العنوان الجذور التاريخية لأحداث الفلبين
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 18-يوليو-1972
مشاهدات 14
نشر في العدد 109
نشر في الصفحة 18
الثلاثاء 18-يوليو-1972
الجذور التاريخية لأحداث الفلبين
للمؤرخ المعاصر الدكتور قيصر أديب مخول
لما هبطت بعثة التحقيق المصرية- الليبية مطار مانيلا، استقبلها الطلاب المسلمون بلافتات كتب عليها: أغيثونا!! وحتى نشاهد رد فعل «معتصم القرن العشرين» فإننا سنظل نتحدث عن مذابح الفلبين ما دامت المذابح مستمرة..
والحديث عن مذابح الفلبين ذو قيمة «أكاديمية» على الأقل! فهو واقع ماثل ونموذج صريح للحرب الصليبية المباشرة «بدون لف ودوران». والمقال التاريخي الذي نقدمه اليوم كتب قبل الأحداث الأخيرة بسنين طويلة، ويخص منطقة جنوب شرق آسيا بأجمعها وليست الفلبين وحدها.
وجميع مراجعه غربية وتعتمد على وثائق الغزاة الذين عاصروا الأحداث وصنعوها.
وقد جاء في إحدى الوثائق أن الكاهن «بورتيون» أقام «قداس شكر» في روما بمناسبة سقوط «مالاكا» على أيدي المسيحيين، وقال في خطبته التي شهدها «ليو العاشر» إن هذه الغزوة ستسهل استعادة القدس!! فهل هناك أي معنى لشغل العالم الإسلامي بمذابح جديدة هناك أثناء احتلال القدس؟؟
وهذا المقال التاريخي يثبت أن احتلال ممالك جنوب شرق آسيا الإسلامية من قبل الاستعماريين الصليبيين كان امتدادًا للحرب الصليبية التي سبقته بقليل وأن المعارك التي دارت هناك كانت تزكيها نفس الروح التي دفعت بالجيوش الصليبية إلى القدس وأن الإسبان والبرتغاليين، الذين قدموا إلى جنوب آسيا هم بقايا الجيوش المسيحية التي دمرت حضارة الآندلس الإسلامية.
فهل يجد القارئ في ذلك تفسيرًا للحقد الأسود الذي يزكي مذابح الفلبين اليوم، وبيانًا لطبيعة الصراع الدائر هناك؟؟
أما الكاتب فقد قالت عنه مجلة «سليمان العلمية» إنه من ألمع المؤرخين المعاصرين في آسيا. وهو فلبيني من أب دمشقي وأم فلبينية، نشأ مسيحيًّا ثم استقام على الإسلام. وقد حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة كورنيل بأميركا، ويشغل منصب عميد الكلية الجامعية وأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة الفلبين، وهو إلى جانب ذلك نائب رئيس المكتب التنفيذي في اتحاد المؤرخين الدولي بآسيا.
من الواضح أن كتاب القرن السادس عشر البرتغاليين نظروا للخلاف بين البرتغاليين وتجار وأمراء المسلمين على أنه وجه من وجوه التناقض بين المسيح «عليه السلام» ومحمد «صلى الله عليه وسلم»، إلا أن نظريتهم هذه هي خليط من عوامل دينية واقتصادية، والكتّاب الذين ذكروا الخلاف بين الإسبان والفلبينيين المسلمين، مثل «نجيب صليبي وفيك هارلي مور» ألمحوا إلى أن هذا الخلاف هو امتداد للحروب الصليبية وبخاصة الحرب بين المسيحيين والمسلمين في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، ويردد هذا القول «شريكي» حين يكتب عن إسلام ماليزيا.
وفيما يلي مناقشة لوجهة نظره:
يعترف «شريكي» أن التزاوج بين التجار المسلمين والعائلات الماليزية الحاكمة كان عاملًا من عوامل الانتشار التدريجي للإسلام هناك، إلا أنه ليس العامل الوحيد، فعدد الذين أسلموا عن هذا الطريق ليس كبيرًا إذا ما قارناه بالمجموعات الضخمة من السكان الذين أسلموا، وكانوا- بصورة عامة بعيدين اجتماعيًّا وجغرافيًّا عن تلك العائلات الحاكمة، بالإضافة إلى ان التجار المسلمين لم يسكنوا بصورة دائمة هناك ولم يختلطوا اختلاطًا عميقًا بعامة الناس.
