; الحركة الإسلامية بين التكامل والتآكل (2) | مجلة المجتمع

العنوان الحركة الإسلامية بين التكامل والتآكل (2)

الكاتب د. فتحي يكن

تاريخ النشر الثلاثاء 30-يونيو-1970

مشاهدات 748

نشر في العدد 16

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 30-يونيو-1970

متطلبات التربية والتكوين

إن للتربية والتكوين الإسلاميين متطلبات ينبغي توفرها لنجاح العملية، وبغير هذه المتطلبات ستفشل كل محاولة في حقل التربية الإسلاميَّة، وسوف لا تتحقق ولادة الفرد المسلم الذي يمثل العمود الفقري في العمل الإسلاميّ برمته.

وفي رأيي أن أهم متطلبات التربية هي:

أولًا: المنهج السليم:

الذي يملك تخريج الفرد المسلم والجيل المسلم، المنهج الذي تتكامل فيه جوانب التربية كلها، الفكريَّة والروحيَّة والأخلاقيَّة والحركيَّة، مما يحقق التكامل والتوازن في بناء الشخصيَّة الإسلاميَّة، ويحول دون طغيان جانب من هذه الجوانب على الآخر، حتى لا يؤدي هذا الطغيان إلى تشوه الشخصيَّة أو عدم تكاملها.

إن المنهج الذي تحتاجه الحركة هو نفس المنهج الذي أخرج من متاهات الجاهليَّة خير أمة أخرجت للناس، والذي يملك أن يخرج في كل زمان ومكان الجيل القائم على الحق المجاهد من أجله الذي لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.

وبغير هذا النمط من الناس لا يمكن للحركة الإسلاميَّة أن تواجه الواقع الجاهليّ وتحقق النصر عليه، «كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطابًا إلى عمرو بن العاص، وقد استبطأ فتح مصر، جاء فيه: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم». وفي وصيته إلى سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين إلى فارس يقول: «أما بعد: فإني أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وأوصيك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنْصَر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننصرعليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلم ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيله».

ثانيًا: القدوة الحسنة:

وهي عامل أساسي وهام في نجاح عملية التربية، إنه لا يكفي للداعية المربي أن يكون فقيهًا عالمًا أو خطيبًا لامعًا، بل لا بُدّ وأن يكون فوق هذا ومعه نقيًا ورعًا عاملًا بعلمه، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد، وحجب الهدى، وانعدم الأثر، ورحم الله مالك بن دينار، حيث يقول: «إن العَالِم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطرعن الصفاء».

ثالثًا: البيئة الصالحة:

ويتوقَّف نجاح التربية كذلك على مدى صلاح البيئة وتوفر العزلة الشعوريَّة، التي يتعين تهيئتها للعناصر المراد تربيتها وتكوينها، وقد يكون أقرب إلى المستحيل نجاح عملية التربية هذه في مجتمعات جاهليَّة مقطوعة الصلة بالإسلام.

وحَلّ هذه المشاكل مرهون بمدى إمكانيّة عَزْل الحركة للعناصر الإسلاميَّة وتهيئة المناخات والأجواء المناسبة لها، وبخاصة أثناء مرحلة التكوين الأولى وقبل ندبها للمهام الحركيَّة العامة.

إن فكرة عَزْل العناصر الإسلاميَّة عن البيئة الجاهليَّة في مراحل التكوين جديرة بالدراسة والتأمُّل، كما أن التفكير والتأمُّل والبحث عن كيفية تحقيق هذا العزل أجدر.

إن عملية تكوين الشخصيَّة الإسلاميَّة لا يمكن أن تكون ناجحةً النجاح المرجو والمأمول ما لم تتم في بيئة إسلاميَّة لا مكان فيها للمؤثِّرات الإسلاميَّة.

والواقع الذي تعيشه الحركة الإسلاميَّة اليوم لا يعطيها قوامة التوجيه أو يفردها بالتحكُّم في حياة الفرد المسلم، وإنما يجعل هذا الفرد في بيئة مضطربة تتنازعه شتی المؤثِّرات والضغوط.

فإذا استطاعت الحركة أن تهيئ لأفرادها الجو الإسلاميّ إن في محيط الأسرة، أو في نطاق العمل، وأن تحول بينهم وبين التعايش العقيديّ والخلقيّ مع المجتمع الجاهليّ، فإنها بذلك تكون قد وقفت على أوَّل الطريق الذي يضمن لها خلق روح التمرُّد في نفوس أفرادها، ويعدَّهم ليكونوا نواة الطليعة المباركة وأمل الإسلام العظيم.

 

2- في العمل الحركي والمواجهة

وأما العامل الثاني الذي يكمُن وراء بروز التكامل والتآكل في حياة الحركة الإسلاميَّة المعاصرة فيعود إلى عدم وضوح الطريق، وإلى التخبُّط في ميدان العمل، وإلى السير الانفعاليّ غير المرتكز على رؤية واضحة وتصوُّر سليم ومتكامل للوسائل وللغايات والأهداف.

ويمكن تحديد أبرز معالم الانحراف في الجسم الحركيّ فيما يلي:

1-                        عدم وضوح الطريق الأقوم لإقامة الدولة الإسلاميَّة وتحقيق الانقلاب الإسلاميّ.

2-                        عفويّة السير وعدم الالتزام، حتى بما يوضع من مخططات مما كان يعرض في كثيرٍ من الأحيان إلى استنفاد الجهود والقوى في معارك جانبيَّة وأعمال جزئيَّة لا تخدم مصلحة الإسلام الحقيقيَّة.

3-                        عدم تبني سياسة الأخذ بزمام المبادرة، مما كان يجعل انفعالات الحركة بالأحداث بطيئًا، مما فوَّت ويفوِّت عليها كثيرًا من الفرص والسوانح النفسيَّة والزمنيَّة.

4-                        الضياع بين الالتزام بالخط الأصيل للعمل، ألا وهو التبليغ، وبين الانطلاق السياسيّ ومحاولة الاستفادة من كل الظروف.

5-                        عدم تبني أسلوبٍ معين لاستلام الحكم الإسلاميّ.

6-                        المبالغة في الحذر من تبني استخدام القوة «ابتداء أو انتهاء».

7-                        عدم وضوح التنظيم الأحكم في الكيان الحركيّ، ومن ظواهر ذلك بروز الأسئلة التالية:

هل القيادة فرديَّة أم جماعيَّة؟ وهل الشورى ملزمة أم غير ملزمة؟ وهل العمل سريّ أم علنيّ؟

وهل نحن معهد فكريّ أم تنظيم حركيّ؟، وإذا كان الآخر فهل نحن في مستواه؟

هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى أجوبةٍ، وأجوبة واضحة، كيما تخرج الحركة من متاهات التخبُّط والضياع، والأجوبة التي تتبناها الحركة في هذا النطاق يجب أن تعتمد على قوة الدليل الشرعيّ وليس على الأهواء والعواطف.

إن من حق الإسلام على الحركة الإسلاميَّة اليوم وفي كل يوم، أن يكون تصوُّرها لطبيعة العمل الإسلاميّ وفهمها له موافقًا غاية الموافقة لزوم الخطة التي انتهجها أوَّل تجمُّعٍ حركيٍّ في تاريخ الإسلام، ومن شأن هذا التصوُّر أن يفرض على الحركة السير وَفْق الخط الأصيل الذي سلكته النبوة في مواجهة الواقع الجاهليّ، والتحضير لإقامة المجتمع المسلم، ولم يكن من عواقب اختلاف التصوُّر الحديث لطبيعة العمل الإسلاميّ وأهدافه إلا ضياع الجهود واستنفاد القوى فيما لا طائل تحته.

كما أدى التفريط في التبعية الحركيَّة للجماعة الإسلاميَّة الأولى، وعدم الالتزام الفعليّ الدقيق بتوجيهاتها فيما يتعلَّق بفَنّ المواجهة الإسلاميَّة الفرديّ والجماعيّ إلى انعطاف الخطى وبُعدها في أكثر الأحيان عن المحور الأساسيّ والهدف الرئيس المنشود.

لقد مَرّ على الحركة الإسلاميَّة حين من الدهر، كانت كثير من الجهود تضيع في قضايا جانبية وشؤون آنية لا ترتبط لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ بالهدف البعيد الذي يفرض أن تفرد له الحركة كل قواها وإمكانيَّاتها.

إن معرفة الحركة الإسلاميَّة لأهدافها ولخط سيرها وطبيعته وخصائصه، من شأنه أن يحوِّل الخطى كل الخطى، ويصبّ القوى كل القوى، في هذا الاتجاه، كما أن من شأنه أن يصون الجهد المبذول من الضياع والهدر، فضلًا عن أنه الطريق الأقصر لبلوغ الغاية وتحقيق الهدف.

إعادة تعبيد الناس لله

إن على الحركة الإسلاميَّة أن تدرك أن مهمتها الرئيسية تنحصر في إعادة تعبيد الناس لربهم كأفرادٍ ومجتمعاتٍ، وهذه المهمة لا يمكن تحقيقها ما لم تقم للإسلام دولة تستمد حكمها وتشريعها منه، وتعود في كافة شئونها إليه، وتسير في كل خطوة من خطاها على هديه القويم وصراطه المستقيم.

إن على الحركة الإسلاميَّة حين تدرك أن مهمتها الأساسيَّة هي إخضاع المجتمع الإنسانيّ لحاكمية الله وعبوديته، أن تبقى دفة سيرها محوَّلة في هذا الاتجاه كائنًا ما كانت الظروف.

إن قضايا المشاركة في تحرِّير البلاد تصبح من غير ضمان إسلامية مستقبلها كوأد الجهد تحت التراب، كما تصبح المشاركة في توحيد الشعوب والأقطار على غير الإسلام كتشييد بناء على غير أساس، وبالتالي نوع من أنواع التعايش مع الجاهليَّة، وبهذا المقياس ستتغيَّر نظرة الحركة إلى أمورٍ كثيرة كانت فيما مضى تعطيها الأولوية من جهدها ووقتها.

إن الإسلام بحاجة ماسة إلى موطئ قدم يقدّم فيها للبشريَّة نموذجًا عمليًّا للمجتمع المسلم، ولِمَا يحققه من عدالة ومواساة وأمن واستقرار، وإن الأفكار والمذاهب والفلسفات الماديَّة التي غزت العالم في العصر الحديث، ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه لو لم يكن لها في الأساس موطئ قدم واحدة؟

 

مجاهدون لا فلاسفة

ونقطة أخرى تجدر الإشارة إليها في هذا المقام كذلك، وهي أن الحركة الإسلاميَّة ينبغي أن تكون «ثكنة» لتخريج المجاهدين والأبطال قبل أن تكون معهدًا فكريًّا لنشر الثقافة والمفاهيم الإسلاميَّة المجرَّدة بين الناس.

إننا بحاجة إلى الوعي والعمق والحكمة مثل ما نحن بحاجة إلى الجرأة والتضحية والإقدام، وإن طغیان مبدأ تحري السلامة والمبالغة فيه واتخاذه سياسة مطردة في كل الأحوال والظروف، وعلى كل صعيد، لن يكون من نتائجه إلا قتل روح التضحية في الأفراد، وتحويل الحركة الإسلاميَّة إلى مدرسة نظريَّة أو اتجاهٍ فكريٍّ مجرَّد.

إن القاعدة التي يجب أن تصدر عنها الحركة في هذا الشأن، هي أن تكون مصلحة الإسلام فوق كل اعتبارٍ، وحيثما تحقَّقت مصلحة الإسلام وَجَب الإقدام مهما كلَّف ذلك من تضحياتٍ.

إن الأصل الذي يجب أن تعتمده الحركة في تقييم المواقف والمعارك والمواجهات، هو الاستيعاب الصحيح لطبيعة المعركة وخصائصها، وتشخيص أبعادها وانعكاساتها وردود فعلها، كل ذلك في ضوء التحسُّب الكامل للمفاجآت والمضاعفات الطارئة التي قد تقع من غير توقُّعٍ أو حسبان.

ومن التهوّر والخفة خوض أي معركةٍ -مهما كانت جانبيَّة وصغيرة- من غير تصوُّرٍ صحيحٍ لها وإعداد الكفايات اللازمة لخوضها، لأن قبول الارتجال في قضية سيعود على الارتجال في كل قضيةٍ، وهو مغامرة بالإسلام وعلى حساب الإسلام، وهذا يدخل في حكم ما حذَّرنا منه ونهينا عنه.

أما إذا توفَّر الاستعداد الكامل -في نطاق القدرة المستطاعة- وفي ضوء التصوُّر الصحيح لطبيعة المعركة وحاجاتها ومتطلباتها، أصبح خوضها واجبًا والهروب منها جبنًا وتخاذلًا، وما كان المؤمنون يومًا جبناء ولا متخاذلين.

إن من واجب الحركة الإسلاميَّة كيما تكون على مستوى المسؤولية، أن تعيد النظر في منطلقاتها الأساسيَّة، وفي تنظيماتها الداخليَّة، وفي مناهجها التربويَّة، وفي خط سيرها، ووسائل عملها، وأسلوب مواجهتها، وأن تعرف ما هو دورها في المجتمع، وما هي مبررات وجودها، ولا بأس بعد ذلك أن تبدأ ولو من نقطة الصفر.

إن الحركة الإسلاميَّة في كل مكانٍ، وإن العاملين في الحقل الإسلاميّ حيثما كانوا مدعوون جميعًا- كل في نطاق استطاعته وقدرته- للإسهام في تطوِّير العمل الإسلاميّ المعاصر والخروج به من دوَّامة التكامل والتآكل، والبلوغ به المستوى المطلوب وعيًا وإعدادًا وتنظيمًا وتخطيطًا. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت:آية 69)

«وكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته».

قد بلغت اللهم فاشهد

     فتحي يكن

 

الرابط المختصر :