العنوان الحكومة التركية الجديدة والسعي لدعوة التعصب القومي لدى الأتراك
الكاتب محمد العباسي
تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
مشاهدات 9
نشر في العدد 1171
نشر في الصفحة 29
الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
أثار تشكيل الحكومة التركية الجديدة التي أعلنت في الأسبوع الماضي ردود فعل واسعة النطاق لدى المراقبين الذين أكدوا على أن رئيسة الوزراء السيدة تانسو تشيللر تحاول البقاء في السلطة بأي ثمن مهما كان.
فتشيللر منذ سقوط حكومتها رقم (٥٠) في تاريخ الجمهورية التركية بعد انسحاب شريكها حزب الشعب الجمهوري منها، وتكليفها من قبل سلیمان دميريل -رئيس الجمهورية- بتشكيل الحكومة الجديدة رقم (٥١)، وهي تسعى بجهود حثيثة، مضحية بكل شيء في سبيل الاستمرار على سدة الحكم في بلادها، وعلى الرغم من كونها في بداية مناقشاتها ومشاوراتها مع زعماء الأحزاب التركية الأخرى من أجل تشكيل الحكومة الجديدة بدت متصلبة تجاه العديد من القضايا والمشاكل والشروط التي وضعوها، إلا أنها في نهاية الأمر بدأت في الرضوخ لكل شروط وطلبات المعارضين لها بهدف استقطابهم وضمهم إلى الجناح المؤيد لها.
فحينما بدأت تانسو تشيللر اتصالاتها مع رؤساء الأحزاب للتشاور معهم حول شكل الحكومة الجديدة، ومدى إمكانية دعمهم لها في البرلمان، أكدت لهم بأنها لم تأت للحديث عن حكومة ائتلافية مشتركة، إنما جاءت بهدف التشاور حول حكومة أقلية طالبة دعمهم لها عند التصويت عليها بالثقة في البرلمان.
وأعلنت جميع الأحزاب الممثلة في مجلس الشعب التركي موقفها من طلب السيدة تشيللر حيث اشترط حزب الوطن الأم بزعامة مسعود يلماظ تحديد موعد للانتخابات المبكرة، بينما رفض حزب الشعب الجمهوري بزعامة دينز بيقال -شريكها السابق في الحكومة- تقديم أي دعم لها، في حين أعلن حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان رفضه التام لكل الصيغ المطروحة مطالبًا بإجراء انتخابات فورية للخروج من الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد بسبب الفراغ الوزاري وتعطل الحياة الإدارية في مختلف أجهزة الدولة، أما ألب أرسلان توركش زعيم حزب الحركة القومية - فقد أعلن عن استعداده لدراسة كل الصيغ المطروحة، مشيرًا إلى عدم وجود فرق بين إجراء الانتخابات في موعدها الطبيعي خريف ١٩٩٦م، أو الدعوة إليها مبكرًا، وهو نفس ما أيده بولنت أجاويد -زعيم حزب اليسار الديمقراطي - الذي أعلن تأييده لتشيللر شرط إصدار قانون انتخابي جديد وحل مشاكل العمال.
ومع فشل تشيللر في التوصل إلى اتفاق مع مسعود يلماظ - زعيم حزب الوطن الأم أو حتى تقريب وجهات نظرهما حول تشكيل الحكومة الجديدة، بدأت تعي جيدًا تصريحات بولنت أجاويد التي أعلن فيها أنه يمكن أن يكون حزبه وحزب الحركة القومية بديلاً جديدًا للوطن الأم إذا ما تعسرت المفاوضات الدائرة معه الآن، مع تاکیده بأنه سيمتنع عن التصويت داخل المجلس في جلسة الاقتراع بالثقة على الحكومة الجديدة إذا ما تم الائتلاف بين الطرفين "الطريق القويم" و"الوطن الأم"، وهنا بدأت السيدة تانسو تشيللر في التقارب أكثر مع زعيمي الحزبين اليسار الديمقراطي (۱۰) مقاعد في البرلمان والحركة القومية (۱۷) مقعدًا، وتوالت لقاءاتها معهما بهدف ضمان دعمهما لها في البرلمان، ورغم الشروط القاسية التي وضعاها، إلا أن تشيللر وافقت عليها جميعًا، وبدأت في قبول ما سبق، وأن رفضته من قبل، خاصة بالنسبة لمسألة حل مشاكل العمال التي اشترطها أجاويد، وتوركش والتي ستكلف خزانة الدولة ١٠٧ تيريليونات ليرة تركية، وهو ما سبق وأن طالبها به دنیز بیقال . زعيم حزب الشعب الجمهوري شريكها في الحكومة السابقة، ورفضته بشكل قاطع بالإضافة إلى قيامها بتوقيع بروتوكول سري مع حزب الحركة القومية يقضي بتعيين ١٥٠٠ من كوادره في مراكزها من داخل وزارات الدولة المختلفة وخاصة وزارة الداخلية.
