; الحج والتعلم من الأسوة الحسنة | مجلة المجتمع

العنوان الحج والتعلم من الأسوة الحسنة

الكاتب منير شفيق

تاريخ النشر الثلاثاء 27-فبراير-2001

مشاهدات 13

نشر في العدد 1440

نشر في الصفحة 54

الثلاثاء 27-فبراير-2001

رحلة الحج الأكبر .. خواطر وتأملات (4)

·    من الخطأ العلمي نقل المعايير الغربية بشأن المرأة إلى مجتمعاتنا الإسلامية

·    المرأة حين تتحجب اليوم تكون بعد أداء واجب الطاعة لله  كأنها لبست درع القتال.. فقد تحول الحجاب عنوانًا لمعركة

·    ليس للنخبة التي تريد أن تستقيم مع دينها وكرامتها وتكون في خدمة وطنها إلا الالتحام مع جماهير الأمة.. مع البسطاء والفقراء

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ جاء إلي السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله ﷺ بشراب من عندها. فقال: اسقني، قال: يارسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه– يعني عاتقه. وأشار إلى عاتقه. "البخاري".

إن من يريد أن يخرج بعبرة من هذه الرواية الصحيحة عن رسول الله ﷺ وكيف تعامل مع الناس في الحج وفي موقف عظيم الدلالة، فإن أول زاوية يجب أن ينظر منها أنهم على عمل صالح فلا يغلب النظر إلى الأمر من زاوية التذمر أو كثرة النقد، أو التأفف أو الانهيال بالنقد الذي لا يرحم وصولًا إلى الحديث عن جهل المسلمين وتخلفهم فالرسول ﷺ- وهو الأسوة والقدوة والمعلم- يضرب لنا المثل كيف نميز ما هو أساسي وجوهري في الظاهرة التي أمامنا وفي الحج بالذات، عما يمكن أن يعتبر ثانويًّا أو هامشيًّا أو من الهنات الهيئات ولنعتبر إذ نلحظ في تلك الحادثة أن وجهها الرئيس لم يكن أنهم يجعلون أيديهم فيها .. بل إنهم على عمل صالح. وقد زاد على ذلك الرسول ﷺ فأمر بأن يسقى من حيث يجعلون أيديهم وشرب وهو أمر قد لا يستطيعه كثير منا لأن الأسوة الموحى له هنا ذهب إلى أبعد من التمييز بين ما هو جوهري وثانوي، فقد ذهب إلى مشاركة الناس شربهم بالرغم من فعلهم الذي لم يستسغه العباس- رضي الله عنه .. فالرسول ﷺحين يأبي أن يميز نفسه وحين يشرب معهم ويقول «لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه» فكان النهج الذي صنع أمة وأعاد بناءها دون أن يجعل خطأ أو خللًا ثانويًّا يطغى على رؤية ما هي عليه من صلاح وخير في عملها، وهو ما يمكن أن نسميه اليوم الاستناد إلى الإيجابيات ومن ثم الانتقال منها إلى التصحيح والتحسين ومعالجة النواقص والأخطاء، وهذه من أعظم أسس المنهجية الصحيحة في التربية والتعليم كما في بناء استراتيجة صحيحة في التغيير أي تجميع نقاط القوة والإيجابية وتسليط الضوء عليها والاستناد إليها ومن ثم الانتقال إلى معالجة النواقص والسلبيات وإحداث التغيير المنشود.

الحج والمرأة المسلمة:

ويعجب المرء كيف جعل الإسلام الحج فرضًا على المرأة المسلمة كما على الرجل سواء بسواء. والعجب هنا لا ينشأ من المساواة بينهما، فالإسلام ساوى بين المرأة والرجل في كل الفروض والعبادات والمعاملات وفي الأخلاق والمسلك وفي الثواب والعقاب وفي كل ما كرم به بني آدم. بل في كل ما يتوجب على المسلم أن يكون عليه من مراعاة للقيم الإسلامية، وتحل بالأخلاق الإسلامية. ولو أنه أعفى المرأة من هذه الفريضة الشاقة لما استطاع أحد أن يتهمه بالتمييز، خصوصًا إذا ما احتسب المرء ما في الحج من مشقة وما يحدث فيه من زحام يختلط فيها الرجال والنساء وهو حال استثنائي بالقياس إلى ما حرص عليه الإسلام من تجنب لمثل هذا الاشتباك في الأماكن العامة أو في العلاقات العامة في الحياة العادية.

