واحتيال
1- شكا شاب جماعة من الرجال خرجوا في سفر مع والده الذي لم يعد معهم بعد أن امتلأ قلبه شكًا بنبأ موته، وقاضاهم أمام القاضي شريح «رحمه الله» ولما لم تكن لدى الشاب أية بينة عليهم وهم منكرون، وجه القاضي شريح اليمين إليهم فأقسموها وقضى ببراءة الرجال؛ أخذًا بالقاعدة الكلية القائلة: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر».
أثر قرار القاضي المذكور في نفس الشاب أبلغ الأثر وحز في قلبه وعز عليه حقوقه وخانه جلده فأجهش بالبكاء، وبينما هو كذلك تصادف مرور أمير المؤمنين الإمام علي «كرم الله وجهه» وهو يجتاز الطريق ميممًا شطر المسجد ولمحه الغلام فهرع إليه وأبلغه ظلامته، وقال «يا ابن عم رسول الله» إن هؤلاء الرجال خرجوا في سفر مع أبي وعادوا إلاه، ولما استفسرتهم عما ترك من مال أجابوني قائلين: إنه لم يترك مالًا عندما توفي، ولما كان هذا الأمر من الأمور الرائبة رفعت شكواي إلى القاضي شريح فطلب مني البينة التي ما زالت يدي خالية منها، فاستحلفهم فحلفوا، فقضى ببراءتهم، فانظر في أمري، رعاك الله، واحكم لي بما يرضي الله، فلبى الإمام طلبه واتخذ ما يأتي من الإجراءات:
أ- أمر باستدعاء الشرطة فحضروا.
ب- أمر بتسليم كل واحد من الرجال إلى شرطيين لحراسته.
جـ- أمر بوضع كل واحد من الخصوم في مكان بعيد عن الآخر ومنع اتصال بعضهم ببعض.
د- أمر باستدعاء كاتب ضبط لتدوين الإفادات «سكرتير تحقيق كما يسمى في مصر حاليًا». فأحضر عبد الله بن أبي رافع «طيب الله ثراه».
هـ- طلب الإمام من الناس الحاضرين عدم مغادرة أمكنتهم ريثما ينتهي كما طلب منهم أن يكبروا بعده كلما كبر.
و- باشر التحقيق بنفسه باستدعاء واحد بعد واحد ووجه إليه الأسئلة التالية:
س: متى خرجت إلى السفر مع والد هذا الشاب «أشار إلى المشتكي»؟ وفي أي شهر؟ وفي أي سنة؟
جـ- خرجنا في تاريخ كذا من شهر كذا سنة كذا.
س: في أي مكان مات؟ وبمنزل من؟ ولماذا؟
جـ: مات في المكان الفلاني وبمنزل فلان ولإصابته بمرض.
س:ما مرضه، وكم من الوقت لازمه، ومن عالجه وفي أي يوم مات؟
جـ: ابتلي بالمرض الفلاني ولم يمهله إلا كذا يوم وعالجه من يدعى فلان وفي يوم كذا كانت وفاته.
س: من كفنه وفيم كفن ومن صلى عليه ومن أدخله القبر؟
ج: فلان کفنه وبقماش كذا كفن وصلى عليه فلان وفلان وفلان وأدخله القبر فلان.
س: ما نوع لباسه الذي كان يرتديه عند موته، وهل تصدقتم بملابسه أم أنكم بعتموها لسداد نفقات تجهيزه؟
جـ: كان يرتدي اللباس كذا وكذا وكذا ولا أعلم شيئا عن مصير ملابسه.
ولما انتهى من التحقيق مع الأول.. كبر الإمام وردد الحاضرون التكبير بعده، وعندما سمع رفاقه التكبير، من الإمام والمستمعين يتعالى، خفقت قلوبهم هلعًا وتيقنوا أن صاحبهم قد اعترف على نفسه وعليهم.