ويؤكد المراقبون أن تقارب تشيللر مع ألب ارسلان توركش لم يأت مصادفة، وإنما جاء وفقًا لرغبة القيادات العسكرية التركية التي ترى ضرورة إعطاء حزب الحركة القومية دفعة قوية لتزداد شعبيته أكثر خاصة وأنه يعتبر المنافس الأول لحزب الرفاه في استقطاب الأعضاء الجدد، وذلك بهدف إعطاء الفرص لتزايد نمو الشعور القومي لدى الجماهير التركية عوضًا عن الشعور الإسلامي خلال المرحلة القادمة التي تواجه فيها تركيا الكثير من المشاكل على الساحتين الداخلية والخارجية، والتي تحتاج في مواجهتها لقوة تزايد الشعور القومي لدى الأتراك، خاصة بالنسبة للمشكلة الكردية ومحاولة إقامة دولة لهم في شمال العراق أولا، يدرك العسكريون الأتراك أنها ستكون مجرد مقدمة لاقتطاع جنوب شرق تركيا أيضا لنفس الهدف، إضافة إلى مشاكل تركيا مع اليونان وتصاعد الحس القومي والتعصب لدى اليونانيين، ولذلك كان التوجه ناحية حزب الحركة القومية وزعيمه ألب أرسلان تورکش بهدف إعطائه الفرصة للظهور بمظهر صديق العمال الذي يسعى لتحقيق مصالحهم، وإحراز المكاسب لهم حتى يمكنه استقطاب أصواتهم في الانتخابات بدلا من حزب الرفاه، إضافة إلى نمو الجناح القومي داخل حزب الطريق القويم نفسه وازدياد قوته، حتى أن السيدة تشيللر استعانت بعدد من أعضائه في حكومتها الجديدة، وعلى رأسهم السفير جوشكن كيرجا في منصب وزير الخارجية، وهو من المحافظين القوميين المعروفين بتشددهم، حيث يرفض ادعاءات اتحاد البرلمانات الأوروبية بأن تركيا دولة غير ديمقراطية، مؤكدا أن رفض دخول تركيا الوحدة الجمركية لن يفقد تركيا شيئا، بل إن الاتحاد الأوروبي هو الخاسر الأكبر لذلك، كما يرى أن الذين يتبادلون عبارات ضرورة احترام وحدة التراب العراقي، هم الذين يقومون بتقسيم العراق، ومن تناقضاته الغريبة توجهه القوي «لإسرائيل»، وكراهيته الشديدة للعرب، ورفضه التام للهيمنة الأمريكية.
ويرى كثير من المراقبين أن تعيين كيرجا في منصب حساس كمنصب وزير الخارجية والتقارب مع توركش الذي يرون فيه حاكم تركيا الفعلي، يعد نوعًا من التعصب القومي التركي في مواجهة الضغوط الخارجية التي تعاني منها تركيا، خاصة وأن جدول أعمال تركيا في السياسة الخارجية مليء بالكثير من الموضوعات ذات الحساسية البالغة، والتي تحتاج إلى كل هذا التعصب القومي مثل العلاقات مع اليونان، ودخول الوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، والوضع في شمال العراق وقوة المطرقة، وخط أنبوب البترول الأذربيجاني والمشكلة القبرصية، وكلها موضوعات شائكة لكيرجا فيها مواقف متصلبة وبالتالي سيمكن لتركيا من خلال أسلوب كيرجا مع تنامي الحس القومي داخليًّا تحقيق بعض مطالبها، والمكاسب التي طالما سعت إليها منذ فترة، ولم تحقق فيها نتيجة إيجابية تذكر.
ويرى المراقبون أنه في حالة نجاح تياري القوميين واليمينيين المحافظين في حكم تركيا، فإن ذلك يعتبر عودة للهيبة القومية التركية في وقت تركيا فيه في أمس الحاجة إليه داخليًّا وإقليميًّا.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل