; التربية الذوقية (1) | مجلة المجتمع

العنوان التربية الذوقية (1)

الكاتب أ. د. سمير يونس

تاريخ النشر السبت 01-أغسطس-2009

مشاهدات 13

نشر في العدد 1863

نشر في الصفحة 56

السبت 01-أغسطس-2009

(*) أستاذ المناهج والتربية الإسلامية المساعد

الذوق يضفي جمالاً خلابًا على سلوكيات الإنسان ومعاملاته فيستطيع أن يخترق الحواجز ليصل إلى قلوب الناس

هذه كلمات تحاول أن تَسْبِرَ غَورَ النفس البشرية، وتنمي مواطن الجمال والرقي في هذه النفس، التي أبدع البارئ في خلقها فجاءت شفافة مليئة بالأسرار، وهي بطبيعتها - أي النفس البشرية - تحتاج دائما إلى تطهير وترقية وتنقية وتحلية وتخلية وتزكية، لذا فقد أقسم بها خالقها في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَاهَا﴾ (الشمس).

والذوق يضفي جمالاً خلاباً على سلوكيات الإنسان ومعاملاته، فيستطيع بذلك أن يخترق الحواجز، ويتجاوز المعوقات، ليصل إلى قلوب الناس وعقولهم فيحبون ذلك الإنسان أو يقربونه، ويجذبهم إليه، ويأسر نفوسهم؛ وذلك لأنه كريم في ذوقياته، فينبهر به الجميع لحسنه حتى من يحسدونه يأسرهم بكرمه وذوقه كما قال الشاعر:

إن الكريم كالربيع تحبه للحسن فيه

وإذا تحرق حاسدوه بكى ورق لحاسديه

كالورد ينفح بالشذى حتى أنوف السارقيه

والسؤال الآن: ما الذوق؟

ومعنى الذوق: الذوق لغة: هو إدراك طعم الشيء بواسطة الرطوبة المنبثقة بالعصب المفروش على عضل اللسان، يقال: ذقت الطعام أذوقه ذوقا وذوقانا ومذاقا إذا عرفته بتلك الواسطة ... (الفيومي : المصباح المنير).

وإذا كان الأساس في استخدام كلمة الذوق أساساً حسيا هو الشم، فإن كلمة الذوق نقلت من موضعها الأصلي وأساسها هذا واستعيرت لتستخدم في الإحساس العام لدى بقية الحواس، من سمع وبصر ولمس بل نقلت واستعملت في مجالات معنوية أخرى متعددة، كالإحساس بالألم، والحزن والكآبة، أو الراحة، والفرحة والسعادة.

ثمرتا الذوق

للذوق ثمرتان إحداهما تعود على من يتصف به، وأخرى لمن يستفيد منه، فأما أهميته لمن يتصف به ويمارسه بطبيعته وسجيته، فتكمن في أن الذوق يجعل صاحبه محبوباً لدى الآخرين، ويمنحه تقديراً وتوقيرا من غيره، فيشعر برضا ربه وحب الناس له، فيعيش سعيدا مطمئنا يحقق الرضا الذاتي والتكيف الاجتماعي والنفسي.

وأما ثمرة الذوق لمن يستفيد منه فتبرز في كون الناس مفطورين على أن يحسن الآخرون معاملتهم، فذلك يحقق لهم راحة نفسية، ويشعرهم بحب من يعاملهم بالذوق وتقديره لهم، وهذا أيضا يدخل على نفوسهم بشاشة وسعادة ورضا.

ولأهمية الذوق في سلوك الإنسان أوصى به المربون والعلماء والحكماء، ومن هؤلاء «القرافي» في كتابه «الفروق»، حيث يقول: واعلم أن قليل الأدب خير من كثير العمل ولذلك قال «رويم. - وهو عالم صالح - لابنه يا بني اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقا. ويقصد هنا نصح ابنه بأن يكثر من الذوق والأدب حتى تكون نسبته من حيث الكثرة نسبة الدقيق إلى الملح في العجين.