لذا يجب التفتيش عن عوامل أخرى، وهذه العوامل- كما يقول- هي العداوة بين البرتغاليين القادمين والتجار المسلمين والتي لم يكن سببها التنافس التجاري فقط، بل التناقض الديني.
ويقول شريكي بالنص :
وقوتان متحاسدتان متباغضتان لا يمكن أن تتصالحا أبدًا!! مسيحية القرون الوسطى.. والإسلام، تواجهت القوتان وكل واحدة لا تقل تطرفًا وعزمًا في موقفها عن الأخرى.
ولقد وضع الزعماء المسلمون خلافاتهم المزمنة... على الرف مؤقتًا، ليواجهوا الخطر المشترك الذي يهدد مصالحهم، وهذا يفسر كيف أن المتطوعين الأتراك والمصريين ذهبوا إلى ماليزيا جنبًا إلى جنب لمحاربة البرتغاليين. من الجانب الآخر كان «البوكرك» - البرتغالي - يريد إنجاز مشروعين من مشاريعه قبل موته، أما المشروع الأول فهو:
« تحويل مياه النيل!! إلى البحر الأحمر ليحرم مصر من إرواء أراضيها ويخرب شبكة الري التي كانت قائمة فيها آنذاك»..
أما المشروع الثالث فهو:
«احتلال (المدينة المنورة) في شبه جزيرة العرب لينهب قبر الرسول... من... كنوز!! ويسرق رفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويجعله رهينة حتى يتخلى المسلمون عن الأماكن المقدسة في فلسطين.
وخطاب «البوكرك» قبل هجومه الثاني على مالاكا سنة ١٥١١ يظهر أيضًا الخلط بين المشاعر الدينية والمصالح الاقتصادية في نفوس البرتغاليين قال البوكرك:
«الأمر الأول هو الخدمة الكبرى التي سنقدمها للرب عندما نطرد المسلمين من هذه البلاد؛ ونخمد نار هذه الطائفة المحمدية حتى لا تعود للظهور بعد ذلك أبدًا!!... وأنا شديد الحماس لمثل هذه النتيجة، فإذا استطعنا الوصول إليها فسيترك المسلمون الهند كلها لنا، إن غالبية المسلمين- وربما كلهم- يعيشون على تجارة هذه البلاد ولقد اغتنوا وأصبحوا أصحاب ثروات ضخمة، و«مالاكا» هي مركزهم الرئيسي، فمنها ينقلون كل عام التوابل والأدوية إلى بلادهم دون أن نستطيع منعهم، فإذا تمكنا من حرمانهم من هذه السوق القديمة لا يبقى لهم ميناء واحد أو محطة واحدة مناسبة في كل هذه المنطقة، ليستمروا في تجارتهم، وأؤكد لكم أنه إذا استطعنا تخليص «مالاكا» من أيديهم فستنهار القاهرة... وبعدها تنهار مكة نهائيًا!!».
وبغض النظر عن ترتيب درجة أهمية العوامل التي أدت إلى احتلال «مالاكا» فإن انتصار البرتغاليين فيها استدعى إقامة «قداس شكر» في روما عام ١٥١٥، وفي الخطبة التي ألقاها بهذه المناسبة «كاميلو بورتيون أمام «ليو العاشر» أثنى على هذه الغزوة وقال إنها ستسهل استعادة القدس!! وفسر كيف أن «الصليب» وصل إلى أماكن بعيدة واتهم سلطان مالاكا بأنه «مسلم»!! متعصب!! يكره المسيحيين. وينادي بحرب صليبية جديدة لاحتلال القدس».
ونرى بوضوح أن الخطبة تدل على أن الروح الصليبية كانت لا تزال قوية في نفوس قسم كبير من مسيحيي أوروبا، ولقد جاء سقوط «مالاكا» بعد ما يقرب من عشرين عامًا فقط من تهديم مملكة «غرناطة» المسلمة في الأندلس وكان تهديد العثمانيين لشرق أوروبا في تلك الفترة يزداد شدة، خصوصًا بعد سقوط القسطنطينية عام ١٤٥٣.