ولكن العجب يذهب حين ترى كيف يكون حال الرجال والنساء على حد سواء في أثناء أداء المناسك، فالحال النفسية والأخلاقية والروحية وأنت في الحج تختلف عن تلك التي تكون عليها وأنت في حياتك العادية أو في الأماكن العامة. هنا لا يكون همك مراقبة الناس وكيف يتصرفون، ولا تلحظ أحدًا إلا إذا صدمك عرضًا.

لأنك تكون مستغرقًا في أداء العبادة وقد ركزت مشاعرك كلها وفكرك كله على التفرغ إلى الله مغتنمًا هذه الفرصة الفريدة التي تجعلك تقف هذ الموقف في تلك المشاعر المقدسة وفي تلك اللحظات لأنك إذا مررت بها على غير ما يجب أن تكون عليه فيها فهي لن تعود بينما تكون أنت قد كابدت المشقة وضحيت من أجل الوقوف في هذا المقام أو ذاك وهنا يمكن أن يقول المرء إن هذا الإحساس الذي ينتابك بأن كل ما تفعله في الحج يراه الله وتكون فيه كل معصية أكبر عند الله من مثيلاتها في أي مكان آخر هو الذي يدخلك في التوحيد أكثر مما عليه حالك من قبل بالرغم من أنك تؤمن إيمانًا عامًّا بأن الله يرى كل ما تفعل في سر وعلن.

إنك الآن أمام ممارسة عملية واعية وشعورية بأن كل من تؤمن به تجسده في الحج ويتحول إلى واقع.

 لاحظت في تجربتي المتواضعة من خلال الرجال الذين اصطحبوا زوجاتهم معهم أو أمهاتهم، أو من خلال الآلاف من النساء اللواتي افترشن الغبراء والتحفن السماء، أو من خلال من كن يتدافعن وسط الحشود أن إقبال النساء على تحدي الصعاب والشدائد واندفاعهن وحماستهن في آداء المناسك والاستغراق فيها يكاد يكون أقوى عندهن منه عند كثيرين من الحجاج الرجال، ولما لا فالله سبحانه وتعالى كلفهن بالإيمان والتقوى كما الرجال، وفي حمل رسالة الإسلام كما الرجال بل أعطاهن من القوة الجسدية ليس العضلية والنفسية في الاحتمال والصبر مثل الذي أعطى الرجال وأكثر، ولو بعضلات أضعف فحمل الأطفال وولادتهم وتربيتهم والسهر عليهم والقيام بالكثير من الأعمال المرهقة في البيت وأحيانًا في الحقل أو المصانع كذلك، زودهن بقدرة أعلى على الصبر والاحتمال ولو عددنا المواطن الأكثر أهمية وأساسية بالنسبة إلى الدين وكرامة الإنسان لوجدناها تساوي بين المرأة والرجل أضعاف أضعاف ما يعتبره البعض باللامساواة، وهو في حقيقته تقسيم وتكامل في الأدوار، ولا يحمل شبه التمييز بالمعنى الغربي للكلمة ومن ثم يأتي نقل المعايير الغربية إلى الإسلام خطأ علميًّا لأن التميير يقوم على الظلم

والإسلام يجعل العدل قبل المساواة لأن المساواة نفسها بلا عدل تتحول في الغالب إلى ظلم، فكيف يقوم التمييز في الإسلام بالمعنى الغربي، والعدل ركن من أركان التنظيم الاجتماعي في الإسلام هذا دون التطرق إلى التقوى والتعاون والتكامل والتواد واحترام كرامة الإنسان