واقع الذوقيات في حياتنا

تنطق مواقف حياتنا بماس آلت إليها سلوكيات الناس، فقد يصر جارك على رفع صوت التلفاز أو المذياع، فيقرع أذنيك بأصوات تعكر صفوك، وتؤرق نومك، وتشتت فكرك وتستثير أعصابك، وقد يقف آخر أمام سيارتك، فتخرج لتتوجه إلى عملك أو قضاء مصلحة فلا تستطيع !!

وقد يزورك آخر فلا يلتزم بآداب الزيارة، وقد يأخذ شخص منك كتاباً دون أن يستأذنك، ثم يرده ممزقا، وقد يستخدم الزائر هاتف بيتك دون إذنك، وتكون زوجتك - مثلا - تهاتف أمها أو أختها أو صديقتها، وقد يعطس آخر في وجهك أو يتثاءب، وقد تفتح أوراقك في مكتبك أو في طائرة لتطلع عليها فتجد من يجالسك يسترق النظر إليها.. إلى غير ذلك مما تضج به معاملات الناس وتصرفاتهم.. فما أسباب هذا التردي في ذوقيات الناس؟

أسباب ضعف الذوقيات

لضعف الذوقيات أسباب كثيرة، لعل من أهمها:

۱ - غفلة الناس عن أهميتها.

۲ - البيئة التي نشأ فيها الإنسان، فإن كان قد نشأ في بيئة جافة الطباع، لا تراعي الذوق ولا تمارسه اكتسب تلك الغلظة وهي الجفاء كما قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه

3 - قصور الأداء التربوي للمؤسسات والوسائط التربوية في المجتمع، وعلى رأسها الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد.

4- غياب القدوة، وضعف اهتمام التربويين بها، وعدم اهتداء المتعلمين إليها، وهذا على عكس ما كان متبعا في التربية الإسلامية قبل عصرنا هذا، يقول الذهبي: «كان يجتمع في مجلس «أحمد» زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.

5- غياب التناصح بهذا الأمر، فبعض الناس - ومنهم بعض الدعاة - يعتبرون الكلام عن أهمية الذوق في المعاملات والسلوكيات من باب الترف والكماليات التي لا يتسع الوقت لها.

٦ -انتشار هذا الداء بين الناس، والفهم له، مما جعل كثيراً منهم يعتبره من الأمور العادية المستساغة والمقبولة.

7- اعتقاد بعض الناس أن الذوقيات أمور فطرية يخلق الإنسان بها ولا تكتسب، ومن ثم فلا جدوى - في نظرهم - من علاج الأمر أو تنمية الذوقيات لدى الأشخاص.

وهذا الاعتقاد يمكن الرد عليه بأن الأخلاق لو كانت فطرية لما رغبنا الإسلام فيها ورهبنا من سوئها وحذرنا، لكن الشواهد تؤكد أن التربية السديدة الراشدة تحسن الأخلاق، وقد شهدنا رسولنا الكريم ﷺ وقد نقل الناس من سوء الأخلاق إلى أحسنها بعد أن رباهم وهذبهم، ونزع من صدورهم ونفوسهم نوازع الجاهلية وأخلاقها.

من مجالات الذوقيات

أولاً: الذوق في المظهر العام للإنسان، فمن الذوق أن تلبس لباسا حسناً جميلاً نظيفاً وقوراً، ورسولنا الكريم قدوة لنا في ذلك، إذ كان يفضل اللباس الأبيض، ويدعو الرجال إلى اللباس المناسب البعيد عن الميوعة، كما دعا المرأة إلى إحسان لبسها، وقد أمر القرآن الكريم بني آدم بأخذ الزينة: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد﴾ (الأعراف: ۳۱).

وقد دعا الشرع إلى تجنب بث الرائحة الكريهة، فنهى عن أكل الثوم والبصل لمن سيتوجه إلى مكان فيه جماعة (كالمسجد مثلاً)، وحث على الاغتسال في يوم الجمعة والأعياد، ودعا الرجال إلى عدم التشبه بالنساء في الزي والحديث والحركة، أو التشبه بالمنحرفين في قصات الشعر أو تكسيره، وكذلك دعا المرأة إلى التزام السمت الإسلامي الذي شرعه الله لها.