ونستطيع أن نأخذ آراء «تومي بيرس» مقياسًا صحيحًا لمشاعر المفكرين البرتغاليين في تلك الفترة من التاريخ، كتب بيرس لـ«مانويل» ملك البرتغال: «إن (البوكرك) يقاتل ضد (محمد صلى الله عليه وسلم)»، ومن الواضح أن قوة «الرب» ! تساعده؛ لأن الرب يرغب أن تترسخ جذور المسيحية في سائر أنحاء مملكتك» ثم يذكر «بيرس» مالاكا فيقول: «وبقدر ما لمالاكا من فائدة دنيوية فإن لها نفس الفائدة الدينية فإن «محمدًا» صلى الله عليه وسلم- محاصر ولا يستطيع أن يتوسع بعد الآن... بل سيهرب بأسرع ما يمكن».
ويقترح «بيرس» على ملك البرتغال أن يتحالف مع إسماعيل «شاه إیران» لأن هذا الأخير كان مخاصمًا للعثمانيين.
يقول «شريكي»:
«ما إن احتل البرتغاليون مالاكا عام ١٥١١ حتى جعلوا الأرخبيل ميدانًا لصراعهم مع الإسلام والتجارة الإسلامية؛ وصاحب هجماتهم الحربية نشاط تبشيري مسيحي مركز، وهذا ما دفع خصومهم المسلمين لينشطوا بدورهم في الدعوة للإسلام».
وتوحي نظرية «شريكي» بأن نشاط الدعاة المسلمين الواسع كان لمقاومة النشاط التبشيري المسيحي الذي قام به البرتغاليون، وأن مقاومة حكام ماليزيا للبرتغاليين اتخذ سمة الجهاد، وكان المسلمون أحسن وضعًا من البرتغاليين في هذا المجال، إذ كان لهم رصيد سابق، ولقد دعم سقوط مالاكا مركز «آتشيه» وأبرزها على بقية الإمارات الإسلامية الأخرى.
وفي سنة ١٥٢١ أطلقت بروني صيحة الدعوة لإسلام جاراتها، وفي سنة ١٥٣٩ أعلن السلطان علاء الدين ريات شاه «سلطان آتشيه» حربًا واسعة على وثنيي «باتاك»، وفي عام ١٥٧٥ دمر «باب الله» سلطان «ترنيت» كل ما أنجزه المبشرون البرتغاليون، وتابع ما بدأه أبوه السلطان هارون في ميدان العمل الإسلامي.
وكان الدعاة المسلمون في «بورنيو» يبذلون جهودًا ضخمة لإفهام الناس أن المسيحيين يعادون الإسلام، ولقد كان من نتيجة النشاط الإسلامي المركز في جزر «المولوكاس أن تخلي البرتغاليون عن فكرة احتكار تجارة التوابل في المنطقة، وكان توسع الإسلام في جزر (سيليبس) قد بلغ شأوًا بعيدًا على يد امرأة حاكمة لـ«آتشيه»، ونافس جهود المبشرين البرتغاليين. والمسلمون الماليزيون هم الذين حملوا أعباء هذا النشاط الإسلامي، وكان معهم عدد غير قليل من الدعاة العرب، فإسلام «سوكادانا» في بورنيو عام ١٥٢١ كان على يد عربي استوطن باليمبانك في سومطرا.
وعند قدوم الإسبان إلى الفلبين سنة ١٥٢١ كان التجار المسلمون من بورنيو يقومون بتجارة نشطة رائجة مع مختلف الجزر، وربما كانوا المسيطرين الوحيدين على التجارة الخارجية لتلك الجزر.
