; التراث في رؤية عصرية.. الإمتاع والمؤانسة (٤) | مجلة المجتمع

العنوان التراث في رؤية عصرية.. الإمتاع والمؤانسة (٤)

الكاتب محمد حسن عبدالله

تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1987

مشاهدات 29

نشر في العدد 846

نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 08-ديسمبر-1987

 

·        المسامرة في زماننا ترادف الفكاهة والابتذال، وهي لا ترقى إلى مخاطبة العقل الناضج

«الإمتاع والمؤانسة» هو الكتاب القديم الذي نعنى به -في هذه الكلمات- وكما هو واضح من عنوانه فإن موضوعاته متنوعة، وقد طرحت عن طريق السرد حينًا، والحوار حينًا آخر، في مجلس الوزير أبي عبدالله العارض، وهدفها واحد هو الإمتاع والمؤانسة لهذا الوزير، وجلسائه من خاصته، وسيكون مجلس السمر هذا بمثابة مفتاح للقضية الحاضرة، التي ينير الكتاب طريقنا إليها.

مؤلف «الإمتاع والمؤانسة» هو أبو حيان التوحيدي، وأحد من أفذاذ الفكر والأدب والفلسفة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وهذا القرن الرابع يمثل قمة ما بلغته الحضارة العربية الإسلامية، إذ كانت خمائر وبذور القرون السابقة قد آنت ثمارها يانعة، وعلى الرغم من الضعف السياسي والعسكري الذي أصاب دولة الخلافة في تلك الفترة، فإن هذا الضعف لم يكن بلغ درجة التحلل أو السقوط.. كان البويهيون أقوياء، محافظين على كيان الدولة، ولم يكونوا عربًا، ولكنهم زينوا مجالسهم بالمفكرين والشعراء، واستوزروا أهل الفصاحة واللسن، ومحبي الثقافة والفكر، ومنهم أبو عبدالله العارض الذي شهد مجلسه مناظرات ومسامرات راقية. كان أبو حيان التوحيدي نجمًا من نجومها، وكان الإمتاع والمؤانسة ثمرة من قطوفها الشهية.

ولأن الكتاب من كتب الأسمار وتبادل الحوار، فإن مادته خضعت لتقسيم وتنوع يتناسب وهذه الظروف الخاصة، فجاء في ثمانية وثلاثين سمرًا، جرت في ثمانٍ وثلاثين ليلة، كما جاءت هذه الأسمار متنوعة في موضوعاتها، فهي تتجدد كل ليلة على نحو مختلف بل إنها قد تجمع في الليلة الواحدة بين أكثر من موضوع تربط بينها مناسبة عامة، مجرد الاستطراد، كما يأتي بعضها دون مناسبة أصلًا إلا الرغبة في التنويع، ونفي الملل عن حاضري المجلس، ودقة الملاحظة، واتساع المعرفة لدى أبي حيان.

 لقد تنوعت الأسمار في «الإمتاع والمؤانسة» بدرجة تجعل من الصعب علينا أن نكتشف طابعًا أو تصنيفًا محددًا لهذا الكتاب، إذ ينطوي على صور رائعة لشخصيات من مشاهير العصر، صورها أبو حيان من زاوية الرضا عنها أو السخط عليها، تصويرًا مثيًرا، لعله كان وراء الحظ القاسي الذي واجهه أبو حيان في حياته، إذ إن غمزاته ولمزاته البارعة لم تجعل له صديقًا، فخسر نفسه وربح فنه، وكما حاول أن يرسم صور الأشخاص بخطوط قليلة صادقة الإيحاء، كما يفعل الرسام الماهر بقلم الفحم مثلًا، فكذلك رسم صورًا للشعوب، للعرب والفرس والهند والروم، تدل على اتساع معرفته بطبائع البشر، وقوانين التطور، وعلاقة البيئة الجغرافية بأخلاق وخصائص أهل البيئة.

كما طرح أبو حيان أمورًا وقضايا فلسفية، فعرض للنفس ماهيتها وسر خلودها، ومعنى الجبر والقدر وإخوان الصفاء وأسرار فلسفتهم، كما يعقد عددًا من المقارنات أو المحاورات شاهد بعضها وأحس بأهميته فنقله إلينا، وكان المصدر الأول لهذا الحفظ، ونشير بخاصة إلى تلك المحاورة المشهورة بين أبي سعيد السيرافي، وأبي بشر متى بن يونس القنائي، وقد جرت في مجلس الوزير ابن الفرات، عن الأصل في العلوم وفي حفظ ملكة التفكير، فرأى متى بن يونس أن هذا الأساس موجود في المنطق اليوناني، فلا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين إلا بالمنطق.