ثانيا: ذوقيات التعامل مع أفراد بيتك فللزوجة النصيب الأولى من ذوق زوجها وذلك من توجيهات نبينا الكريم لقوله استوصوا بالنساء خيراً، وقوله أيضاً: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي...» فزوجتك هي صاحبتك في طريق الحياة فمن الذوق أن تحسن معاملتها، وتحرص على أناقتك ورقيك في مخالطتها، وأن تثني على صنيعها، وتبدي حبك لها، وتعطيها حقها من الوقت والاهتمام، ومن قلة الذوق أن يظل الزوج يهدد زوجته دائماً بالزواج عليها أو بتطليقها، أو بأية صورة أخرى من صور التهديد والتهديد.

ومن الذوق أن تحسن تسمية أولادك ورعايتهم والتودد إليهم، وإشباعهم حباً وحنانا، وذلك بإحسان التعامل والحوار، أو برسائل الهاتف أو بالرسائل عن طريق البريد الإلكتروني، وأن تحترم آراءهم، وأن تناقشها بهدوء حتى وإن خالفت رأيك، وألا تسفه تفكيرهم حتى إن كان تافها، بل تناقشه محترما شخصياتهم، مبينا لهم سلبياته وعواقبه، ومن الذوق أيضاً أن تتجاوز أحياناً عن هناتهم، وأن تعتدل في نقدك إياهم فلا تسرف في ذلك؛ لأنه ينفرهم منك، ولله در الشاعر، إذ يقول:

تسامح ولا تستوف حقك كله *** وأبق فلم يستوف قط كريم

ولا تعد في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

يقول ابن الأثير رواية عن صلاح الدين: بلغني أنه كان جالسا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضهم بقشر موز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها (ابن الأثير الكامل في التاريخ).

ثالثاً: الذوق في معاملة الخدم وفي هذا المجال أسوق نموذج القمة، ألا وهو أداء رسول الله مع خادمه أنس بن مالك، حيث يصف معاملة النبي له، فيقول: خدمت النبي ﷺ عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته؟ ...

وكان رسول ﷺ من أحسن الناس خلقاً، ولا مَسَسَتُ خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي ﷺ» (رواه الترمذي)، وهو حديث حسن صحيح.

إن هذه الكلمات التي ذكرها أنس إنما هي حجة على من يسيؤون معاملة الخدم، أو العمال الذين يعملون لديهم، أو يسيؤون معاملة جيرانهم وزملائهم وأقاربهم.

رابعاً: الذوق مع حارس البيت (البواب): رأيت أناسي ضعيفي الخلق يتعالون على الناس ويخاطبونه وكأنه عبد لديهم، وينسون أنه إنسان كرمه ربه.

وهناك من كرام الناس من يتعامل برفق مع الحارس، ولكن يغفل عن صل إلى قلوب ذوقيات كثيرة حتى في أثناء البذل والعطاء !!

والحق أن الذوق ينبغي أن يكون جمالا ملازما لسلوك الإنسان مع الناس كافة، قال ربنا عز وجل: ﴿ادفع بالتي هي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حميم (٣٤)﴾ (فصلت).

وأذكر هنا موقفاً لفضيلة الشيخ علي الطنطاوي، ولندعه يصف الموقف بنفسه حيث يقول: «لقد رأيت ابنتي الصغيرة (بنان) من سنين تحمل صحنين، لتعطيهما الحارس في رمضان، قلت: تعالي يا بنيتي هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيفا، وقدميها إليه هكذا، إنك لن تخسري شيئاً، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت له الصحن والرغيف كسرت نفسه، وأشعرته أنه كالسائل (الشحاذ)، أما إذا قدمته في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره، ويحس كأنه ضيف عزيز ...»

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

النفس كما يصورها القرآن الكريم

نشر في العدد 29

17

الثلاثاء 29-سبتمبر-1970

خاطرة (العدد 296)

نشر في العدد 296

14

الثلاثاء 20-أبريل-1976