وبعد احتلال الإسبان لمانيلا وتهديمهم لأماكن استيطان المسلمين فيها وبناء مستعمرات إسبانية مكانها على يد «ليكاسبي» سنة ١٥٧١، توقف توسع الإسلام في القسم الشمالي من أرخبيل الفلبين، أما في الجنوب فلقد قاومت سلطنة «سولو» وسلطنة «مانداناو» الغزو الإسباني، وفي أواخر القرن السادس عشر جاء دعاة من بورنيو وجزر «المولوكاس»، ودعموا الإسلام هناك. وعندما عرف الإسبان هذه الحقيقة كتب «فرانسيسكو دي سندي» حاكم الفلبين الإسباني سنة ١٥۷۸ إلى السلطان «سيف الرجال» في بورنيو يطلب منه التوقف عن إرسال الدعاة إلى الفلبين وأواسط بورنيو، وأن يقبل في بورنيو «مبشرين كاثوليك» ولقد استخف «دي سندي» بتقوى السلطان وشعوره الإسلامي، فعندما قُرئ كتاب «دي سندي» أمام السلطان «سيف الرجال» غضب غضبًا شديدًا ولم يزد عن قول كلمة واحدة: كافر!! وفي ۲۸ أيار من عام ١٥٦٥ كتب ممثلو ملك إسبانيا في الفلبين إلى الحاشية الملكية في مكسيكو يطلبون إذنا باسترقاق المسلمين واتخاذهم «عبيداً»... لأنهم- أي المسلمين الفلبينيين- يدعون لعقيدة «محمد» صلى الله عليه وسلم. وكانت رسالة فيليب الثاني ملك إسبانيا إلى «ليكاسبي» حاكم مانيلا: «أذنا باسترقاق المسلمين»، كذلك كانت رسالة الحاكم «دي سندي» إلى الكابتن غبريل دي ريبيرا في يناير ١٥٧٩ لتهدئة «ماندناو» الثائرة وأمر الحاكم الكابتن أن يمنع المسلمين الدعاة من القيام بأي عمل وأن يخبر سكان الجزيرة بأن المبشرين المسيحيين هم في طريقهم إليهم، وأن يروي لهم عن انتصار الإسبان في بورنيو ويذكر لهم حادثة حرق مسجد بروني على يد الإسبان، ولقد أرسلت رسالة مشابهة إلى الكابتن «استابان دي فيكروا» في أيار ١٥٧٨ بالنسبة لسلطنة «مولو» الثائرة. وفي هذه الرسالة أمر الكابتن بتهديم المساجد ومنع إعادة بنائها.
ولقد أحس كبار المستعمرين الإسبان، بعد هذا الصراع الطويل، أنهم بحاجة لتغيير أسلوبهم في نشدان السلم والأمن وفرض سيطرتهم على مسلمي المنطقة، فلقد كتب «بلتزار جيروديين»، وهو من الذين اشتركوا في غزو جنوب الفلبين سنة ١٨٧٦، كتب مذكرة إلى الحاكم العام الإسباني في آذار عام ١٨٨٠، اقترح فيها سياسة جديدة تجاه مسلمي الفلبين، وهي أن تتوقف الجهود المبذولة «لتمسيحهم» وتقوم المساعي فقط لإدخالهم ضمن إطار النظام الحاكم، وقال إن التمسيح نجح بين الوثنيين، ولكنه مستحيل بين المسلمين.
وقال «ميغيل إسبينا»، وهو كاتب إسباني عاش في القرن التاسع عشر ما يلي :
«إذا أراد الإسبان الاستمرار في سياستهم الدينية مع ما يلاقون من مقاومة شديدة، فلن يكون هناك إلا حل واحد.. هو الاستئصال التام لكل مسلمي الفلبين».
وهذه آراء مغايرة لسياسة الحاكم «دي سندي»، الذي نادى بسحق الإسلام، أول الأمر، ولقد دامت محاولة السحق هذه أكثر من ثلاثمائة عام بدون انقطاع، ولقد اعتبر الإسبان معركتهم الأولى مع مسلمي الفلبين في «مانيلا» امتداداً لمعاركهم مع المسلمين في الأندلس. كتب أحد الإسبان عام ١٨٨٤ يقول: (عندما نزل جنود «ليكاسبي» في «مانيلا» في مكان هو الآن موقع حصن «سانتياغو»، وهو مفتاح مانيلا، وجدوا مقاطعة مسلمة يحكمها «الراجا ماتاندا» بمساعدة ابن أخيه الراجا سليمان، وكان هذا الأخير يحبذ سياسة الحرب والمواجهة.
وحتى تكون الصورة مماثلة تمامًا لما كان في غرناطة سمي ليكاسبي مسلمي الفلبين «الموروس»، وهو اسم ظل يطلق عليهم حتى الآن على الرغم من أنه لم يكن لمسلمي الفلبين صفة مشتركة مع مسلمي موريتانيا إلا أنهم.. وعرب الأندلس.. ينتمون لدين واحد.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل