; الحرية الكاذبة الخاطئة | مجلة المجتمع

العنوان الحرية الكاذبة الخاطئة

الكاتب المستشار سالم البهنساوي

تاريخ النشر الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

مشاهدات 13

نشر في العدد 1177

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

الحرية في المفهوم الأوربي تعني تحرر أفراد الشعب من مظالم القرون الوسطى حيث تحالف البابوات مع الحكام على استعباد الشعوب حتى كانت المحاكم الدينية تحقق في مدى ولاء الأفراد للكنيسة والحاكم، وفي سبيل ذلك تنقب في قلوب الناس لتعلم ما فيها.

وهذا الحكم الديني المسمى بالحكومة الدينية لم يكن له وجود في المجتمعات العربية والإسلامية؛ حيث جاء الإسلام ليرفع عن الناس هذه المظالم، وفي هذا قال الله تعالى عن الرسالة والرسول: ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: ١٥٧).

ولهذا عندما طالب معاذ بن جبل معاقبة المنافقين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأعلم ما فيها» وفي رواية صحيح مسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس».

لقد وازنت أوربا بين الحرية المطلوبة للشعب والسلطة المطلوبة للحاكم فانتهت إلى النظام الديمقراطي والذي قيد سلطة الحاكم بجعل السيادة للأمة في حدود القانون، وقيد الحرية بأن وضع لها ضوابط وقيود منها ما يتعلق بحقوق الله، ومنها ما يتعلق بمصلحة الناس وحقوق الحاكم.

ولكن بعض الأشخاص في العالم العربي والإسلامي وهم قلة تعد على الأصابع، قد فتحت لهم بعض الصحف الأبواب لحرية كاذبة خاطئة تخولهم نقد القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية تحت مظنة أن النقد موجه للخطاب الديني وليس للنص المقدس، أو تحت زعم أن الحركات الإسلامية قد انحرفت في فهم النص الديني وتريد فرض فهمها على الأمة، وهذا نوع من الإرهاب الفكري من حقهم التصدي له.

ولن نختلف مع العقلاء من المثقفين إذا ما عرضنا النقد الذي نشرته هذه القلة وخرجت فيه على إجماع الأمة الإسلامية.

لن نختلف إذا ما عرضنا ما كتبوه على صريح النصوص الدينية ليتضح ما إذا كان النقد موجهًا إلى النص ذاته أم إلى فهم محرف للدين كما يزعمون.

١- إن أقرب نقد للنص القرآني لعصرنا هذا ما ورد في كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي كتبه طه حسين حيث ادعى أن ورود قصة إبراهيم وإسماعيل في القرآن والتوراة ليس دليلًا على وجودهما الفعلي في الجزيرة العربية.

وقد أجمع علماء المسلمين أن هذا تكذيب لما ورد في القرآن الكريم، ولهذا حاول صاحب الكتاب التوبة بإصدار كتابه «على هامش السيرة» الذي تناول بناء سيدنا إبراهيم لقواعد البيت بمساعدة ابنه نبي الله إسماعيل، وتناول حفر بئر زمزم كمدخل للسيرة النبوية التي تناولها الكتاب.

وفي فترة هيمنة الفكر الشيوعي على الإعلام في بعض البلاد العربية نشرت قصة «أولاد حارتنا» للكاتب نجيب محفوظ وفيها ما يفيد انتهاء عصر الدين والألوهية وبداية عصر العلم.

وفيها الكذب على سيدنا عيسى بادعاء أنه تزوج من مريم المجدلية ولم يستطع معاشرتها فتركها تزني، ولقد عارض الأزهر هذه الرواية وقبل صاحبها ذلك، لكن بعد سقوط الإلحاد الشيوعي سعى بعضهم إلى نشرها رغم عدم الحصول على موافقة من صاحبها، وكل ذلك تحت ستار إحياء عصر التنوير.

