; الحرية الفكرية والخطوط الحمراء | مجلة المجتمع

العنوان الحرية الفكرية والخطوط الحمراء

الكاتب منير شفيق

تاريخ النشر الاثنين 01-فبراير-1999

مشاهدات 10

نشر في العدد 1335

نشر في الصفحة 48

الاثنين 01-فبراير-1999

إذا صدر قانون في بلادنا يمنع التعرض بالسوء إلى الدين أو إلى شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم الدنيا ولا تقعد من قبل البعض باعتبار ذلك مخالفًا لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو مكممًا للأفواه وكابتًا لحرية الرأي، ومانعًا للبحث العلمي الموضوعي. 

وإذا انبرى أحد الإسلاميين يدعو لمنع تداول كتاب معين يسيء للصحابة - y- أو يمس القيم والأخلاق الأساسية للمجتمع تقوم الدنيا ولا تقعد من قبل ذلك البعض، واستناداً إلى المرجعيات نفسها أنفة الذكر.

بكلمة إنهم يقولون: إن الحرية الفكرية والبحثية عندنا يجب أن تكون مطلقة بلا حدود، ولا ينبغي لحد أن يحدها مهما يكن، أما نموذجهم في ذلك فالديمقراطية في الغرب وتطبيقات حقوق الإنسان وحرياته الفردية والفكرية هناك.

لنضع جانبًا - ولو من أجل الجدل - مسائل الحرية وحقوق الإنسان في بلادنا، ولنقف أمام نموذجهم الغربي وأمام موقفهم هم مما يحدث في ذلك النموذج فيما يتعلق بحرية الفكر والبحث أو تطبيقات حقوق الإنسان.

نشرت الصحف وعدد من وسائل الإعلام صبيحة ٣١ من أكتوبر ۱۹۹۸م خبرًا تحت عنوان: «القضاء الألماني يلاحق لويان بتهمة اللاسامية»، وذلك لقوله: «إذا أخذتم كتابًا من ألف صفحة عن الحرب العالمية الثانية، فإن معسكرات الاعتقال تحتل صفحتين، وغرف الغاز ١٠ إلى ١٥ سطراً، وهذا يسمى تفصيلاً».

اعتبرت هذه الجمل أو هذا الرأي من قبل الادعاء العام من المحرمات، وطالب له بعقوبة تتراوح بين التغريم المادي والسجن خمس سنوات «لتقليله علنًا من شأن المحرقة» وصوت البرلمان الأوروبي بعد ذلك وبناء على الادعاء الألماني برفع الحصانة البرلمانية عن لوبان حتى يحاكم قضائيًا.

 قبل مناقشة هذه الحادثة البسيطة بحد ذاتها، والخطيرة جداً بنظر الديمقراطية الألمانية، بل بنظر الديمقراطية الغربية بلا استثناء نقول إن هذه ليست القضية الأولى، وقد سبقتها قضية جارودي التي كانت في الاتجاه نفسه، وبناء على الأرضية نفسها، وإن مسألة حظر البحث في موضوع المحرقة حتى لو كان ذا صفة بحثية تاريخية موضوعية في رسالة جامعية غير معدة للنشر، أصبح عرفًا وقانونًا في الغرب إذا لم يصب في الموقف الرسمي اليهودي الصهيوني والموقف الرسمي الغربي، أو إذا جاء بوقائع تخالف الرقم الرسمي للضحايا.

العبرة هنا أن نلحظ أن الحرية الفكرية والبحثية ليست مطلقة في الغرب كما يقدمها أو يطالب بها، أولئك البعض عندنا الآن، ويشجعهم على ذلك ويساندهم إعلام عالمي إذا ما طالهم قانون أو هاجمهم لسان.

 السؤال كيف يستطيع أولئك ألا يتركوا خطًا أحمر واحدًا للحرية الفكرية في بلادنا لكنهم يقبلون بالخطوط الحمر التي توضع لحرية الفكر والبحث العلمي (التاريخي) في الغرب بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالمحرقة والمؤسسات الصهيونية؟

أفلا يشكل فضيحة فعلية تأييدهم أو سكوتهم عن محاكمة تصل مدة العقوبة فيها إلى خمس سنوات لرأي - بغض النظر عن قائله - يصف «المحرقة» بتفصيل في التاريخ من حيث موقعها مقارنة بأحداث كبرى وقعت في الآن نفسه ولا يقبلون بمنع كتاب يمس بالسوء والأذى مقدسات المسلمين وعقيدة الإسلام؟

 إذا كان مبدأهم أن تكون الحرية بلا قيد يقيدها فلنسمع رأيهم بما يقيمه الغرب نموذجهم من قيود في وجهها إذا كان الأمر يتعلق «بالمحرقة»، أو بكل ما يمس المؤسسة الصهيونية، وبالمناسبة لقد شنت حملة لا هوادة فيها ضد بوب دول – المرشح الجمهوري ضد كلينتون في الانتخابات الرئاسية السابقة - عندما قال: إن هوليوود أساس الفساد في أمريكا، فاعتبر قوله هذا تحريضًا ضد السامية لأن اليهود يسيطرون على هوليوود، مما اضطره إلى سحب كلامه والاعتذار، والأمثلة كثيرة من هذا النوع للخطوط الحمر الموضوعة للحرية الفكرية والسياسية في الغرب، وما يمارس من ألوان الإرهاب بحق من يتعداها ..

الفارق ليس بين حرية مطلقة وحرية مقيدة، وإنما بين الخطوط الحمر، أو التقييد الموضوعي للحرية هناك، والخطوط الحمر والتقييد الموضوع للحرية هنا.

وإذا قال قائل إن مجال الحرية الفكرية هناك سيظل أوسع من مجال الحرية الفكرية هنا، فقد يقدم حجة قوية نسبيًا بقدر نسبية اتساع الخط الأحمر الموضوع في الغرب. أي بقدر نسبية النفوذ الصهيوني وأفعاله ونشاطاته وانتشاره في الغرب، فإذا كان هذا الأخير مستفحلاً ومنتشرًا، فهذا يعني أن مجال الحرية سيضيق، ويضيق بالضرورة قدر استفحاله وانتشاره، لذلك لا يقللن أحد من خطورة ما هو مفروض من محرمات مع الديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب، ولا يقدمن أحد ذلك النموذج بتلك الصورة الوردية الموهومة والتي تلطخ ثوبها الأبيض الناصع، تلك البقعة السوداء المتسعة يومًا بعد يوم.

 وبالمناسبة لو قبلنا بالنموذج الغربي فسينتهي أصحابه عندنا بوضع الخطوط الحمر علينا فيما يتعلق «بالمحرقة» وأخواتها، وهذا أمر يحتمه ذلك النموذج لا محالة. 

والخلاصة أن الإشكال الذي يجب أن يكون عندنا من أجل أن تحقق مبادئ الإسلام فيما يتعلق بحرية الفكر والبحث العلمي (بما في ذلك التاريخي) وبحقوق الإنسان وكرامته ليس الخيار بين حرية مطلقة لا حد يحدها، وإلا فلا، وإنما بين حدود الخطوط الحمر التي لا بد منها ولا بد من التوافق عليها حتى توسع في مجال حرية الفكر والبحث من بعد ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .

الرابط المختصر :