إن الحج الذي يكثف معنى التوحيد، ومعنى العبودية لله، وعدم الشرك، وعدم الخوف إلا من الله، والارتفاع فوق كل ما يشدك إلى الأسفل ليكثف معنى المساواة بين البشر فلماذا تحرم المرأة من كل ذلك، وهي مكلفة بكل العبادات والفروض قدر استطاعتها، وكذلك الرجل قدر استطاعته ولماذا تحرم من الإسهام بكل معاني الحج بالرغم من المحاذير؟

المهم أن نفهم بالعمق الكافي لماذا فرض الحب على النساء مع الرجال وبقليل من الرخص، ونأخذ منه العبر ونقدره تقديرًا، ونفحم من يتخرصون على الإسلام في «قضية المرأة» ..

لقد لفتني في الحملة التي كنت فيها إصرار عدد من النساء على رمي الجمرات متجاوزات الترخيص الذي أعطي لهن بسبب اشتداد الزحمة الخانقة. فبعضهن أوكلن أزواجهن، ولكن اشترطن أن يقتربن من مكان رمي الجمرات، فإذا وجدن الفرصة ممكنة ولو بعناء معقول، ومن خلال فرج في الزحام قد يبدو سحبن التوكيل ورمين الحصيات بأنفسهن وهذا ما حصل.

المرأة المسلمة والتحدي التغريبي

بعد أن عدت من الحج رحت أفكر طويلًا بالمغزى وراء فرض الحج على المرأة كما على الرجل قطعًا ليس الأمر هنا بلا مغزى وإذا نظرنا إليه اليوم فسنجده يحمل مغزى معاصرًا، كما كان الحال في زمن الرسالة، وفي كل عصر، كأنه يريد أن يقول: انظروا إلى حشود النساء المسلمات في الحج وباهوا بهن العالم المعاصر ثم تأملوا أي نموذج يقدمه الإسلام للمرأة التي اعتبر الحج بمثابة جهاد بالنسبة إليها حتى لا يكون للرجال عليهن فضل الجهاد بالسيف، ومن غير قادرات عليه في ظروف القتال بالترس والسيوف والرماح حيث كانت الكلمة الأولى لقوة العضلات هذا وقد عرف التاريخ

الإسلامي منذ معركة بدر نساء شاركن في ميدان الجهاد القتالي كذلك.

ومن هنا كان الحج بالنسبة إلى المرأة له فضل الجهاد زيادة عن فضله بالنسبة إلى الرجال الأمر الذي يعني تشجيعًا إضافيًّا للمرأة لكي تقوم بفريضة الحج والتي يمكنها أن تقوم بها حتى دون إذن زوجها أو إذا منعها عنه كما يعني امتيازًا لنساء حين يحرم الرجال من الجهاد بالسيف.

يجب أن نلحظ هنا أن موضوع المرأة والرجل في المنظومة الإسلامية لا يمكن ولا يجوز أن يفهم أو يبحث ضمن مقاييس النظرة الغربية لهذا الموضوع نحن هنا أمام مفاهيم مختلفة جوهريًّا للمساواة والعدل والحقوق وأمام ربط لا يدركه الغرب بين قيدة التوحيد والإيمان والتقوى والتعاون والتكافل الحب والتواد والأخلاق والقيم من جهة، والمسائل المتعلقة بالمساواة والحرية والعدل والحقوق والقوانين من جهة ثانية.

لم أستطع وأنا أشاهد النساء المسلمات يتحركن بكل تلك العزيمة، وكل ذلك الإيمان بين رجال وسط الزحام، أو وهن يكابدن مشاق الحج. لاسيما النسوة اللواتي يشاركن فقراء الحجاج ممن اصطحبوهن من بعولتهن وآبائهن وإخوانهن وأبنائهن، حيث مشاق الحج والصعوبات أكبر، إلا أن أفكر بما يمكن أن تفعله الأمة حين تضم كل حقوقها رجالًا ونساء في بناء ذاتها، ومقارعة أعدائها وتحقيق نهضتها.