والجدير بالذكر أن الكاتب اليوناني نشر قصة أكثر تهذيبًا من هذه بعنوان «غواية المسيح الأخيرة» ادعى فيها أن السيد المسيح تزوج من مريم المجدلية واكتفى بالزواج حيث شغله عن رسالته وليس فيها الافتراء الآخر عن زنا السيدة مريم المجدلية، ولما عرضت الرواية كفيلم سينمائي في أوربا قامت المظاهرات ضد الفيلم فتم منعه ولم نجد اعتراضًا من المثقفين الأوربيين على مصادرة الفيلم، بينما نجد فلول اليسار العربي يعترضون اليوم على قرار جمال عبد الناصر بمصادرة رواية «أولاد حارتنا» وقد كانوا من قبل يرفعونه إلى صفوف الآلهة حتى كتب شاعرهم عند موته «قتلوك يا آخر الأنبياء».

3- ثم ظهر الغراب الأسود الهندي سلمان رشدي والذي تجنس بالجنسية البريطانية ونشر كتابه «آيات شيطانية» سب فيه النبي صلى الله عليه وسلم وطعن في زوجاته.

فدافع عنه خصوم الإسلام تحت مقولة تشجيع البحث العلمي وحرية هذا البحث، ولا يخفى على الجاهلين أن الكتاب ليس فيه سوى السب والقذف في الأعراض والكذب والافتراء.

٤- ثم جاءت نسرين البنغالية لتقلد الغراب الأسود ولتحظى بما ناله من الأموال والشهرة والحماية من بعض رؤساء دول أوربية لم يجدوا من يلومهم من المسلمين، بل لم يجدوا من يوقف ضخ الأموال تحت أقدامهم، فأعلنت أن القرآن الكريم فيه خطأ بين بإسناد القوامة للرجل والفوارق في الميراث بين الرجل والمرأة وبسماحه للرجل بالطلاق، وأصبحت هذه المفتريات لدى بعض الكتاب مادة تنشر في الصحف تحت مقولة حرية الرأي والبحث.

٥- إن الشهرة والمكاسب الدنيوية والحماية التي ينالها كل من طعن في القرآن الكريم والسنة النبوية أغرت نصر أبو زيد المدرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة للطعن في القرآن الكريم والسنة النبوية وأن يجعل هذا الطعن مقررًا دراسيًّا يتعلمه الطلاب جبرًا عنهم، فأصدر كتابيه «مفهوم النص» و«نقد الخطاب الديني» زعم فيهما أن القرآن الكريم نص بشري، وأن السنة النبوية ليست وحيًا من الله، وبالتالي ليست تشريعًا ملزمًا.

واستخدم في هذا عبارات توهم أنه يعني بنقده فهم العلماء للنص كما زعم في كتابه الإمام الشافعي، وكما ورد في كتاب نقد الخطاب الديني بقوله: «النص منذ لحظة نزوله الأولى مع قراءة النبي له لحظة الوحي تحول من كونه نصًّا إلهيًّا وصار فهمًا إنسانيًّا».

ولكن يكشف هذه الحيلة إنكاره الآيات القرآنية الخاصة بالمواريث والتي لا تحمل أي تأويل، وأنكر الآيات القرآنية الخاصة بالجن والملائكة والعرش والكرسي واللوح المحفوظ ومشاهد القيامة والجنة والنار، وزعم أن هذه تمثل الأساطير التي كانت لدى العرب عند نزول القرآن الكريم، ولهذا يجب أن تفهم نصوصها القرآنية كما يفهم الشعر العربي؛ قال في ذلك: «القرآن الكريم ظاهرة اجتماعية عربية تمثل صورة للبيئة العربية وقت البعثة، وأنه صناعة بشرية يجب أن تدرس كأي قصيدة شعرية للمتنبي».

ومن نكد الدنيا على الحرية والأحرار أن يسارع بعض اليساريين بالدفاع عن هذه الهرطقات تحت ستار الدفاع عن الحرية، وأن يصر على انحرافه وضلاله البين، وأن يتباهى كما نشرت له الصحف يوم 29/ 8/ 1995م أنه تلقى دعوات من جامعات كندا وألمانيا وهولندا وأمريكا وفرنسا للعمل في التدريس بها لأنه صاحب فكر وباحث عالمي!

6- إنه من خلط الأوراق أن يهادن الكتاب السلطات التي تستبيح كرامة الشعوب وتهرول تحت أقدام إسرائيل مع إعلانها القدس عاصمة لها إلى الأبد، ثم تكن شجاعتهم في نشر مساوئ الخلفاء كما صورتها كتب التاريخ التي تحوي الصحيح والكاذب من الأخبار، وكل ذلك للتوصل إلى عدم صلاحية التشريع الإسلامي لعصرنا، وهم لا يجهلون أن عبث كثير من الحكام بالديمقراطية وممارسة القتل والقمع تحت مظلتها وباسمها لم يدفع هؤلاء الكتاب للمطالبة بعدم صلاحية النظام الديمقراطي.

7- ومن دواعي الأسى أن يجهل نفر قليل جدًّا من أتباع الحركات الإسلامية مفهوم الحرية والديمقراطية، فيعلن الحرب عليها، وهما الرئتان التي يتنفس بهما هو ومن معه من الإسلاميين.

ومن المؤسف أن يظن بعض الإخوة أن هذا الموقف من الحرية والديمقراطية هو المنهج الثابت للحركة الإسلامية بكل أشكالها، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الحرية وحقوق المرأة وحقوق الرقيق لم تنل العناية في الشريعة الإسلامية، بينما اهتم بها الفكر والقانون الأوربي اهتمامًا كبيرًا.

تحرير النزاع

إن الإنسان لا يعرف الحرية البهيمية التي لا يحدها شرع ولا قانون ولا حق للغير، والذين يدافعون عن هرطقات سلمان ونسرين وسواهما ممن أساء وبربر، ولا يجهلون أن الفكر الشيوعي وكل فكر إلحادي هو الذي يبيح حرية الطعن في الله ورسله وكتبه.

أما الديمقراطيات الغربية فلا تسمح بحرية الاعتداء على الآخرين ولا تبيح الطعن في العقائد، وذلك على الرغم مما عانته الشعوب الأوربية من مظالم رجال الدين، مما أدى إلى فصل الدين عن الدولة أو عن الدنيا.

فقانون ديسمبر ١٩٠٥م الصادر في فرنسا لفصل الدين عن الدولة نص في المادة الأولى على كفالة حرية الضمير وممارسة الشعائر الدينية بشرط مراعاة القيود التي يتطلبها النظام العام. والمحكمة العليا في أمريكا ألغت قرارًا لفصل التلاميذ الذين رفضوا أداء تحية العلم الأمريكي عندما تمسكوا بنص في التوراة يأمرهم بذلك، والنص هو: «لا تصنع لنفسك صنمًا منحوتًا ولن تنحني للأصنام ولن تخدمها» (سفر الخروج ٢٠/ 4 و5)، وقد حكمت المحكمة بذلك على الرغم من أنها كانت تستطيع تفسير النص وفهمه طبقًا لدلالته الظاهرة إلى الأصنام التي تعبد من دون الله، والعلم ليس كذلك.

ومن قيود الحرية وضوابطها في أمريكا القانون الصادر ١٩٤٠م والمعروف بقانون «سميث»، والذي يحظر حرية نشر الفكر الشيوعي، وذلك بتحريمه التحريض على الإطاحة بالحكومة بالقوة.

ولهذا أمر الكونجرس الأمريكي لجان الولاء التي تختص بمناقشة المشكوك في انتمائهم إلى الشيوعية ومعرفة عقائدهم ومعاقبتهم.

ولا جدال أن الحريات الواردة في الدساتير وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليست بغير قيود ولا ضوابط، فهي تضع قيودًا لحماية العقيدة وأمن الدولة ولحماية الأفراد أنفسهم من الطعن والتجريح، والنظام الشيوعي الذي كان ينتسب إليه أكثر من يستترون في الحرية للطعن في الإسلام قد تبنى نص المادة 126 من الدستور السوفييتي، والتي تقيد جميع الحريات بما يخدم العقيدة الشيوعية.

الرابط المختصر :