; الحداثة: قطيعة معرفية مع الموروث الديني.. نماذج فجة | مجلة المجتمع

العنوان الحداثة: قطيعة معرفية مع الموروث الديني.. نماذج فجة

الكاتب د. محمد عمارة

تاريخ النشر السبت 03-يونيو-2006

مشاهدات 23

نشر في العدد 1704

نشر في الصفحة 66

السبت 03-يونيو-2006

حداثة.. أم تجديد؟ (7)

إذا كانت هذه الأصول الفكرية العشرة، هي نماذج للتجديد، الذي يستصحب الثوابت الإسلامية ويطور في المتغيرات.. فهل في واقعنا الفكري المعاصر نماذج لحداثة القطيعة المعرفية مع ثوابت الإسلام وأصوله وقواعده؟؟

إن الإجابة -الصريحة- هي نعم.مع الأسف الشديد!... فلقد نجح التغريب والاستلاب الحضاري في جعل المرجعية الوضعية تزاحم المرجعية الإسلامية في فضائنا الفكري.. وأنطلق نفر من المتغربين، الذين ضُربت عقولهم وصيغت رؤاهم وفلسفاتهم وفق المناهج الوضعية الغربية، من هذه المرجعية الوافدة، فبشروا بالمقولات والرؤى الحداثية. التي قلدوا فيها «سلفهم الغربي».. من فلاسفة التنوير الغربي متحدين ثوابت الأمة، وخارجين على نسقها الإيماني، بإقامة القطيعة المعرفية مع ثوابت الإسلام.

إن الحداثة الغربية، التي هي ثقافة التنوير الغربي الوضعي -هي التي أعلنت وتعلن- بصريح العبارة- أنها قد أقامت وتقيم قطيعة معرفية كبرى مع الدين، وأنها حتى إذا استخدمت مصطلحات القاموس الديني، فإنها تجرد هذه المصطلحات وتفرغها من مضامينها الدينية والإيمانية..

تعلن الحداثة الغربية ذلك فتقول - بلسان أهلها والمدافعين عنها:

«إنه بعد أن كان المسيحي حريصًا على طاعة الله وكتابه، لم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله، فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الإبستمولوجية «المعرفية» الكبرى، التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية، عصر الخُلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني 《١٢٢٥ - 1274م》 وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير.. فمنذ الآن فصاعدًا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته.. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة.. لقد أصبح الإنسان وحده مقياسًا للإنسان.. وأصبح حكم الله خاضعًا لحكم الوعي البشري، الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية.. ويمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر، ولكنه لم يعد يوهم أحدًا، فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني!» (1). 

وعلى هذا الدرب -درب القطيعة المعرفية الكبرى مع ثوابت الإسلام وأصوله- -سار نفر من الحداثيين العرب- حذو النعل بالنعل -فرأينا أحدهم يذهب على درب تأويل الإسلام تأويلًا يفرغ الدين من الدين، فيقول عن الذات الإلهية، ويقول عن «التوحيد» و «الوحي» و«النبوة والرسالة» و «الإيمان» و «الغيب» و «التراث» وغيرها من مفاهيم ثوابت الدين ومصطلحاته:

إنه -أي الله-《هو الأرض.. والخبز.. والحرية.. والعدل.. والعتاد .. والعُدة.. وصرخات الألم.. وصيحات الفرح... فهو تعبير أدبي أكثر منه وصفًا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًا: ولذلك، وجب التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة

-في علم أصول الدين- من مثل: «الله» و«الرسول» و «الدين» و«الجنة» و «النار» و «الثواب» و«العقاب».. لأن هذه الألفاظ والمصطلحات قطعية، ولأنها تحاور الحس والمشاهدة.. ولأنها تُشير إلى مقولات غير إنسانية.. فما الله إلا وعي الإنسان بذاته.. وما صفاته وأسماؤه إلا أمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها.. وكل صفات الله -العلم والقدرة، والحياة والسمع والبصر، والكلام، والإرادة –كلها صفات الإنسان الكامل. وكل أسماء الله الحسنى تعني أمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها، فالحقيقة هي الإنسان، والواقع الذي يعيش فيه.. ولذلك فتعبير الإنسان الكامل، أكثر تعبيرًا من لفظ الله!

والتوحيد ليس توحيد الذات الإلهية، كما هو الحال في علم الكلام الموروث، وإنما هو وحدة البشرية، ووحدة التاريخ ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان، ووحدة الجماعة، ووحدة الأسرة.. فالمهم هو إيجاد الدلالة المعاصرة للموضوع القديم، وتخليصه من شوائيه اللاهوتية..

فليس للعقائد صدق داخلي.. ولا يوجد دين في ذاته.. والوحي هو البناء المثالي للعالم.. والمطلوب هو تحويل الوحي إلى أيديولوجية وإلى علم إنساني..

والعلمانية هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور..

والتراث قضية وطنية لا دينية، ومادة التراث نسقطها كلها من الحساب، ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر.

والإلحاد هو التجديد والتحول من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع، إنه وعي بالحاضر.. ودرء للأخطار.. بل هو المعنى الأصلي للإيمان. والمطلوب هو الانتقال من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم، ومن النفس إلى البدن، ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك.. ومن العقيدة إلى الثورة》 (٢).

هكذا بلغ «التأويل العبثي» الذروة- إن لم يكن قد تجاوزها! فكل ثوابت الإسلام، وجميع عقائده، ومضامين مصطلحاته، جردت من محتواها الديني، وانقلبت مصطلحات الدين وعقائده الثوابت إلى هذا العبث الحداثي اللامعقول!.

وللحديث بقية

الهوامش

(1) إميل بولا: «الحرية العلمنة: حرب شطري فرنسا ومبدأ العدالة» منشورات سيرف باريس ۱۹۸۷م نقلًا عن «هاشم صالح - مجلة الوحدة - الرباط - المغرب عدد فبراير مارس سنة ١٩٩٢م، ص 20، 21.

(2) د. حسن حنفي «التراث والتجديد» ص ۱۲۸، 130، 124، 137، 139، 141، 142، 146، 153، 154، 185، 176، 177، 66، 22، 114، 203، 208، 89، 21، 173، 67، 61، طبعة القاهرة سنة 1980.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 10

39

الثلاثاء 19-مايو-1970

نشر في العدد 63

40

الثلاثاء 08-يونيو-1971