وكما قلت سابقًا: كنت عندما بدأت رحلة الحج مصممًا على نسيان السياسة وعدم التفكير في هموم الأمة لكي ألتفت إلى العبادة فقط صافي الذهن منقطعًا عن العالم الخارجي ولكن ما عشته في الحج كان بعيدًا عن صورة الذي يذهب إلى صومعه ليتعبد فأنت في قلب الأمة كما لم تكن يومًا.

وبالمناسبة لابد من وقفة مع الذين يروجون أن الحجاب وانتشاره يعودان لأسباب تتعلق بقهر المرأة واضطهادها، أو اعتبار الحجاب بحد ذاته قهرًا للمرأة.

يكفي هؤلاء لو يأتون ويرون النساء كم يكابدن وكم يكافحن حتى يصلن إلى الحج ويشاركن فيه ثم يرونهن مستبشرات في مشاركتهن غير عابئات بمشقة أو تعب عندئد لن يحترم نفسه لو سأل عن القهر الذي يفرض على المرأة المسلمة لتلبس حجابًا، ثم أين القهر الذي يمارسه الحجاب ضدها. وهي تقدم على هذه الشعيرة غير هيابة، وتخوض في الجموع والحجاب والستر يشعرانها بالقوة والحصانة ويسمحان لها بالانطلاق فلولاهما لما امتلكت كل هذه الحرية في أداء فريضة الحج.

وهذا لا ينطبق على الحج فقط ولكنه في الحج يحمل معناه المباشر الظاهر للعيان وتشاء الأقدار أن يصبح حجاب المرأة المسلمة في هذا العصر حين ترتديه فهو أداء لطاعة عبادية، والتزام بلباس محتشم كما أصبح يمثل تحديًا للتغريب والهيمنة، ومحاولة مصادرة هوية الأمة.

لقد تحول في حد ذاته إلى عنوان معركة فالمرأة أو الفتاة حين تتحجب اليوم تكون بعد أداء واجب الطاعة لله تعالى كأنها لبست درع القتال الذي كان للمجاهدين والفرسان بالأمس فهو يقيها السهام الطائشة فعلًا، والمنطلقة من أعين طائشة فعلًا. ويحصنها من سخافة الركض وراء الموضة وتحويل المرأة إلى سلعة أو أداة استهلاك للمظاهر أو نهبًا لكل ما يلفت النظر لا إلى ذكائها أو علمها أو أخلاقها أو حسن دينها أو إلى شخصيتها المحترمة، وإنما إلى ما يظهر من مفاتن الجسد ليس إلا وبهذا يكون الحجاب قد أدخل من ترتديه معركة التحدي الحضاري والثقافي وتحدي التبعية الثقافية والحضارية.

إن المرأة المسلمة اليوم تتحمل مسؤولية الوقوف على ثغر من أخطر الثغور التي يحاول التغريب أن يأتي الإسلام منها، إلى خوض المعركة المفتوحة حول قضية المرأة وحقوق المرأة وقضايا العائلة والطفل.

هنا لابد من أن تصاغ الشعارات الصحيحة حول كل ذلك لأن ترك الميدان للمتغربات اللواتي جعلن من الحركات النسوية في الغرب نموذجهن ورحن يرددن شعاراتها حول المساواة والحرية الجنسية والحقوق المثلية سيكون خطأ كبيرًا.

ولعل ما حدث في مؤتمر السكان في القاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين ثم في نيويورك، ومحاولة فرض ما يسمى باتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة يعطي صورة عن المعركة المفتوحة ضد الإسلام والأمة من خلال هذا الثغر، ومن ثم يؤكد الحاجة إلى دخول المعركة من مواقع المرجعية الإسلامية، كما یزید من مسؤولية المسلمات اللواتي يلعبن دورًا متقدمًا في صفوف النساء المسلمات الذائدات عن الإسلام والأمة والمرأة المسلمة أن يلتفتن أكثر إلى دراسة المشكلات التي تعاني منها المرأة في بلادنا لكي يأتي العلاج المداواة مشكلات حقيقية ملموسة وليس مشكلات مطروحة من قبل المتغربات اللواتي يرسمن صورة متخيلة عن واقع المرأة المسلمة ويبنين عليها المواقف ويستوردن الشعارات.

من ينظر في الحج إلى جموع النساء الفقيرات اللواتي يراهن محرومات حتى من الخيام ووسائل النقل في الحج، وبالرغم مما يبذل من جهود للتخفيف عنهن وعن الرجال الذين من طبقتهن يستطيع أن يرى بعضًا من المشكلات التي تجب معالجتها في العالم الإسلامي مثل قضايا الفقر والبطالة فضلًا عن مسالك تسيء للنساء يأتي بها الرجال، وهي مخالفة للإسلام وإن لحاظ النشاط التي تبديها النساء في الحج وما يتحلين به من وعي وعزيمة وإيمان ليفرض أن نتخيل أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبنه في نهضة الأمة وفي الرد على أعدائها أو بكلمة أخرى إنه مشهد يكشف عما تختزنه الأمة من قوة وإمكانات كشفًا يبرز عظمة الأمة رجالًا ونساء وهم في رحاب الحج .

الحج والناس

يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ  (البَقَرَةِ :199 )

وقد كانت قريش تفيض من المزدلفة والناس من عرفة تكبرًا وتمايزًا عن الناس فجعلها الرسول ﷺ من عرفة عندما أمر بالإفاضة مع كل الحجاج بلا استثناء من عرفة إلى المزدلفة وفقًا للأمر القرآني فسنة رسول الله ﷺ أوقفت الميز بين قريش وعامة الناس وقد شعرت القبائل الأخرى بعظمة هذا القرار أو الحكم، وما حمله من أبعاد تتعدى الحج نفسه ممتدة إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، فلا أحد مهما علا شأنه يفيض من مكان غير الذي يفيض منه الناس.

إنه درس بليغ وفيه عبر كثيرة وقد كان الحج له مكثفًا، وبقي مذكرًا به وسيبقى إلى أبد الدهر ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ  (البَقَرَةِ :199) فأنتم لستم أفضل من الناس يا سراة قريش ويا قريش كلها وهذا ما يجب أن يعتبر به كل من ينهج نهج قريش الجاهلية. أما أنتم أيها الناس فقد كرمكم وأعزكم هذا النص، وجعل ما تفعلونه مقدمًا على من حسبوا أنفسهم أسيادكم وسراتكم فأمر الله المسلمين نبيًا وصحابة وعامة المسلمين أن يفيضوا مع الناس ومن حيث أفاض الناس.

ولعل في هذه الآية ضربًا للكبرياء والغرور والميز ضد الناس من جهة، ولعل فيها من جهة أخرى حثًا على احترام الناس، وعدم العلو عليهم. ولنتذكر أن أكثرية الناس في عامتهم وفقرائهم وكسبتهم فهم جديرون بأن يخاطبوا بالاحترام احترامًا باعتبارهم جمهور المسلمين، واحترامًا باعتبارهم القاعدة المتينة التي يقوم عليها الإسلام وباعتبارهم مشمولين بتكريم الله لبني آدم ولكونهم حين يحمى الوطيس أكثر من يقدم الشهداء والتضحيات وهم أكثر من يلقى المشقة في الحج وهم الذين يجعلون الحج مليونيًّا ويعطونه كل هذا الزخم وتلك المهابة، وأخيرًا هم الخزان للتاريخ الإسلامي والقيم الإسلامية.

الجماهير الغفيرة الفقيرة

يقول الله تعالی:

﴿فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ ٣٤ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِيمِي ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (الحَج : 34- 35)

ذلكم هو المعيار في الحكم على المسلمين.

بيد أن النقطة التي يراد التشديد عليها عند هذا الحد: أن ندرك معنى قوة الإسلام في هذه الجماهير الغفيرة، الفقيرة ماديًّا والغنية بما تحمله من إسلام والتي تشملها البشرى الموجهة للمخبتين والصابرين والمقيمي الصلاة والذين ينفقون مما رزقهم الله. ولولا ذلك ما وجدتها أمامك تسابقك على الخير وتنافسك في وجل القلب عند ذكر الله.

بل ينبغي لك أن تلحظ صدق إيمانها وهي أمامك وتحترم ما يعتلج في أعماقها وما يكتنزه وعيها من قيم الإسلام وتعاليمه ولان الكثيرين من بينها مثلهم مثل الأشعث الأغبر الأمر الذي يوجب تصحيح أفكارنا حول هذه الجماهير وتقويم نظرتنا إليها ونحن نطل عليها من أعلى بسبب علم أو ثقافة أو جاه أو مال حصلنا عليه، فنتخلىى عن الأحكام الظالمة التي تصفها بالجهل والغباء أو التخلف أو تسميها الدهماء.

فكيف تصح هذه الأحكام مع كل هذا الإسلام الذي تحمله هذه الجماهير ومع كل هذه الممارسة للإسلام، وأين في فريضة الحج حيث يتجلى إسلام المسلم في أروع صورة، وكيف في ظروف قاسية وصعبة وذات مشاق لا يعرف كنهها من يحظى بالحج المريح أو من يحيا حياة مريحة وهذا لا يراد منه التجريح في من أنعم الله عليه بالراحة في حياته وفي حجهم اللهم لا حسد ولا إساءة وإنما هو التشديد على ألا يحجب ذلك رؤية عمق الإسلام في جماهير الأمة الغفيرة فتعامل باحترام وتخاطب باحترام والأهم أن توضع بها الثقة لحمل المشروع الإسلامي لأنها إن لم تفعل فمن ذا يحمله؟ أو من ذا الذي يستطيع أن يدخل ميزان القوى ليؤثر فيه غير الكثرة الكاثرة من الأمة، وهذه الكثرة الكاثرة هم أولئك.

أقارن الآن بين جماهير الأمة كما بدت لي في الحج، وعلى التحديد القاعدة الشعبية العريضة من جهة والنخب من مثقفين وميسورين من جهة أخرى. وقد تساءلت: لماذا تبقى غالبية الأمة بعيدة عن الغزو الثقافي التغريبي، وبعيدة عن أن يؤثر فيها عبر وسائل الإغراء لأن إغراءها غير مطلوب من قبل أعداء الأمة وإلا بطل النهب والاستغلال والحصول على أقصى الأرباح وإذا ما ازدادت فقرًا ازداد لجوؤها إلى الإسلام.

وإذا ما عوملت بالقهر والسوط فهل من ملاذ غير الإسلام أما النخب فهي المعرضة للإغراءات المختلفة، وكثير منها إلا من رحم ربي شديد الهشاشة أمام المال والمنصب والشهرة والسلطة، مما يجعلها أرضًا خصبة للإغراءات الآتية حتى من الخارج، خذوا مثلًا عددًا من المنظمات غير الحكومية. أو إغراءات الداخل كذلك خصوصًا إذا كان من بيده الأمر في الداخل معوجًا، كما أن النخبة أشد تعرضًا لخطر التهميش والإفقار والمطاردة حين تستقيم» والخسائر عند التعرض للقمع والاضطهاد أكبر وهذا غير حال الأغلبية التي لا يمكن تهديدها بالتهميش والإفقار والمطاردة في رزقها فمن كل ذلك عندها ويزيد ولهذا ليس للنخبة التي تريد أن تستقيم مع دينها وأوطانها وكرامتها إلا الالتحام بهذه الجماهير بعد الاتكال على الله وعدم الإشراك به أو الخوف مما وممن عداه

الحج المريح

أما النقطة الثانية فإن تحسسك بما يكابده فقراء المسلمين وما يلقونه من شدة لا يعني أن تفعل كما يفعلون إذا كنت قادرًا على جعل حجك مريحًا. فالإسلام لا يطلب منك- كما يتصور بعض المغالين أو كما كان يفعل في عالم اليسار بعض اليسراويين أن تنام في العراء أو تمشي حافيًا أو ترفض ركوب الحافلة المريحة، أو تقتر في طعامك لأنك إن فعلت وأنت قادر تخطئ، كما تخطئ حين تغرق في النعيم ولا تحس بآلام الناس ولا مكابداتهم ولا حقوقهم، ولا تحترمهم وتسمع لصوتهم. ولا تعتز بأن الإسلام يجمعك بهم تحت عقيدة التوحيد ورابط الأخوة الإسلامية، ووحدة الأمة، بل حين لا تباهي بهم في الحج كل العالمين.

يجب أن تستذكر هنا الحديث الشريف عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي ﷺ «رأى شيخًا يهادي "يمشي" بين ابنيه قال ما بال هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب» (البخاري).

إن التأمل في هذا الحديث الصحيح والاعتبار به يوصلان المسلم إلى التوازن وهو يتناول الإحساس بما تعانيه الجموع الغفيرة الفقيرة في حجها من خروجها من بيتها إلى عودتها إليه وهي الغنية في إيمانها وإسلامها حين تعاني ما تعاني في سبيل أداء هذه الفريضة.

وبعد فأذكر أن أحد الحجاج ممن ربطت بيني وبينهم صداقة قال لي: سنرى ما ستكتب عن الحب فقلت له: لماذا أكتب ولا أعرف ماذا أكتب ولا أدري إن كنت سأكتب فكل ما أشعره، وكل ما أراه يعجر أمامه قلمي المتواضع فقد كنت أعيش تلك الآيات لحظة بلحظة وأشعر أنني أسير حبها وهيبتها في اللحظة هنا تفرض نفسها عليك فكيف يمكن أو تحاول امتلاكها بفكرة أو تنتقل بها إلى عالم الفكر فعندما تنظر إلى الكعبة في تلك الأيام المهيبة وتتأمل ما تفعله بنفسك وقلبك وعقلك فيخطر ببالك السؤال: كيف يمكن لهذا البيت المتواضع في حجم وفي بساطته أن يكون كعبة تنشد إليها قلوب ألف وثلاثمائة مليون مسلم يتجهون إليه بصلاتهم وأفئدتهم وكيف يفعل كل ذلك، وكيف يمكن أن يترجم كل ذلك من خلال وصف شاعر حتى لو كان من هزته رؤية الكعبة أكبر شاعر أو قاص أو كاتب، فسيظل الموصوف والناس من حوله فوق الوصف وأحسب أن هذا ينطبق على كل ما يمكن أن تشهده في مناسك الحج وما يمكن أن تحسه أو تفكر فيه.

فيا لهذا الحج كم يحمل من أبعاد وكم يترك من أثر، وكم يفعل في الروح والنفس والعقل فكيف لا أكتب عنه وأنا أعلم أن ما أكتب لا يوفي الذي أكتب عنه حقه ولكن عذري أن ما من أحد يستطيع أن يوفيه حقه وإنما بعض حقه وكفى ذلك سدادًا لدين لا يوفى إلا جزء منه ولعل في مأزق الكتابة وتقصيرها هنا عذرًا أو لعل في الاجتراء عليها بعض العزاء والجزاء إذا عاده بفائدة ولو على قارئ واحد.

وكلمة أخيرة، لقد شعرت بسعادة غامرة في كل الأيام التي قضيتها في مكة ومنى وعرفة والمزدلفة سعادة لم أعرف مثلها منذ عشرات السنين هذا إن عرفت مثلها قط!

سعادة مازلت أحس بها، فقلبي منذ أن حججت حتى اليوم فرح ... فرح.... يكاد يطير فرحًا .

[1]- كاتب فلسطيني

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الأسرة - العدد 6

نشر في العدد 6

25

الثلاثاء 21-أبريل-1970

الاحتشام سر الجمال

نشر في العدد 8

59

الثلاثاء 05-مايو-1970