وقد تصدى السيرافي لهذا الزعم العريض، حتى انتهى بالمحاورة إلى أن العقل أكبر من المنطق، وأن المعاني مشاعة بين الأمم وليست وقفًا على اليونان، فضلًا عن أرسطو صاحب المنطق ثم ينتهي إلى أن دراسة اللغة لا مندوحة عنها، وهي باب للفهم الصحيح، فبغير مادة الفكر لن تصل إلى حل لأية مشكلة، والمنطق الصوري المجرد لن ينهي أي خلاف بين متناظرين، ولن يوصل إلى يقين، وخلاصة رأي السيرافي أن دراسة المنطق دون دراسة اللغة لن تجدي نفعًا.

 ومهما يكن من أمر فإن هذه المحاورة على خطرها، لم تكن الوحيدة في الإمتاع والمؤانسة، فهناك أخرى عن علم الحساب والبلاغة، أيهما أنفع؟ وثالثة تقوم على مناظرة بين الشعر والنثر، هذا فضلًا عن معلومات شتى عن أنواع من الحيوان، مع تنظير بالإنسان أرقى فصائل الحيوان، وهذا التنظير يشمل النواحي العضوية والسلوكية، كما اهتم بأهم قضايا عصره، وهي العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ولم يكن اهتمامه بفلسفة إخوان الصفاء، والصراع بين علوم يختلف المروجون لها، وتصويره لرجالات عصره وطبائع الأمم المتصادمة على قيادة الأحداث إلا اهتمامًا مستمرًا بأهم قضايا العصر من أكثر من زاوية.

 ونكتفي بمثال واحد لتصويره لواحد من مشاهير العصر، وهو الوزير ابن عباد، ماذا قال عنه أبو حيان بلسانه اللاذع: «إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان». ثم يجاوز هذا الإجمال الذي يوهم المدح والرضا إلى تفصیل جارح، فابن عباد محب للثناء إلى درجة الإسراف وإلى درجة التزييف، حتى إنه يمدح نفسه بشعر، ثم يعطيه لمن يلقيه كأنما هو شعر قيل فيه من سواه، ولهذا فإنه إنسان مريض النفس، جمع بين العقل والحمق.

وحين يعرض أبو حيان إلى ما تشترك فيه الأمم وما تختلف، يرى أنها تشترك جميعًا في الفطرة الواحدة، ثم تأتي بعد ذلك أوجه الاختلاف، فاليونان يميزهم الفكر، والهند يميزهم الوهم ويعني به الخيال، والعرب ميزتهم الفصاحة، والفرس السياسة، والترك الشجاعة، ثم هو يربط هذه المزايا أو المميزات بالبيئة الطبيعية والنظام الاجتماعي الذي تعيش في ظلاله أمة معينة، فعن تميز العرب بالفصاحة، يقول: «إن العرب أهل بلد قفر، ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم إلى فكره ونظره، وعقله» ثم يمضي مع هذا الربط بين الإنسان والبيئة لينتهي إلى تحديد الخصال العربية الرفيعة التي كانت نتيجة مباشرة للمعيشة في الصحراء، وللنظام الاجتماعي الذي انتظم وجودهم.

وبعد، فإن المادة المتنوعة في الإمتاع والمؤانسة أغزر من أن تحيط بها هذه الكلمات المتعجلة، التي لن تغني عن العودة إلى الأصل، وكل ما ترجوه أن تثير الرغبة في الاتصال بالكتاب نفسه، بعد إثارة الحديث عنه. غير أننا، ونحن في عصر نهضة عربية تتلمس إلى التجديد طرقًا شتى، وتبحث عن صيغ جديدة في كل المجالات نتلفت حولنا نبحث عن أدب المسامرة، فلا نكاد نجده. لقد تحول إلى مسخ مشوه أو يكاد..

إن المسامرة في زماننا ترادف الفكاهة والابتذال، فإذا ارتقت عن ذلك فهي مجرد مداعبات وطرائف، لا ترقى إلى مخاطبة العقل الناضج والذوق المثقف والنفس الرفيعة.

ولسنا نشك في أن هذا النوع من المجالس الذي عاشه أبو حيان في ظل الوزير أبي عبدالله العارض، له أشباه كثر في زماننا، فلا تزال الأمة بخير، ولا تزال العقول تتحاور وتبدع وتطرف بكل جديد نادر، ولكن شيئًا من ذلك لا ينشر على الناس، أو لا ينشر الجاد منه على الناس.

إن رواج الفكاهة والمجون وحكايات الخلاعة جعل الجادين يحجمون عن نشر تجاربهم، وحوارات مجالسهم، وما أحوجنا إلى ذلك لبناء العقل العربي الحديث؛ ولتصحيح الفكرة عن المجالس ولنشر الجدية والذوق العام فيما يقرأ الناس، ولتصويب الفكرة عن الجدية ذاتها، فليس الجاد بالضرورة هو المتجهم الثقيل، وقد كان أبو حيان في الإمتاع والمؤانسة مثلًا بازغًا للجدية، ولروح الفكاهة والإنسانية وسعة الأفق في نفس الوقت.

الرابط المختصر :