أمر الإمام بسوق الرجل إلى الحبس فسيق ومن ثم استدعى الثاني منهم ولما أحضر وباشر بتوجيه السؤال الأول له اعترف الرجل وقال: يا أمير المؤمنين، لقد كنت مكرهًا على الاشتراك في قتل هذا الشخص.. ثم روى كيف وقعت الجريمة ولأي الأسباب.. ولما انتهى من سرد الوقائع استدعى الثالث والخامس وإلى آخر واحد منهم ومن بعد الأخير طلب الرجل الأول من الحبس وأعاد استجوابه فاعترف كبقية رفاقه.
2- تقدم الغلام إلى الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب t شاكيًا وقال: يا أحكم الحاكمين احكم بيني وبين أمي. إنها أرضعتني بعد أن حملتني تسعة أشهر، ولما ترعرعت وأصبحت أميز بين الخير والشر وأعرف يميني عن شمالي، طردتني وانتفت مني زاعمة أنها لا تعرفني. ولما سمع الفاروق tكلام الغلام التفت إلى المرأة وقال لها يا هذه.. ما يقول هذا الغلام؟
فأجابته الامرأة: يا أمير المؤمنين والذي احتجب بالنور فلا عين تراه وحق محمد ما أعرفه، ولا أدري من أي الناس هو، وإنه غلام مدع يبتغي لي الفضيحة في عشيرتي، وإني جارية من قريش لم أتزوج قط وما زلت بخاتم ربي. وسألها الخليفة العادل t ألكِ شهود؟ فأجابته إيجابًا ثم قالت: هؤلاء إخوتي.. وتقدم الإخوة وقالوا: نشهد لها، فأمر الخليفة بإيداع الغلام الحبس حتى يسأل عن الشهود، فإن عدلت شهادتهم جلده «الغلام» حد المفترين.
وبينما كان الغلام برفقة الشرطة في الطريق إلى السجن، شاهد الغلام الإمام علي بن أبي طالب «كرم الله وجه» فناداه یا ابن عم رسول الله إنني مظلوم.
وحينما اقترب منه روی له ظلامته ثم انتهى إلى قوله، إن أمير المؤمنين عمر قد أمر بحبسي. أمر الإمام علي رجال الشرطة بإعادة الغلام إلى مجلس الخليفة، فامتثلوا ولما مثلوا مع الصبي بين يد الخليفة، سألهم عن سبب رده إليه بعد أن أمرهم بإیداعه الحبس...؟ فقالوا له، يا أمير المؤمنين، إن الإمام علي بن أبي طالب أمرنا برده إليك وقد قلت لنا بألا نعصي له أمرًا.. وبينما هم كذلك دخل الإمام علي المجلس وقال «عليّ بأم الغلام» فأحضرت.
سأل الإمام الغلام ثم سأل الأم.. وبعد أن أجاب کل واحد منهما على ما سئل التفت الإمام علي وسأل الخليفة الفاروق عما إذا كان يمنحه الإذن للنظر في هذا الأمر، فأجابه سيدنا عمر قائلًا: سبحان الله وكيف لا يا أبا الحسن وقد سمعت رسول الله يقول «أعلمكم علي بن أبي طالب».
باشر الإمام علي التحقيق سمع شهادات الشهود ثم توجه للأم يسألها: ألكِ ولي؟
قالت نعم، هؤلاء إخوتي فقال لإخوتها.. أمري فيكم وفي أختكم جائز؟ فقالوا نعم. عندئذ قال الإمام كرم الله وجهه أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين إني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمئة درهم والنقد من مالي.. ثم نادى خادمه قنبرًا وقال له: علي بالدراهم...! ولما جاء قنبر بالدراهم تناولها الإمام وصبها في يدي الغلام وقال له، خذها فصبها في حجر امرأتك ولا تأتيني إلا وبك أثر العرس، فنقد الغلام أمر الإمام وقام بصب الدراهم في حجر المرأة، ثم قال لها قومي...! عندئذ صرخت المرأة قائلة.. النار... النار يا بن عم رسول الله... تريد أن تزوجني من ولدي...؟
هذا والله ولدي.. زوجني إخوتي هجينا فولدت منه هذا الغلام، فلما كبر أمروني أن أنتفي منه وأطرده، هذا والله ولدي وفؤادي يتقلى أسفًا... ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت معه.
تحقيق في جريمة نصب واحتيال:
وهذا نموذج تحقيق آخر في تهمة نصب واحتيال قصد بها سيدنا الرسول الأعظم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي «عليه وعلى آله وصحبه المخلصين أفضل الصلاة والسلام» من قبل عمير بن وائل الثقفي وبإيعاز وإغراء من بعض رجال قريش «حنظلة بن أبي سفيان» وهذا وجيزها.
أغرى حنظلة بن أبي سفيان عميرًا بن وائل الثقفي بالدنانير والذهب وأوعز إليه أن يدعي بوديعة ثمانين مثقالًا ذهبًا أودعها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غادر مكة المكرمة، ويطالب علي بن أبي طالب بردها بوصفه وكيلًا له لرسول الله -صلوات الله عليه وسلم- فصدع عمير بالأمر، ونفذ المهمة هذه وجاء إلى الإمام على «کرم الله وجهه» زاعمًا ومطالبًا بردها لأنه يعرف الشيء الأكثر من خصال ابن عمه الأمين -صلى الله عليه وسلم-. لم يكذب الإمام علي ادعاء عمير إلا أنه طالب عميرًا أن يقدم ما عنده من بينة فوافق عمير وقدم للشهادة كلا من الذوات الآتية أسماؤهم، وهم:
۱- أبو سفیان.
۲- أبو جهل.
3- حنظلة بن أبي سفيان .
4- عقبة بن أبي معيط .
5- عكرمة .
طلب الإمام علي حضور عمير وشهود في الكعبة فحضروا وباشر التحقيق معهم واحدًا بعد واحد ابتداءً من عمير بن وائل الثقفي ووجه أسئلة عدة منها:
1- عمير بن وائل الثقفي:
س:أخبرني يا أخا ثقيف بأي الأوقات سلمت وديعتك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..؟
جـ: وقت الضحى.
س:من كان حاضرًا وقت الإيداع، وأين وهل احتفظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوديعة أم أرسلها إلى بيته مع أحد أصحابه لحفظها..؟
جـ: تسلمها مني في مجلسه وسلمها إلى عبده بحضور هؤلاء الشهود.
٢- أبو سفيان:
س: بأي الأوقات سلمت هذه الوديعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبل عمير؟
جـ: عند غروب الشمس.
س: وهل احتفظ بها في مجلسه أم دفعها لأحد؟
جـ: تسلمها بيده وتركها في كمه.
3- أبو جهل -لم يحضر- وقال: لست ملزمًا...
4- حنظلة بن أبي سفيان:
س: في أي وقت تم تسليم هذه الأمانة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
جـ: وقت وقوف الشمس في كبد السماء «ظهرًا».
س: هل احتفظ بها أم سلمها لأحد، وكيف كان شأنه معها؟
جـ: تركها بين يديه إلى الوقت الذي غادر مجلسه.
5-عقبة:
س: ما الوقت الذي تسلم رسول الله هذه الأمانة من عمير؟
جـ: كان الوقت عصرًا.
س: كيف كان ذلك، وهل احتفظ بها طيلة فترة جلوسه؟
جـ: تسلمها وأنفذها في الحال إلى داره.
٦ - عكرمة:
س: من سلم هذه الوديعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما وقت تسليمها؟
جـ: سلمها عمير بن وائل الثقفي عند بزوغ الشمس.
س: هل احتفظ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة مجلسه أم سلمها لأحد من أصحابه؟
جـ: بعد أن تسلمها من عمير بعث بها في الساعة نفسها إلى بیت فاطمة.
وعندما انتهى الإمام على من استجواب الشاهد الأخير نظر إلى عمير بن وائل الثقفي وشاهد الصفرة قد علت وجهه بعد افتضاح السر على إثر سماعه أقوال شهوده المتنافرة وسأله عن سبب تغير حاله، فأجابه عمير بن وائل الثقفي معترفًا وقال: إن القوم حملوني على هذا، وقدموا لي الأجر مقدمًا وهذا هو.. وأظهر الدنانير والقلادة العائدة لهند وعليها اسمها منقوش.
بهذا الأسلوب الهادي الرزين تمكن هذا المحقق العبقري من إظهار الحقيقة بعد أن غلفها خصوم النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بغلاف الباطل.
حقدت امرأة على ضرتها حقدًا شديدًا وأرادت التخلص منها، وقادها حقدها الدفين الأعمى إلى تدبير جهنمي دبرته بليل وكان:
اغتنمت زوجة غياب زوجها عن البيت في سفره قصير الأمد وأحضرت بيضة وأفرزت محتها «صفار البيض» وأبقت زلالها «بياض البيض» وفي غفلة من ضرتها دلفت إلى مخدعها وقامت بصب زلال البيض على فراشها ونيمها «ثوب النوم» وغادرت المكان سرًا. وبعد فترة من الوقت قصيرة ادعت أن رجلًا غريب بات عند ضرتها ليلة غياب زوجها.
رفع الأمر إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر بعرض النيم للاطلاع -الفراش الذي تلوث للاطلاع- عليه باعتباره أثرًا للجريمة المرتكبة. ولما عرض عليه وشاهده هم الخليفة الفاروق رضي الله عنه بمعاقبة الضرة جزاءً وفاقًا لما اقترفته، إلا أن الإمام عليًّا «كرم الله وجه» استمهله وطلب إحضار ماء مغلي، فجيء به إليه، فتناول الإبريق وصار يريق الماء المغلي منه على موضع الأثر فاشتوي الزلال «بياض البيض» فتناوله بعضًا منه وتذوقه وتبين له كونه زلالًا فلفظه وقال للزوجة المدعية: إن هذا من كيدكن، إن كيدكن عظيم. وهكذا وبتكلم الأساليب الفنية الرائعة والأسئلة الجوهرية الممتازة، وذلك الفحص والتحليل البسيط استطاع هذا المحقق العبقري الفذ أن ينفذ إلى أعماق النفس بيسر وسهولة ويغوص فيها ليستخرج منها ما دفن، وما أخفي، وبذلك التحليل العلمي أخذ واستمد الدليل.
إن دلتنا هذه الإجراءات وتلك الأساليب التحقيقية التي عرضناها على القدرة والقابلية والتفاني من أجل إحقاق الحق ونشر العدالة، فإنها توحي إلينا وتؤكد أن التحقيق لم يكن مقتصرًا على مجرد المعرفة النظرية فحسب وإنما هو يعني كل ما تفضي إليه هذه المعرفة وتتطلب من حركة وكشف وابتکار، شأنه شأن من يطور أساليب الزراعة والصناعة والتجارة، كما هو ظاهر لنا من قيام الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بتطوير هذا العلم وأحكام علاقته بالعلوم الأخرى، فكان أول من أخذ بنتيجة الفحص والتحليل واعتبر ذلك دليلًا لا يرقى إليه الشك.
وفي المقال التالي سنبحث في موضوع البحث الفني عند العرب ودور القوانين «3» «قصاص الأثر - «المري» «۳» وأشهر المحققين في الإسلام بعونه تبارك وتعالى وهو من وراء القصد، ورحم الله من سمع الحق فوعى والسلام عليكم ورحمة الله ورضوانه.
السيد/ عبدالله الهاشمي الكويت - المرقاب ۱۱ شعبان ۱۳۸۹
1- النيم - ثوب النوم.
2- القوافون - جمع قواف والقواف هو ذلك الشخص الذي يتتبع الآثار ويعرفها.
3- المري – الشخص المنسوب إلى قبيلة بني مرة. وقد امتاز أبناء هذه القبيلة بتتبع آثار الأقدام ومعرفة صاحبها وضلعوا في التقفي وصار الآباء منهم يدربون أبناءهم على ذلك منذ الصغر فإذا ما شب الواحد منهم عن الطوق استعین به ولهذه البادرة أصبح يطلق على من يقتفي الآثار وينسب لاسم «المري» - في بعض الأقطار العربية (كالكويت، الأحساء، نجد، الحجاز) مجازا.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلمن أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
نشر في العدد 10
25
الثلاثاء 19-مايو-1970